الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وحَرَّمْنا عَلَيْهِ المَراضِعَ مِن قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أدُلُّكم عَلى أهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكم وهم لَهُ ناصِحُونَ﴾ ﴿فَرَدَدْناهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ولا تَحْزَنَ ولِتَعْلَمَ أنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وحَرَّمْنا عَلَيْهِ المَراضِعَ مِن قَبْلُ﴾ يَقْتَضِي تَحْرِيمَها مَن قَبْلِهِ، فَإذا لَمْ يَصِحَّ بِالتَّعَبُّدِ والنَّهْيِ لَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ، فَلا بُدَّ مِن فِعْلٍ سِواهُ، وذَلِكَ الفِعْلُ يُحْتَمَلُ أنَّهُ تَعالى مَعَ حاجَتِهِ إلى اللَّبَنِ أحْدَثَ فِيهِ نِفارَ الطَّبْعِ عَنْ لَبَنِ سائِرِ النِّساءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرْضَعْ أوْ أحْدَثَ في لَبَنِهِنَّ مِنَ الطَّعْمِ ما يَنْفِرُ عَنْهُ طَبْعُهُ، أوْ وضَعَ في لَبَنِ أُمِّهِ (p-١٩٨)لَذَّةً، فَلَمّا تَعَوَّدَها لا جَرَمَ كانَ يَكْرَهُ لَبَنَ غَيْرِها، وعَنِ الضَّحّاكِ كانَتْ أُمُّهُ قَدْ أرْضَعَتْهُ ثَلاثَةَ أشْهُرٍ حَتّى عَرَفَ رِيحَها، والمَراضِعُ: جَمْعُ مُرْضِعٍ، وهي المَرْأةُ الَّتِي تُرْضِعُ أوْ جَمْعُ مَرْضَعٍ، وهو مَوْضِعُ الرِّضاعِ؛ أيِ الثَّدْيِ أوِ الرِّضاعِ، وقَوْلُهُ: ﴿مِن قَبْلُ﴾ أيْ مِن قَبْلِ أنْ رَدَدْناهُ إلى أُمِّهِ، ومِن قَبْلِ مَجِيءِ أُخْتِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ومِن قَبْلِ وِلادَتِهِ في حُكْمِنا وقَضائِنا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَتْ أُخْتُهُ: ﴿هَلْ أدُلُّكم عَلى أهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾ أيْ يَضْمَنُونَ رَضاعَهُ والقِيامَ بِمَصالِحِهِ وهم لَهُ ناصِحُونَ لا يَمْنَعُونَهُ ما يَنْفَعُهُ في تَرْبِيَتِهِ وإغْذائِهِ، ولا يَخُونُونَكم فِيهِ. والنُّصْحُ إخْلاصُ العَمَلِ مِن شائِبَةِ الفَسادِ، وقالَ السُّدِّيُّ: إنَّها لَمّا قالَتْ: ﴿وهم لَهُ ناصِحُونَ﴾ دَلَّ ظاهِرُ ذَلِكَ عَلى أنَّ أهْلَ البَيْتِ يَعْرِفُونَهُ، فَقالَ لَها هامانُ: قَدْ عَرَفْتِ هَذا الغُلامَ، فَدُلِّينا عَلى أهْلِهِ، فَقالَتْ ما أعْرِفُهُ، ولَكِنِّي إنَّما قُلْتُ: هم لِلْمَلِكِ ناصِحُونَ لِيَزُولَ شَغْلُ قَلْبِهِ. وكُلُّ ما رُوِيَ في هَذا البابِ يَدُلُّ عَلى أنَّ فِرْعَوْنَ كانَ بِمَنزِلَةِ آسِيَةَ في شِدَّةِ مَحَبَّتِهِ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، لا عَلى ما قالَ مَن زَعَمَ أنَّها كانَتْ مُخْتَصَّةً بِذَلِكَ فَقَطْ، ثم قال تَعالى: ﴿فَرَدَدْناهُ إلى أُمِّهِ﴾ بِهَذا الضَّرْبِ مِنَ اللُّطْفِ ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ولا تَحْزَنَ ولِتَعْلَمَ أنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ أيْ فِيما كانَ وعَدَها مِن أنَّهُ يَرُدُّهُ إلَيْها، ولَقَدْ كانَتْ عالِمَةً بِذَلِكَ، ولَكِنْ لَيْسَ الخَبَرُ كالعِيانِ، فَتَحَقَّقَتْ بِوُجُودِ المَوْعُودِ. ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ أرْبَعَةٌ: أحَدُها: ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ في ذَلِكَ العَهْدِ وبَعْدُ لا يَعْلَمُونَ لِإعْراضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ في آياتِ اللَّهِ. وثانِيها: قالَ الضَّحّاكُ ومُقاتِلٌ: يَعْنِي أهْلَ مِصْرَ لا يَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ وعَدَها بِرَدِّهِ إلَيْها. وثالِثُها: هَذا كالتَّعْرِيضِ بِما فَرَطَ مِنها حِينَ سَمِعَتْ بِخَبَرِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَجَزِعَتْ وأصْبَحَ فُؤادُها فارِغًا. ورابِعُها: أنْ يَكُونَ المَعْنى: إنّا إنَّما رَدَدْناهُ إلَيْها ﴿ولِتَعْلَمَ أنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ والمَقْصُودُ الأصْلِيُّ مِن ذَلِكَ الرَّدِّ هَذا الغَرَضُ الدِّينِيُّ، ولَكِنَّ الأكْثَرَ لا يَعْلَمُونَ أنَّ هَذا هو الغَرَضُ الأصْلِيُّ، وأنَّ ما سِواهُ مِن قُرَّةِ العَيْنِ وذَهابِ الحُزْنِ تَبَعٌ، قالَ الضَّحّاكُ: لَمّا قَبِلَ ثَدْيَها، قالَ هامانُ: إنَّكِ لَأُمُّهُ، قالَتْ: لا، قالَ: فَما بالُكِ قَبِلَ ثَدْيَكِ مِن بَيْنِ النِّسْوَةِ، قالَتْ: أيُّها المَلِكُ إنِّي امْرَأةٌ طَيِّبَةُ الرِّيحِ حُلْوَةُ اللَّبَنِ ما شَمَّ رِيحِي صَبِيٌّ إلّا أقْبَلَ عَلى ثَدْيِي، قالُوا: صَدَقْتِ، فَلَمْ يَبْقَ أحَدٌ مِن آلِ فِرْعَوْنَ إلّا أهْدى إلَيْها وأتْحَفَها بِالذَّهَبِ والجَواهِرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب