الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أكْثَرَ الَّذِي هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ﴿وإنَّهُ لَهُدًى ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهم بِحُكْمِهِ وهو العَزِيزُ العَلِيمُ﴾ ﴿فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ إنَّكَ عَلى الحَقِّ المُبِينِ﴾ ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا ولَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ ﴿وما أنْتَ بِهادِي العُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إنْ تُسْمِعُ إلّا مَن يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهم مُسْلِمُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا تَمَّمَ الكَلامَ في إثْباتِ المَبْدَأِ والمَعادِ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ما يَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوَّةِ، ولَمّا كانَتِ العُمْدَةُ الكُبْرى في إثْباتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ هو القُرْآنَ، لا جَرَمَ بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أوَّلًا كَوْنَهُ مُعْجِزَةً مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: إنَّ الأقاصِيصَ المَذْكُورَةَ في القُرْآنِ مُوافِقَةٌ لِما كانَتْ مَذْكُورَةً في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، مَعَ العِلْمِ بِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ أُمِّيًّا، وأنَّهُ لَمْ يُخالِطْ أحَدًا مِنَ العُلَماءِ، ولَمْ يَشْتَغِلْ قَطُّ بِالِاسْتِفادَةِ والتَّعَلُّمِ، فَإذَنْ لا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى، واخْتَلَفُوا فَقالَ بَعْضُهم: أرادَ بِهِ ما اخْتَلَفُوا فِيهِ وتَبايَنُوا، وقالَ آخَرُونَ: أرادَ بِهِ ما حَرَّفَهُ بَعْضُهم، وقالَ بَعْضُهم: بَلْ أرادَ بِهِ أخْبارَ الأنْبِياءِ، والأوَّلُ أقْرَبُ.
وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿وإنَّهُ لَهُدًى ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ بَعْضَ النّاسِ قالَ: إنّا لَمّا تَأمَّلْنا القُرْآنَ فَوَجَدْنا فِيهِ مِنَ الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ عَلى التَّوْحِيدِ والحَشْرِ والنُّبُوَّةِ، وشَرْحِ صِفاتِ اللَّهِ تَعالى وبَيانِ نُعُوتِ جَلالِهِ ما لَمْ نَجِدْهُ في شَيْءٍ مِنَ الكُتُبِ، ووَجَدْنا ما فِيهِ مِنَ الشَّرائِعِ مُطابِقَةً لِلْعُقُولِ مُوافِقَةً لَها، ووَجَدْناهُ مُبَرَّأً عَنِ التَّناقُضِ والتَّهافُتِ، فَكانَ هُدىً ورَحْمَةً مِن هَذِهِ الجِهاتِ ووَجَدْنا القُوى البَشَرِيَّةَ قاصِرَةً عَلى جَمْعِ كِتابٍ عَلى هَذا الوجه، فَعَلِمْنا أنَّهُ لَيْسَ إلّا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، فَكانَ القُرْآنُ مُعْجِزًا مِن هَذِهِ الجِهَةِ.
وثالِثُها: أنَّهُ هُدىً ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، لِبُلُوغِهِ في الفَصاحَةِ إلى حَيْثُ عَجَزُوا عَنْ مُعارَضَتِهِ وذَلِكَ مُعْجِزٌ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ كَوْنَهُ مُعْجِزًا دالًّا عَلى الرِّسالَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ أمْرَيْنِ:
الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهم بِحُكْمِهِ وهو العَزِيزُ العَلِيمُ﴾ والمُرادُ أنَّ القُرْآنَ وإنْ كانَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أكْثَرَ الَّذِي هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، لَكِنْ لا تَكُنْ أنْتَ في قَيْدِهِمْ، فَإنَّ رَبَّكَ هو الَّذِي يَقْضِي بَيْنَهم، أيْ بَيْنَ المُصِيبِ والمُخْطِئِ مِنهم، وذَلِكَ كالزَّجْرِ لِلْكُفّارِ، فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿وهُوَ العَزِيزُ﴾ أيِ القادِرُ الَّذِي لا يُمْنَعُ، العَلِيمُ بِما يَحْكُمُ فَلا يَكُونُ إلّا الحَقُّ، فَإنْ قِيلَ: القَضاءُ والحُكْمُ شَيْءٌ واحِدٌ، فَقَوْلُهُ: ﴿يَقْضِي بَيْنَهم بِحُكْمِهِ﴾ كَقَوْلِهِ: يَقْضِي بِقَضائِهِ، ويَحْكُمُ بِحُكْمِهِ، والجَوابُ: مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿بِحُكْمِهِ﴾ أيْ بِما يَحْكُمُ بِهِ وهو عَدْلُهُ؛ لِأنَّهُ لا يَقْضِي إلّا بِالعَدْلِ، أوْ أرادَ بِحُكْمِهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ مَن قَرَأ (بِحِكَمِهِ) جَمْعُ حِكْمَةٍ.
الثّانِي: أنَّهُ تَعالى أمَرَهُ بَعْدَ ظُهُورِ حُجَّةِ رِسالَتِهِ بِأنْ يَتَوَكَّلَ عَلى اللَّهِ، ولا يَلْتَفِتَ إلى أعْداءِ اللَّهِ، ويَشْرَعَ في تَمْشِيَةِ مُهِمّاتِ الرِّسالَةِ بِقَلْبٍ قَوِيٍّ، فَقالَ: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأمْرَيْنِ:
أحَدُهُما: قَوْلُهُ: ﴿إنَّكَ عَلى الحَقِّ المُبِينِ﴾ وفِيهِ بَيانُ أنَّ المُحِقَّ حَقِيقٌ بِنُصْرَةِ اللَّهِ تَعالى وأنَّهُ لا يُخْذَلُ.
وثانِيهِما: قَوْلُهُ: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾ وإنَّما حَسُنَ جَعْلُهُ سَبَبًا لِلْأمْرِ بِالتَّوَكُّلِ، وذَلِكَ (p-١٨٦)لِأنَّ الإنْسانَ ما دامَ يَطْمَعُ في أحَدٍ أنْ يَأْخُذَ مِنهُ شَيْئًا، فَإنَّهُ لا يَقْوى قَلْبُهُ عَلى إظْهارِ مُخالَفَتِهِ، فَإذا قَطَعَ طَمَعَهُ عَنْهُ قَوِيَ قَلْبُهُ عَلى إظْهارِ مُخالَفَتِهِ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى قَطَعَ مُحَمَّدًا ﷺ عَنْهم بِأنْ بَيَّنَ لَهُ أنَّهم كالمَوْتى وكالصُّمِّ وكالعُمْيِ، فَلا يَفْهَمُونَ ولا يَسْمَعُونَ ولا يُبْصِرُونَ ولا يَلْتَفِتُونَ إلى شَيْءٍ مِنَ الدَّلائِلِ، وهَذا سَبَبٌ لِقُوَّةِ قَلْبِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى إظْهارِ الدِّينِ كَما يَنْبَغِي، فَإنْ قِيلَ ما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿إذا ولَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ ؟ جَوابُهُ: هو تَأْكِيدٌ لِحالِ الأصَمِّ؛ لِأنَّهُ إذا تَباعَدَ عَنِ الدّاعِي بِأنْ تَوَلّى عَنْهُ مُدْبِرًا كانَ أبْعَدَ عَنْ إدْراكِ صَوْتِهِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ تُسْمِعُ إلّا مَن يُؤْمِنُ بِآياتِنا﴾ فالمَعْنى: ما يُجْدِي إسْماعُكَ إلّا الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أنَّهم يُؤْمِنُونَ بِآياتِهِ، أيْ يُصَدِّقُونَ بِها ﴿فَهم مُسْلِمُونَ﴾ أيْ مُخْلِصُونَ مِن قَوْلِهِ: ﴿بَلى مَن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ﴾ (البَقَرَةِ: ١١٢) يَعْنِي جَعَلَهُ سالِمًا لِلَّهِ تَعالى خالِصًا لَهُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":76,"ayahs":["إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَقُصُّ عَلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِی هُمۡ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ","وَإِنَّهُۥ لَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣱ لِّلۡمُؤۡمِنِینَ","إِنَّ رَبَّكَ یَقۡضِی بَیۡنَهُم بِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡعَلِیمُ","فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۖ إِنَّكَ عَلَى ٱلۡحَقِّ ٱلۡمُبِینِ","إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَاۤءَ إِذَا وَلَّوۡا۟ مُدۡبِرِینَ","وَمَاۤ أَنتَ بِهَـٰدِی ٱلۡعُمۡیِ عَن ضَلَـٰلَتِهِمۡۖ إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن یُؤۡمِنُ بِـَٔایَـٰتِنَا فَهُم مُّسۡلِمُونَ"],"ayah":"إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَاۤءَ إِذَا وَلَّوۡا۟ مُدۡبِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق