الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أئِذا كُنّا تُرابًا وآباؤُنا أئِنّا لَمُخْرَجُونَ﴾ ﴿لَقَدْ وُعِدْنا هَذا نَحْنُ وآباؤُنا مِن قَبْلُ إنْ هَذا إلّا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿قُلْ سِيرُوا في الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُجْرِمِينَ﴾ ﴿ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ولا تَكُ في ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ﴾ ﴿ويَقُولُونَ مَتى هَذا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ ﴿قُلْ عَسى أنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلى النّاسِ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَشْكُرُونَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهم وما يُعْلِنُونَ﴾ ﴿وما مِن غائِبَةٍ في السَّماءِ والأرْضِ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا تَكَلَّمَ في حالِ المَبْدَأِ تَكَلَّمَ بَعْدَهُ في حالِ المَعادِ، وذَلِكَ لِأنَّ الشَّكَّ في المَعادِ لا يَنْشَأُ إلّا مِنَ الشَّكِّ في كَمالِ القُدْرَةِ، أوْ في كَمالِ العِلْمِ، فَإذا ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعالى قادِرًا عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ، وعالِمًا بِكُلِّ المَعْلُوماتِ، ثَبَتَ أنَّهُ تَعالى يُمْكِنُهُ تَمْيِيزُ أجْزاءِ بَدَنِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُكَلَّفِينَ عَنْ أجْزاءِ بَدَنِ غَيْرِهِ، وثَبَتَ أنَّهُ قادِرٌ عَلى أنْ يُعِيدَ التَّرْكِيبَ والحَياةَ إلَيْها، وإذا ثَبَتَ إمْكانُ ذَلِكَ ثَبَتَ صِحَّةُ القَوْلِ بِالحَشْرِ، فَلَمّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ فِيما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ، لا جَرَمَ لَمْ يَحْكِهِ في هَذِهِ الآيَةِ، فَحَكى عَنْهم أنَّهم تَعَجَّبُوا مِن إخْراجِهِمْ أحْياءً، وقَدْ صارُوا تُرابًا. وطَعَنُوا فِيهِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: قَوْلُهم: ﴿لَقَدْ وُعِدْنا هَذا نَحْنُ وآباؤُنا﴾ أيْ هَذا كَلامٌ كَما قِيلَ لَنا فَقَدْ قِيلَ لِمَن قَبْلَنا، ولَمْ يَظْهَرْ لَهُ أثَرٌ، فَهو إذَنْ مِن أساطِيرِ الأوَّلِينَ، يُرِيدُونَ: ما لا يَصِحُّ مِنَ الأخْبارِ، فَإنْ قِيلَ: ذَكَرَ هَهُنا ﴿لَقَدْ وُعِدْنا هَذا نَحْنُ وآباؤُنا﴾ وفي آيَةٍ أُخْرى: ﴿لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وآباؤُنا هَذا﴾ فَما الفَرْقُ ؟ قُلْنا: التَّقْدِيمُ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُقَدَّمَ هو المَقْصُودُ الأصْلِيُّ، وأنَّ الكَلامَ سِيقَ لِأجْلِهِ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا كانَ قَدْ بَيَّنَ الدَّلالَةَ عَلى هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ، ومِنَ الظّاهِرِ أنَّ كُلَّ مَن أحاطَ بِهِما فَقَدْ عَرَفَ صِحَّةَ الحَشْرِ والنَّشْرِ ثَبَتَ أنَّهم أعْرَضُوا عَنْها ولَمْ يَتَأمَّلُوها، وكانَ سَبَبُ ذَلِكَ الإعْراضِ حُبَّ الدُّنْيا وحُبَّ الرِّياسَةِ والجاهِ وعَدَمَ الِانْقِيادِ لِلْغَيْرِ، لا جَرَمَ اقْتَصَرَ عَلى بَيانِ أنَّ الدُّنْيا فانِيَةٌ زائِلَةٌ، فَقالَ: ﴿قُلْ سِيرُوا في الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُجْرِمِينَ﴾ وفِيهِ سُؤالانِ: (p-١٨٤)السُّؤالُ الأوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: كَيْفَ كانَتْ عاقِبَةُ المُجْرِمِينَ ؟ جَوابُهُ: لِأنَّ تَأْنِيثَها غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، ولِأنَّ المَعْنى كَيْفَ كانَ آخِرُ أمْرِهِمْ. السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ لَمْ يَقُلْ عاقِبَةَ الكافِرِينَ ؟ جَوابُهُ: الغَرَضُ أنْ يَحْصُلَ التَّخْوِيفُ لِكُلِّ العُصاةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى صَبَّرَ رَسُولَهُ عَلى ما يَنالُهُ مِن هَؤُلاءِ الكُفّارِ، فَقالَ: ﴿ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ولا تَكُ في ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ﴾ فَجَمَعَ بَيْنَ إزالَةِ الغَمِّ عَنْهُ بِكُفْرِهِمْ، وبَيْنَ إزالَةِ الخَوْفِ مِن جانِبِهِمْ، وصارَ ذَلِكَ كالتَّكَفُّلِ بِنُصْرَتِهِ عَلَيْهِمْ، وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَكُ في ضَيْقٍ﴾ أيْ في حَرَجِ قَلْبٍ، يُقالُ: ضاقَ الشَّيْءُ ضَيْقًا وضِيقًا بِالفَتْحِ والكَسْرِ، والضَّيْقُ تَخْفِيفُ الضَّيِّقِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ: في أمْرٍ ضَيِّقٍ مِن مَكْرِهِمْ. الوجه الثّانِي لِلْكَفّارِ قَوْلُهم: ﴿مَتى هَذا الوَعْدُ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ دَلَّ عَلى أنَّهم ذَكَرُوا ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ فَأجابَ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿عَسى أنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ وهو عَذابُ يَوْمِ بَدْرٍ، فَزِيدَتِ اللّامُ لِلتَّأْكِيدِ كالباءِ في ﴿ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ﴾ (البَقَرَةِ: ١٩٥) أوْ ضُمِّنَ مَعْنى فِعْلٍ يَتَعَدّى بِاللّامِ، نَحْوُ دَنا لَكم وأزِفَ لَكم، ومَعْناهُ تَبِعَكم ولَحِقَكم، وقَرَأ الأعْرَجُ: (رَدَفَ لَكم) بِوَزْنِ ذَهَبَ وهُما لُغَتانِ، والكَسْرُ أفْصَحُ، وهَهُنا بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ عَسى ولَعَلَّ في وعْدِ المُلُوكِ ووَعِيدِهِمْ يَدُلّانِ عَلى صِدْقِ الأمْرِ، وإنَّما يَعْنُونَ بِذَلِكَ إظْهارَ وقارِهِمْ، وأنَّهم لا يُعَجِّلُونَ بِالِانْتِقامِ لِوُثُوقِهِمْ بِأنَّ عَدُوَّهم لا يَفُوتُهم، فَعَلى ذَلِكَ جَرى وعْدُ اللَّهِ ووَعِيدُهُ. الثّانِي: أنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ أنَّ عَذابَ الحِجابِ أشَدُّ مِن عَذابِ النّارِ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿كَلّا إنَّهم عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ ﴿ثُمَّ إنَّهم لَصالُو الجَحِيمِ﴾ (المُطَفِّفِينَ: ١٥ - ١٦) فَقَدَّمَ الحِجابَ عَلى الجَحِيمِ، ثُمَّ إنَّهم كانُوا مَحْجُوبِينَ في الحالِ، فَكانَ سَبَبُ العَذابِ بِكَمالِهِ حاصِلًا، إلّا أنَّ الِاشْتِغالَ بِالدُّنْيا ولَذّاتِها كالعائِقِ عَنْ إدْراكِ ذَلِكَ الألَمِ، كَما أنَّ العُضْوَ الخَدِرَ إذا مَسَّتْهُ النّارُ، فَإنَّ سَبَبَ الألَمِ حاصِلٌ في الحالِ، لَكِنَّهُ لا يَحْصُلُ الشُّعُورُ بِذَلِكَ الألَمِ لِقِيامِ العائِقِ، فَإذا زالَ العائِقُ عَظُمَ البَلاءُ، فَكَذا هَهُنا إذا زالَ البَدَنُ عَظُمَ عَذابُ الحِجابِ، فَقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿عَسى أنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ يَعْنِي المُقْتَضِيَ لَهُ والمُؤَثِّرَ فِيهِ حاصِلٌ، وتَمامُهُ: إنَّما يَحْصُلُ بَعْدَ المَوْتِ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ بَيَّنَ السَّبَبَ في تَرْكِ تَعْجِيلِ العَذابِ، فَقالَ: ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلى النّاسِ﴾ والفَضْلُ الإفْضالُ، ومَعْناهُ: أنَّهُ مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِمْ بِتَأْخِيرِ العُقُوبَةِ، وأكْثَرُهم لا يَعْرِفُونَ هَذِهِ النِّعْمَةَ ولا يَشْكُرُونَها، وهَذِهِ الآيَةُ تُبْطِلُ قَوْلَ مَن قالَ: إنَّهُ لا نِعْمَةَ لِلَّهِ عَلى الكُفّارِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلى ما في قُلُوبِهِمْ، فَقالَ: ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهم وما يُعْلِنُونَ﴾ وهَهُنا بَحْثٌ عَقْلِيٌّ، وهو أنَّهُ قَدَّمَ ما تُكِنُّهُ صُدُورُهم عَلى ما يُعْلِنُونَ مِنَ العِلْمِ، والسَّبَبُ أنَّ ما تُكِنُّهُ صُدُورُهم هو الدَّواعِي والقُصُودُ، وهي أسْبابٌ لِما يُعْلِنُونَ، وهي أفْعالُ الجَوارِحِ، والعِلْمُ بِالعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالمَعْلُولِ، فَهَذا هو السَّبَبُ في ذَلِكَ التَّقْدِيمِ، قُرِئَ ( تَكُنُّ) يُقالُ: كَنَنْتُ الشَّيْءَ وأكْنَنْتُهُ إذا سَتَرْتَهُ وأخْفَيْتَهُ، يَعْنِي أنَّهُ تَعالى يَعْلَمُ ما يُخْفُونَ وما يُعْلِنُونَ مِن عَداوَةِ الرَّسُولِ ومَكايِدِهِمْ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وما مِن غائِبَةٍ﴾ فَقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: سُمِّيَ الشَّيْءُ الَّذِي يَغِيبُ ويَخْفى غائِبَةٌ وخافِيَةٌ، فَكانَتِ التّاءُ فِيها بِمَنزِلَتِها في العاقِبَةِ والعافِيَةِ والنَّطِيحَةِ والذَّبِيحَةِ والرَّمِيَّةِ في أنَّها أسْماءٌ غَيْرُ صِفاتٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونا صِفَتَيْنِ وتاؤُهُما لِلْمُبالَغَةِ كالرّاوِيَةِ في قَوْلِهِمْ: ويْلٌ لِلشّاعِرِ مِن راوِيَةِ السُّوءِ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: وما مِن شَيْءٍ شَدِيدِ الغَيْبُوبَةِ والخَفاءِ، إلّا وقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ تَعالى وأحاطَ بِهِ، وأثْبَتَهُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ. والمُبَيَّنِ الظّاهِرِ البَيِّنِ لِمَن يَنْظُرُ فِيهِ مِنَ المَلائِكَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب