الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا إنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ ذَكَرُوا في قَوْلِهِ: ﴿فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا﴾ وُجُوهًا: أحَدُها: قالَ الحَسَنُ فارِغًا مَن كُلِّ هَمٍّ إلّا مِن هَمِّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. وثانِيها: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: فَراغُ الفُؤادِ هو الخَوْفُ والإشْفاقُ، كَقَوْلِهِ: ﴿وأفْئِدَتُهم هَواءٌ﴾ (إبْراهِيمَ: ٤٣) . وثالِثُها: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: فارِغًا صِفْرًا مِنَ العَقْلِ، والمَعْنى: إنَّها حِينَ سَمِعَتْ بِوُقُوعِهِ في يَدِ فِرْعَوْنَ طارَ عَقْلُها مِن فَرْطِ الجَزَعِ والخَوْفِ. ورابِعُها: قالَ الحَسَنُ ومُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: فارِغًا مِنَ الوَحْيِ الَّذِي أوْحَيْنا إلَيْها أنْ ألْقِيهِ في اليَمِّ، ولا تَخافِي، ولا تَحْزَنِي، إنّا رادُّوهُ إلَيْكِ فَجاءَها الشَّيْطانُ، فَقالَ لَها: كَرِهْتِ أنْ يَقْتُلَ فِرْعَوْنُ ولَدَكِ، فَيَكُونَ لَكِ أجْرٌ، فَتَوَلَّيْتِ إهْلاكَهُ، ولَمّا أتاها خَبَرُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ وقَعَ في يَدِ فِرْعَوْنَ، فَأنْساها عِظَمُ البَلاءِ ما كانَ مِن عَهْدِ اللَّهِ إلَيْها. وخامِسُها: قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: فارِغًا مِنَ الحُزْنِ لِعِلْمِها بِأنَّهُ لا يُقْتَلُ اعْتِمادًا عَلى تَكَفُّلِ اللَّهِ بِمَصْلَحَتِهِ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وهَذا مِنَ العَجائِبِ كَيْفَ يَكُونُ فُؤادُها فارِغًا مِنَ الحُزْنِ واللَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿لَوْلا أنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها﴾ وهَلْ يُرْبَطُ إلّا عَلى قَلْبِ الجازِعِ المَحْزُونِ ؟ ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ (p-١٩٧)أنَّها لِشِدَّةِ ثِقَتِها بِوَعْدِ اللَّهِ لَمْ تَخَفْ عِنْدَ إظْهارِ اسْمِهِ، وأيْقَنَتْ أنَّها، وإنْ أظْهَرَتْ، فَإنَّهُ يَسْلَمُ لِأجْلِ ذَلِكَ الوَعْدِ، إلّا أنَّهُ كانَ في المَعْلُومِ أنَّ الإظْهارَ يَضُرُّ، فَرَبَطَ اللَّهُ عَلى قَلْبِها. ويُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: ﴿إنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها﴾ بِالوَحْيِ فَأمِنَتْ وزالَ عَنْ قَلْبِها الحُزْنُ، فَعَلى هَذا الوجه يَصِحُّ أنْ يُتَأوَّلَ عَلى أنَّ قَلْبَها سَلِمَ مِنَ الحُزْنِ عَلى مُوسى أصْلًا. وفِيهِ وجْهٌ ثالِثٌ: وهو أنَّها سَمِعَتْ أنَّ امْرَأةَ فِرْعَوْنَ عَطَفَتْ عَلَيْهِ وتَبَنَّتْهُ إنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ بِأنَّهُ ولَدُها؛ لِأنَّها لَمْ تَمْلِكْ نَفْسَها فَرَحًا بِما سَمِعَتْ، لَوْلا أنْ سَكَنَ ما بِها مِن شِدَّةِ الفَرَحِ والِابْتِهاجِ ﴿لِتَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ الواثِقِينَ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعالى، لا بِتَبَنِّي امْرَأةُ فِرْعَوْنَ اللَّعِينِ وبِعَطْفِها. وقُرِئَ (فَرِغًا) أيْ خالِيًا مِن قَوْلِهِمْ: أعُوذُ بِاللَّهِ مِن صَفَرِ الإناءِ، وفَرَغِ الفِناءِ وفَرَغًا مِن قَوْلِهِمْ: دِماؤُهم بَيْنَهم فَرَغٌ أيْ هَدَرٌ؛ يَعْنِي: بَطَلَ قَلْبُها مِن شِدَّةِ ما ورَدَ عَلَيْها. أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ فاعْلَمْ أنَّ عَلى قَوْلِ مَن فَسَّرَ الفَراغَ بِالفَراغِ مِنَ الحُزْنِ، قَدْ ذَكَرْنا تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: ﴿إنْ كادَتْ لَتُبْدِي﴾ وأمّا عَلى قَوْلِ مَن فَسَّرَ الفَراغَ بِحُصُولِ الخَوْفِ، فَذَكَرُوا وُجُوهًا: أحَدُها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كادَتْ تُخْبِرُ بِأنَّ الَّذِي وجَدْتُمُوهُ ابْنِي، وقالَ في رِوايَةِ عِكْرِمَةَ: كادَتْ تَقُولُ واإبْناهُ مِن شَدَّةِ وجْدِها بِهِ، وذَلِكَ حِينَ رَأتِ المَوْجَ يَرْفَعُ ويَضَعُ، وقالَ الكَلْبِيُّ: ذَلِكَ حِينَ سَمِعَتِ النّاسَ يَقُولُونَ: إنَّهُ ابْنُ فِرْعَوْنَ. وقالَ السُّدِّيُّ: لَمّا أُخِذَ ابْنُها كادَتْ تَقُولُ: هو ابْنِي فَعَصَمَها اللَّهُ تَعالى. ثم قال: ﴿لَوْلا أنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها﴾ بِإلْهامِ الصَّبْرِ كَما يُرْبَطُ عَلى الشَّيْءِ المُتَفَلِّتِ لِيَسْتَقِرَّ ويَطْمَئِنَّ ﴿لِتَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ مِنَ المُصَدِّقِينَ بِوَعْدِ اللَّهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿إنّا رادُّوهُ إلَيْكِ﴾ . أمّا قَوْلُهُ: ﴿وقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ أيِ اتَّبِعِي أثَرَهُ، وانْظُرِي إلى أيْنَ وقَعَ، وإلى مَن صارَ، وكانَتْ أُخْتُهُ لِأبِيهِ وأُمِّهِ، واسْمُها مَرْيَمُ ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أبْصَرَتْهُ، قالَ المُبَرِّدُ: أبْصَرَتْهُ وبَصُرَتْ بِهِ بِمَعْنًى واحِدٍ، وقَوْلُهُ: ﴿عَنْ جُنُبٍ﴾ أيْ عَنْ بُعْدٍ، وقُرِئَ: عَنْ جانِبٍ، وعَنْ جَنْبٍ. والجَنْبُ الجانِبُ؛ أيْ نَظَرَتْ نَظْرَةً مُزْوَرَّةً مُتَجانِبَةً ﴿وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ بِحالِها وغَرَضِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب