الباحث القرآني

المسألة الثّالِثَةُ: قالَ تَعالى: ﴿فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذا مِن شِيعَتِهِ وهَذا مِن عَدُوِّهِ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: قالَ: هَذا وهَذا، وهُما غائِبانِ عَلى وجْهِ الحِكايَةِ، أيْ وجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ، إذا نَظَرَ النّاظِرُ إلَيْهِما، قالَ: هَذا مِن شِيعَتِهِ، وهَذا مِن عَدِوِّهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقالَ مُقاتِلٌ: الرَّجُلانِ كانا كافِرَيْنِ، إلّا أنَّ أحَدَهُما مِن بَنِي إسْرائِيلَ، والآخَرُ مِنَ القِبْطِ، واحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ لَهُ في اليَوْمِ الثّانِي: ﴿إنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ (القَصَصِ: ١٨) والمَشْهُورُ أنَّ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ كانَ مُسْلِمًا؛ لِأنَّهُ لا يُقالُ فِيمَن يُخالِفُ الرَّجُلَ في دِينِهِ وطَرِيقِهِ: إنَّهُ مِن شِيعَتِهِ، وقِيلَ: إنَّ القِبْطِيَّ الَّذِي سَخَّرَ الإسْرائِيلِيَّ كانَ طَبّاخَ فِرْعَوْنَ، اسْتَسْخَرَهُ لِحَمْلِ الحَطَبِ إلى مَطْبَخِهِ، وقِيلَ: الرَّجُلانِ المُقْتَتِلانِ: أحَدُهُما السّامِرِيُّ وهو الَّذِي مِن شِيعَتِهِ، والآخَرُ طَبّاخُ فِرْعَوْنَ، واللَّهُ أعْلَمُ بِكَيْفِيَّةِ الحالِ، فاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلى الَّذِي مِن عَدُوِّهِ، أيْ سَألَهُ أنْ يُخَلِّصَهُ مِنهُ واسْتَنْصَرَهُ عَلَيْهِ، فَوَكَزَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، الوَكْزُ: الدَّفْعُ بِأطْرافِ الأصابِعِ، وقِيلَ بِجَمْعِ الكَفِّ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: (فَلَكَزَهُ مُوسى)، وقالَ بَعْضُهم: الوَكْزُ في الصَّدْرِ، واللَّكْزُ في الظَّهْرِ، وكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ شَدِيدَ البَطْشِ، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: فَوَكَزَهُ بِعَصاهُ، قالَ المُفَضَّلُ: هَذا غَلَطٌ؛ لِأنَّهُ لا يُقالُ: وكَزَهُ بِالعَصا ﴿فَقَضى عَلَيْهِ﴾ أيْ أماتَهُ وقَتَلَهُ. * * * المسألة الرّابِعَةُ: احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ مَن طَعَنَ في عِصْمَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ ذَلِكَ القِبْطِيَّ إمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ مُسْتَحِقَّ القَتْلِ أوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإنْ كانَ الأوَّلُ، فَلِمَ قالَ: ﴿هَذا مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ﴾ ولِمَ قالَ: ﴿رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ﴾ ولِمَ قالَ في سُورَةٍ أُخْرى ﴿فَعَلْتُها إذًا وأنا مِنَ الضّالِّينَ﴾ (الشُّعَراءِ: ٢٠) ؟ وإنْ كانَ الثّانِي -وهُوَ أنَّ ذَلِكَ القِبْطِيَّ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقَّ القَتْلِ- كانَ قَتْلُهُ مَعْصِيَةً وذَنْبًا. وثانِيها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وهَذا مِن عَدُوِّهِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ كافِرًا حَرْبِيًّا فَكانَ دَمُهُ مُباحًا فَلِمَ اسْتَغْفَرَ عَنْهُ، والِاسْتِغْفارُ عَنِ الفِعْلِ المُباحِ غَيْرُ جائِزٍ؛ لِأنَّهُ يُوهِمُ في المُباحِ كَوْنَهُ حَرامًا ؟ وثالِثُها: أنَّ الوَكْزَ لا يُقْصَدُ بِهِ القَتْلُ ظاهِرًا، فَكانَ ذَلِكَ القَتْلُ قَتْلَ خَطَأٍ، فَلِمَ اسْتَغْفَرَ مِنهُ ؟ والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ لِكُفْرِهِ مُباحَ الدَّمِ ؟ أمّا قَوْلُهُ: ﴿هَذا مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: لَعَلَّ اللَّهَ تَعالى، وإنْ أباحَ قَتْلَ الكافِرِ إلّا أنَّهُ قالَ: (p-٢٠١)الأوْلى تَأْخِيرُ قَتْلِهِمْ إلى زَمانٍ آخَرَ، فَلَمّا قَتَلَ فَقَدْ تَرَكَ ذَلِكَ المَندُوبَ، فَقَوْلُهُ: ﴿هَذا مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ﴾ مَعْناهُ: إقْدامِي عَلى تَرْكِ المَندُوبِ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ. وثانِيها: أنَّ قَوْلَهُ (هَذا) إشارَةٌ إلى عَمَلِ المَقْتُولِ لا إلى عَمَلِ نَفْسِهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿هَذا مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ﴾ أيْ عَمَلُ هَذا المَقْتُولِ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ، المُرادُ مِنهُ بَيانُ كَوْنِهِ مُخالِفًا لِلَّهِ تَعالى مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ. وثالِثُها: أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (هَذا) إشارَةً إلى المَقْتُولِ، يَعْنِي: أنَّهُ مِن جُنْدِ الشَّيْطانِ وحِزْبِهِ، يُقالُ: فُلانٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ، أيْ مِن أحْزابِهِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي﴾ فَعَلى نَهْجِ قَوْلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا﴾ (الأعْرافِ: ٢٣) والمُرادُ أحَدُ وجْهَيْنِ: إمّا عَلى سَبِيلِ الِانْقِطاعِ إلى اللَّهِ تَعالى والِاعْتِرافِ بِالتَّقْصِيرِ عَنِ القِيامِ بِحُقُوقِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ ذَنْبٌ قَطُّ، أوْ مِن حَيْثُ حَرَمَ نَفْسَهُ الثَّوابَ بِتَرْكِ المَندُوبِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فاغْفِرْ لِي﴾ أيْ فاغْفِرْ لِي تَرْكَ هَذا المَندُوبِ، وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ، وهو أنْ يَكُونَ المُرادُ: رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي حَيْثُ قَتَلْتُ هَذا المَلْعُونَ، فَإنَّ فِرْعَوْنَ لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ لَقَتَلَنِي بِهِ ﴿فاغْفِرْ لِي﴾ أيْ فاسْتُرْهُ عَلَيَّ ولا تُوصِلْ خَبَرَهُ إلى فِرْعَوْنَ ﴿فَغَفَرَ لَهُ﴾ أيْ سَتَرَهُ عَنِ الوُصُولِ إلى فِرْعَوْنَ، ويَدُلُّ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ أنَّهُ عَلى عَقِبِهِ، قالَ: ﴿رَبِّ بِما أنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ ولَوْ كانَتْ إعانَةُ المُؤْمِنِ هَهُنا سَبَبًا لِلْمَعْصِيَةِ لَما قالَ ذَلِكَ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿فَعَلْتُها إذًا وأنا مِنَ الضّالِّينَ﴾ فَلَمْ يَقُلْ: إنِّي صِرْتُ بِذَلِكَ ضالًّا، ولَكِنَّ فِرْعَوْنَ لَمّا ادَّعى أنَّهُ كانَ كافِرًا في حالِ القَتْلِ نَفى عَنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ كافِرًا في ذَلِكَ الوَقْتِ، واعْتَرَفَ بِأنَّهُ كانَ ضالًّا أيْ مُتَحَيِّرًا لا يَدْرِي ما يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَفْعَلَهُ وما يَدَّبَّرُ بِهِ في ذَلِكَ. أمّا قَوْلُهُ: إنْ كانَ كافِرًا حَرْبِيًّا، فَلِمَ اسْتَغْفَرَ عَنْ قَتْلِهِ ؟ قُلْنا: كَوْنُ الكافِرِ مُباحَ الدَّمِ أمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الشَّرائِعِ، فَلَعَلَّ قَتْلَهم كانَ حَرامًا في ذَلِكَ الوَقْتِ، أوْ إنْ كانَ مُباحًا لَكِنَّ الأوْلى تَرْكُهُ عَلى ما قَرَّرْنا. قَوْلُهُ: ذَلِكَ القَتْلُ كانَ قَتْلَ خَطَأٍ، قُلْنا: لا نُسَلِّمُ فَلَعَلَّ الرَّجُلَ كانَ ضَعِيفًا ومُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ في نِهايَةِ الشِّدَّةِ، فَوَكْزُهُ كانَ قاتِلًا قَطْعًا. ثُمَّ إنْ سَلَّمْنا ذَلِكَ ولَكِنْ لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُمْكِنُهُ أنْ يُخَلِّصَ الإسْرائِيلِيَّ مِن يَدِهِ بِدُونِ ذَلِكَ الوَكْزِ الَّذِي كانَ الأوْلى تَرْكَهُ، فَلِهَذا أقْدَمَ عَلى الِاسْتِغْفارِ، عَلى أنّا وإنْ سَلَّمْنا دَلالَةَ هَذِهِ الآيَةِ عَلى صُدُورِ المَعْصِيَةِ لَكِنّا بَيَّنّا أنَّهُ لا دَلِيلَ البَتَّةَ عَلى أنَّهُ كانَ رَسُولًا في ذَلِكَ الوَقْتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ صادِرًا مِنهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وذَلِكَ لا نِزاعَ فِيهِ. * * * المسألة الخامِسَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: الآيَةُ دَلَّتْ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَن نَسَبَ المَعاصِيَ إلى اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ﴿هَذا مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ﴾ فَنَسَبَ المَعْصِيَةَ إلى الشَّيْطانِ، فَلَوْ كانَتْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى لَكانَتْ مِنَ اللَّهِ لا مِنَ الشَّيْطانِ، وهو كَقَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿مِن بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي﴾ (يُوسُفَ: ١٠٠) وقَوْلِ صاحِبِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ﴾ (الكَهْفِ: ٦٣) . أمّا قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ بِما أنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ ظاهِرَهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ قالَ: إنَّكَ لَمّا أنْعَمْتَ عَلَيَّ بِهَذا الإنْعامِ، فَإنِّي لا أكُونُ مُعاوِنًا لِأحَدٍ مِنَ المُجْرِمِينَ، بَلْ أكُونُ مُعاوِنًا لِلْمُسْلِمِينَ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ ما أقْدَمَ عَلَيْهِ مِن إعانَةِ الإسْرائِيلِيِّ عَلى القِبْطِيِّ كانَ طاعَةً لا مَعْصِيَةً، إذْ لَوْ كانَتْ مَعْصِيَةً، لَنَزَلَ الكَلامُ مَنزِلَةَ ما إذا قِيلَ: إنَّكَ لَمّا أنْعَمْتَ عَلَيَّ بِقَبُولِ تَوْبَتِي عَنْ تِلْكَ المَعْصِيَةِ، فَإنِّي أكُونُ مُواظِبًا عَلى مِثْلِ تِلْكَ المَعْصِيَةِ. وثانِيها: قالَ القَفّالُ: كَأنَّهُ أقْسَمَ بِما أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أنْ لا يُظاهِرَ مُجْرِمًا، والباءُ لِلْقَسَمِ أيْ (p-٢٠٢)بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ. وثالِثُها: قالَ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ: إنَّهُ خَبَرٌ ومَعْناهُ الدُّعاءُ، كَأنَّهُ قالَ: فَلا تَجْعَلْنِي ظَهِيرًا، قالَ الفَرّاءُ، وفي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ: (فَلا تَجْعَلْنِي ظَهِيرًا) . واعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ دَلالَةً عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ مُعاوَنَةُ الظَّلَمَةِ والفَسَقَةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمْ يَسْتَثْنِ ولَمْ يَقُلْ: فَلَنْ أكُونَ ظَهِيرًا إنْ شاءَ اللَّهُ، فابْتُلِيَ بِهِ في اليَوْمِ الثّانِي، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ في اليَوْمِ الثّانِي تَرَكَ الإعانَةَ، وإنَّما خافَ مِنهُ ذَلِكَ العَدُوُّ، فَقالَ: ﴿إنْ تُرِيدُ إلّا أنْ تَكُونَ جَبّارًا في الأرْضِ﴾ (القَصَصِ: ١٩) لا أنَّهُ وقَعَ مِنهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب