الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا قَضى مُوسى الأجَلَ وسارَ بِأهْلِهِ آنَسَ مِن جانِبِ الطُّورِ نارًا قالَ لِأهْلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نارًا لَعَلِّي آتِيكم مِنها بِخَبَرٍ أوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكم تَصْطَلُونَ﴾ ﴿فَلَمّا أتاها نُودِيَ مِن شاطِئِ الوادِي الأيْمَنِ في البُقْعَةِ المُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أنْ يامُوسى إنِّي أنا اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ ﴿وأنْ ألْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأنَّها جانٌّ ولّى مُدْبِرًا ولَمْ يُعَقِّبْ يامُوسى أقْبِلْ ولا تَخَفْ إنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ﴾ ﴿اسْلُكْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِن غَيْرِ سُوءٍ واضْمُمْ إلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِن رَبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ «رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”تَزَوَّجَ صُغْراهُما، وقَضى أوْفاهُما» “ أيْ قَضى أوْفى الأجَلَيْنِ. وقالَ مُجاهِدٌ: قَضى الأجَلَ عَشْرَ سِنِينَ، ومَكَثَ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَهُ عَشْرَ سِنِينَ، وقَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا قَضى مُوسى الأجَلَ وسارَ بِأهْلِهِ﴾ (p-٢٠٩)﴿آنَسَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الإيناسَ حَصَلَ عَقِيبَ مَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ، ولا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ حَصَلَ عَقِيبَ أحَدِهِما، وهو قَضاءُ الأجَلِ، فَبَطَلَ ما قالَهُ القاضِي مِن أنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وقَوْلُهُ: ﴿وسارَ بِأهْلِهِ﴾ لَيْسَ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ خَرَجَ مُنْفَرِدًا مَعَها وقَوْلُهُ: ﴿امْكُثُوا﴾ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى الجَمْعِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنِّي آنَسْتُ نارًا﴾ فَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ في سُورَةِ طه والنَّمْلِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿لَعَلِّي آتِيكم مِنها بِخَبَرٍ أوْ جَذْوَةٍ مِنَ النّارِ لَعَلَّكم تَصْطَلُونَ﴾ فَفِيهِ أبْحاثٌ: الأوَّلُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: الجَذْوَةُ بِاللُّغاتِ الثَّلاثِ، وقَدْ قُرِئَ بِهِنَّ جَمِيعًا، وهو العُودُ الغَلِيظُ كانَتْ في رَأْسِهِ نارٌ أوْ لَمْ تَكُنْ، قالَ الزَّجّاجُ: الجَذْوَةُ القِطْعَةُ الغَلِيظَةُ مِنَ الحَطَبِ. الثّانِي: قَدْ حَكَيْنا في سُورَةِ طه: إنَّهُ أظْلَمَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ في الصَّحْراءِ، وهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَرَّقَتْ ماشِيَتَهُ وضَلَّ وأصابَهم مَطَرٌ، فَوَجَدُوا بَرْدًا شَدِيدًا، فَعِنْدَهُ أبْصَرَ نارًا بَعِيدَةً، فَسارَ إلَيْها يَطْلُبُ مَن يَدُلُّهُ عَلى الطَّرِيقِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿آتِيكم مِنها بِخَبَرٍ﴾ أوْ آتِيكم مِن هَذِهِ النّارِ بِجَذْوَةٍ مِنَ الحَطَبِ لَعَلَّكم تَصْطَلُونَ، وفي قَوْلِهِ: ﴿لَعَلِّي آتِيكم مِنها بِخَبَرٍ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ ضَلَّ وفي قَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكم تَصْطَلُونَ﴾ دَلالَةٌ عَلى البَرْدِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا أتاها نُودِيَ مِن شاطِئِ الوادِي الأيْمَنِ في البُقْعَةِ المُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أنْ يامُوسى إنِّي أنا اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ فاعْلَمْ أنَّ شاطِئَ الوادِي جانِبُهُ، وجاءَ النِّداءُ عَنْ يَمِينِ مُوسى مِن شاطِئِ الوادِي مِن قِبَلِ الشَّجَرَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿مِنَ الشَّجَرَةِ﴾ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿مِن شاطِئِ الوادِي﴾ بَدَلُ الِاشْتِمالِ؛ لِأنَّ الشَّجَرَةَ كانَتْ نابِتَةً عَلى الشّاطِئِ، كَقَوْلِهِ: ﴿لَجَعَلْنا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ﴾ (الزُّخْرُفِ: ٣٣) وإنَّما وصَفَ البُقْعَةَ بِكَوْنِها مُبارَكَةً؛ لِأنَّهُ حَصَلَ فِيها ابْتِداءُ الرِّسالَةِ وتَكْلِيمُ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ. * * * وهَهُنا مَسائِلُ: المسألة الأُولى: احْتَجَّتِ المُعْتَزِلَةُ عَلى قَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ تَعالى مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ يَخْلُقُهُ في جِسْمٍ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ الشَّجَرَةِ﴾ فَإنَّ هَذا صَرِيحٌ في أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ سَمِعَ النِّداءَ مِنَ الشَّجَرَةِ، والمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ النِّداءِ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ، وهو تَعالى مُنَزَّهٌ أنْ يَكُونَ في جِسْمٍ، فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى إنَّما يَتَكَلَّمُ بِخَلْقِ الكَلامِ في جِسْمٍ. أجابَ القائِلُونَ بِقِدَمِ الكَلامِ، فَقالُوا لَنا مَذْهَبانِ: الأوَّلُ: قَوْلُ أبِي مَنصُورٍ الماتُرِيدِيِّ وأئِمَّةِ ما وراءَ النَّهْرِ وهو: أنَّ الكَلامَ القَدِيمَ القائِمَ بِذاتِ اللَّهِ تَعالى غَيْرُ مَسْمُوعٍ، إنَّما المَسْمُوعُ هو الصَّوْتُ والحَرْفُ، وذَلِكَ كانَ مَخْلُوقًا في الشَّجَرَةِ ومَسْمُوعًا مِنها، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ زالَ السُّؤالُ. الثّانِي: قَوْلُ أبِي الحَسَنِ الأشْعَرِيِّ وهو: أنَّ الكَلامَ الَّذِي لَيْسَ بِحَرْفٍ ولا صَوْتٍ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا، كَما أنَّ الذّاتَ الَّتِي لَيْسَتْ بِجِسْمٍ ولا عَرَضٍ يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ مَرْئِيَّةً، فَعَلى هَذا القَوْلِ لا يَبْعُدُ أنَّهُ سَمِعَ الحَرْفَ والصَّوْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وسَمِعَ الكَلامَ القَدِيمَ مِنَ اللَّهِ تَعالى لا مِنَ الشَّجَرَةِ، فَلا مُنافاةَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ، واحْتَجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بِأنَّ مَحَلَّ قَوْلِهِ: ﴿إنِّي أنا اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ لَوْ كانَ هو الشَّجَرَةَ لَكانَ قَدْ قالَتِ الشَّجَرَةُ: إنِّي أنا اللَّهُ، والمُعْتَزِلَةُ أجابُوا بِأنَّ هَذا إنَّما يَلْزَمُ لَوْ كانَ المُتَكَلِّمُ بِالكَلامِ هو مَحَلُّ الكَلامِ لا فاعِلُهُ، وهَذا هو أصْلُ المسألة، أجابَ أهْلُ السُّنَّةِ بِأنَّ الذِّراعَ المَسْمُومَ قالَ: لا تَأْكُلْ مِنِّي، فَإنِّي مَسْمُومٌ، فَفاعِلُ ذَلِكَ الكَلامِ هو اللَّهُ تَعالى، فَإنْ كانَ المُتَكَلِّمُ بِالكَلامِ هو فاعِلُ ذَلِكَ الكَلامِ لَزِمَ أنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ قالَ: لا تَأْكُلْ مِنِّي فَإنِّي مَسْمُومٌ، وهَذا باطِلٌ وإنْ كانَ المُتَكَلِّمُ هو مَحَلُّ الكَلامِ لَزِمَ أنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ قَدْ قالَتْ: إنِّي أنا اللَّهُ، وكُلُّ ذَلِكَ باطِلٌ. * * * المسألة الثّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى خَلَقَ فِيهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأنَّ ذَلِكَ الكَلامَ كَلامُ اللَّهِ، والمُعْتَزِلَةُ لا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ، قالُوا: لِأنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أنَّ ذَلِكَ الكَلامَ كَلامُ اللَّهِ لَوَجَبَ أنْ يَعْلَمَ بِالضَّرُورَةِ وُجُودَ اللَّهِ تَعالى (p-٢١٠)لِأنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ، والذّاتُ مَعْلُومَةٌ بِالنَّظَرِ، ولَوْ عَلِمَ مُوسى أنَّهُ اللَّهُ تَعالى بِالضَّرُورَةِ لَزالَ التَّكْلِيفُ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا أسْمَعَهُ الكَلامَ الَّذِي لَيْسَ بِحَرْفٍ ولا صَوْتٍ عَرَفَ أنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الكَلامِ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ كَلامَ الخَلْقِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّ ظُهُورَ الكَلامِ مِنَ الشَّجَرَةِ كَظُهُورِ التَّسْبِيحِ مِنَ الحَصى في أنَّهُ يَعْلَمُ أنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُعْجِزُ هو أنَّهُ رَأى النّارَ في الشَّجَرَةِ الرَّطْبَةِ، فَعَلِمَ أنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى الجَمْعِ بَيْنَ النّارِ وبَيْنَ خُضْرَةِ الشَّجَرَةِ إلّا اللَّهُ تَعالى. ويُحْتَمَلُ أنْ يَصِحَّ ما يُرْوى أنَّ إبْلِيسَ لَمّا قالَ لَهُ: كَيْفَ عَرَفْتَ أنَّهُ نِداءُ اللَّهِ تَعالى ؟ قالَ: لِأنِّي سَمِعْتُهُ بِجَمِيعِ أجَزائِي، فَلَمّا وجَدَ حِسَّ السَّمْعِ مِن جَمِيعِ الأجْزاءِ عَلِمَ أنَّ ذَلِكَ مِمّا لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أحَدٌ سِوى اللَّهِ تَعالى، وهَذا إنَّما يَصِحُّ عَلى مَذْهَبِنا حَيْثُ قُلْنا: البَيِّنَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا. * * * المسألة الثّالِثَةُ: قالَ في سُورَةِ النَّمْلِ ﴿نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَن في النّارِ ومَن حَوْلَها﴾ [النمل: ٨] وقالَ هَهُنا: ﴿إنِّي أنا اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ وقالَ في طه: ﴿نُودِيَ يامُوسى﴾ ﴿إنِّي أنا رَبُّكَ﴾ ( طه: ١١ - ١٢) ولا مُنافاةَ بَيْنَ هَذِهِ الأشْياءِ، فَهو تَعالى ذَكَرَ الكُلَّ إلّا أنَّهُ حَكى في كُلِّ سُورَةٍ بَعْضَ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ النِّداءُ. المسألة الرّابِعَةُ: قالَ الحَسَنُ إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ نُودِيَ نِداءَ الوَحْيِ لا نِداءَ الكَلامِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاسْتَمِعْ لِما يُوحى﴾ (طه: ١٣) قالَ الجُمْهُورُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى كَلَّمَهُ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا﴾ (النِّساءِ: ١٦٤) وسائِرُ الآياتِ، وأمّا الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الحَسَنُ فَضَعِيفٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاسْتَمِعْ لِما يُوحى﴾ لَمْ يَكُنْ بِالوَحْيِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ ذَلِكَ أيْضًا بِالوَحْيِ لانْتَهى آخِرُ الأمْرِ إلى كَلامٍ يَسْمَعُهُ المُكَلَّفُ لا بِالوَحْيِ، وإلّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، بَلِ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فاسْتَمِعْ لِما يُوحى﴾ وصِيَّتُهُ بِأنْ يَتَشَدَّدَ في الأُمُورِ الَّتِي تَصِلُ إلَيْهِ في مُسْتَقْبَلِ الزَّمانِ بِالوَحْيِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب