الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَمّا بَلَغَ أشُدَّهُ واسْتَوى آتَيْناهُ حُكْمًا وعِلْمًا وكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ ﴿ودَخَلَ المَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِن أهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذا مِن شِيعَتِهِ وهَذا مِن عَدُوِّهِ فاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلى الَّذِي مِن عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذا مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿قالَ رَبِّ بِما أنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّ في قَوْلِهِ: ﴿بَلَغَ أشُدَّهُ واسْتَوى﴾ قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُما بِمَعْنًى واحِدٍ وهو اسْتِكْمالُ القُوَّةِ (p-١٩٩)واعْتِدالُ المِزاجِ والبِنْيَةِ. والثّانِي: - وهو الأصَحُّ - أنَّهُما مَعْنَيانِ مُتَغايِرانِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: - وهو الأقْرَبُ - أنَّ الأشُدَّ عِبارَةٌ عَنْ كَمالِ القُوَّةِ الجُسْمانِيَّةِ البَدَنِيَّةِ، والِاسْتِواءُ عِبارَةٌ عَنْ كَمالِ القُوَّةِ العَقْلِيَّةِ. وثانِيها: الأشُدُّ عِبارَةٌ عَنْ كَمالِ القُوَّةِ، والِاسْتِواءُ عِبارَةٌ عَنْ كَمالِ البِنْيَةِ والخِلْقَةِ. وثالِثُها: الأشُدُّ عِبارَةٌ عَنِ البُلُوغِ، والِاسْتِواءُ عِبارَةٌ عَنْ كَمالِ الخِلْقَةِ. ورابِعُها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الأشُدُّ ما بَيْنَ الثَّمانِ عَشْرَةَ سَنَةً إلى الثَّلاثِينَ، ثُمَّ مِنَ الثَّلاثِينَ سَنَةً إلى الأرْبَعِينَ يَبْقى سَواءً مِن غَيْرِ زِيادَةٍ ولا نُقْصانٍ، ومِنَ الأرْبَعِينَ يَأْخُذُ في النُّقْصانِ، وهَذا الَّذِي قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما حَقٌّ؛ لِأنَّ الإنْسانَ يَكُونُ في أوَّلِ العُمْرِ في النُّمُوِّ والتَّزايُدِ، ثُمَّ يَبْقى مِن غَيْرِ زِيادَةٍ ولا نُقْصانٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ في الِانْتِقاصِ، فَنِهايَةُ مُدَّةِ الِازْدِيادِ مَن أوَّلِ العُمْرِ إلى العِشْرِينَ، ومِنِ العِشْرِينَ إلى الثَّلاثِينَ يَكُونُ التَّزايُدُ قَلِيلًا، والقُوَّةُ قَوِيَّةً جِدًّا، ثُمَّ مِنَ الثَّلاثِينَ إلى الأرْبَعِينَ يَقِفُ، فَلا يَزْدادُ ولا يَنْتَقِصُ، ومِنَ الأرْبَعِينَ إلى السِّتِّينَ يَأْخُذُ في الِانْتِقاصِ الخَفِيِّ، ومِنَ السِّتِّينَ إلى آخِرِ العُمُرِ يَأْخُذُ في الِانْتِقاصِ البَيِّنِ الظّاهِرِ. ويُرْوى أنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إلّا عَلى رَأْسِ أرْبَعِينَ سَنَةً، والحِكْمَةُ فِيهِ ظاهِرَةٌ؛ لِأنَّ الإنْسانَ يَكُونُ إلى رَأْسِ الأرْبَعِينَ قُواهُ الجُسْمانِيَّةُ مِنَ الشَّهْوَةِ والغَضَبِ والحِسِّ قَوِيَّةً مُسْتَكْمَلَةً، فَيَكُونُ الإنْسانُ مُنْجَذِبًا إلَيْها، فَإذا انْتَهى إلى الأرْبَعِينَ أخَذَتِ القُوى الجُسْمانِيَّةُ في الِانْتِقاصِ، والقُوَّةُ العَقْلِيَّةُ في الِازْدِيادِ فَهُناكَ يَكُونُ الرَّجُلُ أكْمَلَ ما يَكُونُ، فَلِهَذا السِّرِّ اخْتارَ اللَّهُ تَعالى هَذا السِّنَّ لِلْوَحْيِ. المسألة الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في واحِدِ الأشُدِّ، قالَ الفَرّاءُ: الأشُدُّ واحِدُها شَدٌّ في القِياسِ، ولَمْ يُسْمَعْ لَها بِواحِدٍ. وقالَ أبُو الهَيْثَمِ: واحِدُ الأشُدِّ شِدَّةٌ، كَما أنَّ واحِدَةَ الأنْعُمِ نِعْمَةٌ، والشِّدَّةُ القُوَّةُ والجَلادَةُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿آتَيْناهُ حُكْمًا وعِلْمًا﴾ فَفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّها النُّبُوَّةُ وما يُقْرَنُ بِها مِنَ العُلُومِ والأخْلاقِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: لَيْسَ في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ هَذِهِ النُّبُوَّةَ كانَتْ قَبْلَ قَتْلِ القِبْطِيِّ أوْ بَعْدَهُ؛ لِأنَّ الواوَ في قَوْلِهِ: ﴿ودَخَلَ المَدِينَةَ﴾ لا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ. الثّانِي: آتَيْناهُ الحِكْمَةَ والعِلْمَ، قالَ تَعالى: ﴿واذْكُرْنَ ما يُتْلى في بُيُوتِكُنَّ مِن آياتِ اللَّهِ والحِكْمَةِ﴾ (الأحْزابِ: ٣٤) وهَذا القَوْلُ أوْلى لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ النُّبُوَّةَ أعْلى الدَّرَجاتِ البَشَرِيَّةِ، فَلا بُدَّ وأنْ تَكُونَ مَسْبُوقَةً بِالكَمالِ في العِلْمِ والسِّيرَةِ المُرْضِيَةِ الَّتِي هي أخْلاقُ الكُبَراءِ والحُكَماءِ. وثانِيها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ إنَّما أعْطاهُ الحُكْمَ والعِلْمَ مُجازاةً عَلى إحْسانِهِ، والنُّبُوَّةُ لا تَكُونُ جَزاءً عَلى العَمَلِ. وثالِثُها: أنَّ المُرادَ بِالحُكْمِ والعِلْمِ لَوْ كانَ هو النُّبُوَّةَ، لَوَجَبَ حُصُولُ النُّبُوَّةِ لِكُلِّ مَن كانَ مِنَ المُحْسِنِينَ، لِقَوْلِهِ: ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وكَذَلِكَ﴾ إشارَةٌ إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الحُكْمِ والعِلْمِ، ثُمَّ بَيَّنَ إنْعامَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ قَتْلِ القِبْطِيِّ. وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: اخْتَلَفُوا في المَدِينَةِ، فالجُمْهُورُ عَلى أنَّها هي المَدِينَةُ الَّتِي كانَ يَسْكُنُها فِرْعَوْنُ، وهي قَرْيَةٌ عَلى رَأْسِ فَرْسَخَيْنِ مِن مِصْرَ، وقالَ الضَّحّاكُ: هي عَيْنُ شَمْسٍ. المسألة الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِن أهْلِها﴾ عَلى أقْوالٍ: فالقَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا بَلَغَ أشُدَّهُ واسْتَوى وآتاهُ اللَّهُ الحُكْمَ والعِلْمَ في دِينِهِ ودِينِ آبائِهِ، عَلِمَ أنَّ فِرْعَوْنَ وقَوْمَهُ عَلى الباطِلِ، فَتَكَلَّمَ بِالحَقِّ وعابَ دِينَهم، واشْتَهَرَ ذَلِكَ مِنهُ حَتّى آلَ الأمْرُ إلى أنْ أخافُوهُ وخافَهم، وكانَ لَهُ مِن (p-٢٠٠)بَنِي إسْرائِيلَ شِيعَةٌ يَقْتَدُونَ بِهِ ويَسْمَعُونَ مِنهُ، وبَلَغَ في الخَوْفِ بِحَيْثُ ما كانَ يَدْخُلُ مَدِينَةَ فِرْعَوْنَ إلّا خائِفًا، فَدَخَلَها يَوْمًا عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِن أهْلِها، ثُمَّ الأكْثَرُونَ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ دَخَلَها نِصْفَ النَّهارِ وقْتَ ما هم قائِلُونَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ يُرِيدُ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشاءِ، والأوَّلُ أوْلى؛ لِأنَّهُ تَعالى أضافَ الغَفْلَةَ إلى أهْلِها، وإذا دَخَلَ المَرْءُ مُسْتَتِرًا لِأجْلِ خَوْفٍ، لا تُضافُ الغَفْلَةُ إلى القَوْمِ. القَوْلُ الثّانِي: قالَ السُّدِّيُّ: إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ كَبِرَ كانَ يَرْكَبُ مَراكِبَ فِرْعَوْنَ، ويَلْبَسُ مِثْلَ ما يَلْبَسُ، ويُدْعى مُوسى ابْنُ فِرْعَوْنَ، فَرَكِبَ يَوْمًا في أثَرِهِ فَأدْرَكَهُ المَقِيلُ في مَوْضِعٍ، فَدَخَلَها نِصْفَ النَّهارِ، وقَدْ خَلَتِ الطُّرُقُ، فَهو قَوْلُهُ: ﴿عَلى حِينِ غَفْلَةٍ﴾ . القَوْلُ الثّالِثُ: قالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَيْسَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِن أهْلِها﴾ حُصُولُ الغَفْلَةِ في تِلْكَ السّاعَةِ، بَلِ المُرادُ الغَفْلَةُ مِن ذِكْرِ مُوسى وأمْرِهِ، فَإنَّ مُوسى حِينَ كانَ صَغِيرًا ضَرَبَ رَأْسَ فِرْعَوْنَ بِالعَصا ونَتَفَ لِحْيَتَهُ، فَأرادَ فِرْعَوْنُ قَتْلَهُ، فَجِيءَ بِجَمْرٍ، فَأخَذَهُ وطَرَحَهُ في فِيهِ، فَمِنهُ عُقْدَةُ لِسانِهِ، فَقالَ فِرْعَوْنُ: لا أقْتُلُهُ، ولَكِنْ أخْرِجُوهُ عَنِ الدّارِ والبَلَدِ، فَأُخْرِجَ ولَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ حَتّى كَبِرَ، والقَوْمُ نَسُوا ذِكْرَهُ، وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿عَلى حِينِ غَفْلَةٍ﴾ ولا مَطْمَعَ في تَرْجِيحِ بَعْضِ هَذِهِ الرِّواياتِ عَلى بَعْضٍ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ في القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلى شَيْءٍ مِنها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب