الباحث القرآني

(p-١٧٣)القِصَّةُ الثّالِثَةُ: قِصَّةُ صالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا إلى ثَمُودَ أخاهم صالِحًا أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإذا هم فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ ﴿قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ ﴿قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وبِمَن مَعَكَ قالَ طائِرُكم عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ ﴿وكانَ في المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ ولا يُصْلِحُونَ﴾ ﴿قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وأهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أهْلِهِ وإنّا لَصادِقُونَ﴾ ﴿ومَكَرُوا مَكْرًا ومَكَرْنا مَكْرًا وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ ﴿فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أنّا دَمَّرْناهم وقَوْمَهم أجْمَعِينَ﴾ ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهم خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وأنْجَيْنا الَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا إلى ثَمُودَ أخاهم صالِحًا أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإذا هم فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ ﴿قالَ ياقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ ﴿قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وبِمَن مَعَكَ قالَ طائِرُكم عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ ﴿وكانَ في المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ ولا يُصْلِحُونَ﴾ ﴿قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وأهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أهْلِهِ وإنّا لَصادِقُونَ﴾ ﴿ومَكَرُوا مَكْرًا ومَكَرْنا مَكْرًا وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ ﴿فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أنّا دَمَّرْناهم وقَوْمَهم أجْمَعِينَ﴾ ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهم خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وأنْجَيْنا الَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾ قُرِئَ (أنُ اعْبُدُوا اللَّهَ ) بِالضَّمِّ عَلى اتْباعِ النُّونِ الباءَ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَإذا هم فَرِيقانِ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: المُرادُ فَرِيقٌ مُؤْمِنٌ وفَرِيقٌ كافِرٌ. الثّانِي: المُرادُ قَوْمُ صالِحٍ قَبْلَ أنْ يُؤْمِنَ مِنهم أحَدٌ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ فالمَعْنى: إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما آمَنُوا لِأنَّهم نَظَرُوا في حُجَّتِهِ فَعَرَفُوا صِحَّتَها، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ خَصْمًا لِمَن لَمْ يَقْبَلْها، وإذا كانَ هَذا الِاخْتِصامُ في بابِ الدِّينِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الجِدالَ في بابِ الدِّينِ حَقٌّ وفِيهِ إبْطالُ التَّقْلِيدِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿قالَ ياقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ﴾ فَفِيهِ بَحْثانِ: الأوَّلُ: في تَفْسِيرِ اسْتِعْجالِ السَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وجْهانِ: أحَدُهُما: إنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا صالِحًا عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا لَمْ يَنْفَعْهُمُ الحِجاجُ تَوَعَّدَهم صالِحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالعَذابِ، فَقالُوا: ﴿ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ (العَنْكَبُوتِ: ٢٩) عَلى وجْهِ الِاسْتِهْزاءِ، فَعِنْدَهُ قالَ صالِحٌ: ﴿لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ﴾ والمُرادُ أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ مَكَّنَكم مِنَ التَّوَصُّلِ إلى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى وثَوابِهِ، فَلِماذا تَعْدِلُونَ عَنْهُ إلى اسْتِعْجالِ عَذابِهِ ؟ وثانِيهِما: إنَّهم كانُوا يَقُولُونَ لِجَهْلِهِمْ: إنَّ العُقُوبَةَ الَّتِي يَعِدُها صالِحٌ إنْ وقَعَتْ عَلى زَعْمِهِ أتَيْنا حِينَئِذٍ واسْتَغْفَرْنا، فَحِينَئِذٍ يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَنا ويَدْفَعُ العَذابَ عَنّا، فَخاطَبَهم صالَحٌ عَلى حَسَبِ اعْتِقادِهِمْ، وقالَ: هَلّا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ قَبْلَ نُزُولِ العَذابِ فَإنَّ اسْتِعْجالَ الخَيْرِ أوْلى مِنَ اسْتِعْجالِ الشَّرِّ. (p-١٧٤)البَحْثُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالسَّيِّئَةِ العِقابُ وبِالحَسَنَةِ الثَّوابُ، فَأمّا وصْفُ العَذابِ بِأنَّهُ سَيِّئَةٌ فَهو مَجازٌ وسَبَبُ هَذا التَّجْوِيزِ، إمّا لِأنَّ العِقابَ مِن لَوازِمِهِ أوْ لِأنَّهُ يُشْبِهُهُ في كَوْنِهِ مَكْرُوهًا، وأمّا وصْفُ الرَّحْمَةِ بِأنَّها حَسَنَةٌ فَمِنهم مَن قالَ: إنَّهُ حَقِيقَةٌ، ومِنهم مَن قالَ: إنَّهُ مَجازٌ والأوَّلُ أقْرَبُ، ثُمَّ إنَّ صالِحًا عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا قَرَّرَ هَذا الكَلامَ الحَقَّ أجابُوهُ بِكَلامٍ فاسِدٍ، وهو قَوْلُهم: ﴿اطَّيَّرْنا بِكَ﴾ أيْ تَشاءَمْنا بِكَ؛ لِأنَّ الَّذِي يُصِيبُنا مِن شِدَّةٍ وقَحْطٍ فَهو بِشُؤْمِكَ وبِشُؤْمِ مَن مَعَكَ. قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: كانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ مُسافِرًا فَيَمُرُّ بِطائِرٍ فَيَزْجُرُهُ، فَإنْ مَرَّ سانِحًا تَيَمَّنَ، وإنْ مَرَّ بارِحًا تَشاءَمَ، فَلَمّا نَسَبُوا الخَيْرَ والشَّرَّ إلى الطّائِرِ اسْتُعِيرَ لِما كانَ لِلْخَيْرِ والشَّرِّ وهو قَدَرُ اللَّهِ وقِسْمَتُهُ، فَأجابَ صالِحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِ: ﴿طائِرُكم عِنْدَ اللَّهِ﴾ أيِ السَّبَبُ الَّذِي مِنهُ يَجِيءُ خَيْرُكم وشَرُّكم عِنْدَ اللَّهِ، وهو قَضاؤُهُ وقَدَرُهُ، إنْ شاءَ رَزَقَكم وإنْ شاءَ حَرَمَكم. وقِيلَ: بَلِ المُرادُ إنَّ جَزاءَ‌ الطِّيَرَةِ مِنكم عِنْدَ اللَّهِ وهو العِقابُ، والأقْرَبُ الوجه الأوَّلُ؛ لِأنَّ القَوْمَ أشارُوا إلى الأمْرِ الحاصِلِ فَيَجِبُ في جَوابِهِ أنْ يَكُونَ فِيهِ لا في غَيْرِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ هَذا جَهْلٌ مِنهم بِقَوْلِهِ: ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ فَيُحْتَمَلُ أنَّ غَيْرَهم دَعاهم إلى هَذا القَوْلِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّ الشَّيْطانَ يَفْتِنُكم بِوَسْوَسَتِهِ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: ﴿وكانَ في المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ﴾ والأقْرَبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ تِسْعَةَ جَمْعٍ؛ إذِ الظّاهِرُ مِنَ الرَّهْطِ الجَماعَةُ لا الواحِدُ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أنَّهم كانُوا قَبائِلَ، ويُحْتَمَلُ أنَّهم دَخَلُوا تَحْتَ العَدَدِ لِاخْتِلافِ صِفَتِهِمْ وأحْوالِهِمْ لا لِاخْتِلافِ السَّبَبِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهم يُفْسِدُونَ في الأرْضِ ولا يَمْزِجُونَ ذَلِكَ الفَسادَ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّلاحِ، فَلِهَذا قالَ: ﴿يُفْسِدُونَ في الأرْضِ ولا يُصْلِحُونَ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ مِن جُمْلَةِ ذَلِكَ ما هَمُّوا بِهِ مِن أمْرِ صالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿تَقاسَمُوا بِاللَّهِ﴾ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أمْرًا أوْ خَبَرًا في مَحَلِّ الحالِ بِإضْمارِ قَدْ، أيْ قالُوا مُتَقاسِمِينَ، والبَياتُ مُتابَعَةُ العَدُوِّ لَيْلًا. أمّا قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أهْلِهِ﴾ يَعْنِي لَوِ اتَّهَمَنا قَوْمُهُ حَلَفْنا لَهم أنّا لَمْ نَحْضُرْ. وقُرِئَ (مَهْلَكَ) بِفَتْحِ المِيمِ واللّامِ وكَسْرِها مِن هَلَكَ، ومُهْلَكٌ بِضَمِّ المِيمِ مِن أهْلَكَ، ويُحْتَمَلُ المَصْدَرُ والمَكانُ والزَّمانُ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: ﴿ومَكَرُوا مَكْرًا ومَكَرْنا مَكْرًا وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ وقَدِ اخْتَلَفُوا في مَكْرِ اللَّهِ تَعالى عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: إنَّ مَكْرَ اللَّهِ إهْلاكُهم مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، شُبِّهَ بِمَكْرِ الماكِرِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ، رُوِيَ أنَّهُ كانَ لِصالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ مَسْجِدٌ في الحِجْرِ في شِعْبٍ يُصَلِّي فِيهِ، فَقالُوا: زَعَمَ صالِحٌ أنَّهُ يَفْرَغُ مِنّا إلى ثَلاثٍ، فَنَحْنُ نَفْرَغُ مِنهُ، ومِن أهْلِهِ قَبْلَ الثَّلاثِ، فَخَرَجُوا إلى الشِّعْبِ، وقالُوا: إذا جاءَ يُصَلِّي قَتَلْناهُ، ثُمَّ رَجَعْنا إلى أهْلِهِ فَقَتَلْناهم، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعالى صَخْرَةً فَطَبِقَتِ الصَّخْرَةُ عَلَيْهِمْ فَمَ الشِّعْبِ، فَهَلَكُوا وهَلَكَ الباقُونَ بِالصَّيْحَةِ. وثانِيها: جاءُوا بِاللَّيْلِ شاهِرِينَ سُيُوفَهم، وقَدْ أرْسَلَ اللَّهُ تَعالى المَلائِكَةَ مِلْءَ دارِ صالِحٍ فَدَمَغُوهم بِالحِجارَةِ، يَرَوْنَ الأحْجارَ ولا يَرَوْنَ رامِيًا. وثالِثُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى أخْبَرَ صالِحًا بِمَكْرِهِمْ فَتَحَرَّزَ عَنْهم فَذاكَ مَكْرُ اللَّهِ تَعالى في حَقِّهِمْ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿أنّا دَمَّرْناهُمْ﴾ اسْتِئْنافٌ، ومَن قَرَأ بِالفَتْحِ رَفَعَهُ بَدَلًا مِنَ العاقِبَةِ، أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هي تُدَمِّرُهم، أوْ نَصَبَهُ عَلى مَعْنى لِأنّا، أوْ عَلى أنَّهُ خَبَرُ كانَ، أيْ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمُ الدَّمارَ. (p-١٧٥)أمّا قَوْلُهُ: ﴿خاوِيَةً﴾ فَهو حالٌ عَمِلَ فِيها ما دَلَّ عَلَيْهِ تِلْكَ، وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ (خاوِيَةٌ) بِالرَّفْعِ عَلى خَبَرِ المُبْتَدَأِ المَحْذُوفِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * القِصَّةُ الرّابِعَةُ قِصَّةُ لُوطٍ عَلَيْهِ الُسَّلامُ ﴿ولُوطًا إذْ قالَ لِقَوْمِهِ أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ ﴿أئِنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِن دُونِ النِّساءِ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلّا أنْ قالُوا أخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِن قَرْيَتِكم إنَّهم أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ ﴿فَأنْجَيْناهُ وأهْلَهُ إلّا امْرَأتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الغابِرِينَ﴾ ﴿وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَساءَ مَطَرُ المُنْذَرِينَ﴾ ﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أم مّا يُشْرِكُونَ﴾ ﴿أمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وأنْزَلَ لَكم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكم أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هم قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولُوطًا إذْ قالَ لِقَوْمِهِ أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ ﴿أئِنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِن دُونِ النِّساءِ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلّا أنْ قالُوا أخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِن قَرْيَتِكم إنَّهم أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ ﴿فَأنْجَيْناهُ وأهْلَهُ إلّا امْرَأتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الغابِرِينَ﴾ ﴿وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَساءَ مَطَرُ المُنْذَرِينَ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: واذْكُرْ لُوطًا، أوْ أرْسَلَنا لُوطًا بِدَلالَةِ: ولَقَدْ أرْسَلْنا عَلَيْهِ، وإذْ بَدَلٌ عَلى الأوَّلِ، ظَرْفٌ عَلى الثّانِي. أمّا قَوْلُهُ: ﴿أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ﴾ فَهو عَلى وجْهِ التَّنْكِيرِ، وإنْ كانَ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهامِ، ورُبَّما كانَ التَّوْبِيخُ بِمِثْلِ هَذا اللَّفْظِ أبْلَغَ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّهم كانُوا لا يَتَحاشَوْنَ مِن إظْهارِ ذَلِكَ عَلى وجْهِ الخَلاعَةِ، ولا يَتَكاتَمُونَ، وذَلِكَ أحَدُ ما لِأجْلِهِ عَظُمَ ذَلِكَ الفِعْلُ مِنهم، فَذَكَرَ في تَوْبِيخِهِ لَهم ما لَهُ عَظُمَ ذَلِكَ الفِعْلُ. وثانِيها: أنَّ المُرادَ بَصَرُ القَلْبِ أيْ تَعْلَمُونَ أنَّها فاحِشَةٌ لَمْ تُسْبَقُوا إلَيْها، وأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَخْلُقِ الذَّكَرَ لِلذَّكَرِ، فَهي مُضادَّةٌ لِلَّهِ في حِكْمَتِهِ. وثالِثُها: تُبْصِرُونَ آثارَ العُصاةِ قَبْلَكم وما نَزَلَ بِهِمْ، فَإنْ قُلْتَ: فَسَّرْتَ تُبْصِرُونَ بِالعِلْمِ وبَعْدَهُ ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ فَكَيْفَ يَكُونُونَ عُلَماءَ وجُهَلاءَ ؟ قُلْتُ: أرادَ تَفْعَلُونَ فِعْلَ الجاهِلِينَ بِأنَّها فاحِشَةٌ مَعَ عِلْمِكم بِذَلِكَ، أوْ تَجْهَلُونَ العاقِبَةَ أوْ أرادَ بِالجَهْلِ السَّفاهَةَ والمَجانَةَ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ جَهْلَهم بِأنْ حَكى عَنْهم أنَّهم أجابُوا عَنْ هَذا الكَلامِ بِما لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ جَوابًا لَهُ فَقالَ: (p-١٧٦)﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلّا أنْ قالُوا أخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِن قَرْيَتِكم إنَّهم أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ فَجَعَلُوا الَّذِي لِأجْلِهِ يُخْرَجُونَ أنَّهم يَتَطَهَّرُونَ مِن هَذا الصَّنِيعِ الفاحِشِ، وهَذا يُوجِبُ تَنْعِيمَهم وتَعْظِيمَهم أوْلى، لَكِنْ في المُفَسِّرِينَ مَن قالَ: إنَّما قالُوا ذَلِكَ عَلى وجْهِ الهُزُءِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ نَجّاهُ وأهْلَهُ إلّا امْرَأتَهُ وأهْلَكَ الباقِينَ، وقَدْ تَقَدَّمَ كُلُّ ذَلِكَ مَشْرُوحًا، واللَّهُ أعْلَمُ. وهَهُنا آخِرُ القَصَصِ في هَذِهِ السُّورَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * القَوْلُ في خِطابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ مَعَ مُحَمَّدٍ ﷺ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أمْ ما يُشْرِكُونَ﴾ فِي هَذِهِ الآيَةِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِما قَبْلَهُ مِنَ القَصَصِ، والمَعْنى: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلى إهْلاكِهِمْ، وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى بِأنْ أرْسَلَهم ونَجّاهُمُ. الثّانِي: أنَّهُ مُبْتَدَأٌ، فَإنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أحْوالَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وكانَ مُحَمَّدٌ ﷺ كالمُخالِفِ لِمَن قَبْلَهُ في أمْرِ العَذابِ؛ لِأنَّ عَذابَ الِاسْتِئْصالِ مُرْتَفِعٌ عَنْ قَوْمِهِ، أمَرَهُ تَعالى بِأنْ يَشْكُرَ رَبَّهُ عَلى ما خَصَّهُ بِهَذِهِ النِّعَمِ، وبِأنْ يُسَلِّمَ عَلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلى مَشاقِّ الرِّسالَةِ. فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أمْ ما يُشْرِكُونَ﴾ فَهو تَبْكِيتٌ لِلْمُشْرِكِينَ وتَهَكُّمٌ بِحالِهِمْ، وذَلِكَ: أنَّهم آثَرُوا عِبادَةَ الأصْنامِ عَلى عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، ولا يُؤْثِرُ عاقِلٌ شَيْئًا عَلى شَيْءٍ إلّا لِزِيادَةِ خَيْرٍ ومَنفَعَةٍ، فَقِيلَ لَهم هَذا الكَلامُ تَنْبِيهًا عَلى نِهايَةِ ضَلالِهِمْ وجَهْلِهِمْ. وقُرِئَ (يُشْرِكُونَ) بِالياءِ والتّاءِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ كانَ إذا قَرَأها قالَ: ”«بَلِ اللَّهُ خَيْرٌ وأبْقى وأجَلُّ وأكْرَمُ» “ . ثُمَّ اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ في عِدَّةِ فُصُولٍ: الفَصْلُ الأوَّلُ: في الرَّدِّ عَلى عَبَدَةِ الأوْثانِ، ومَدارُ هَذا الفَصْلِ عَلى بَيانِ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى هو الخالِقُ لِأُصُولِ النِّعَمِ وفُرُوعِها، فَكَيْفَ تَحْسُنُ عِبادَةُ ما لا مَنفَعَةَ مِنهُ البَتَّةَ ؟ ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى ذَكَرَ أنْواعًا:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب