الباحث القرآني

? (p-١٦٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ ياأيُّها المَلَأُ أيُّكم يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ ﴿قالَ عِفْريتٌ مِنَ الجِنِّ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِن مَقامِكَ وإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أمِينٌ﴾ ﴿قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ ومَن شَكَرَ فَإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ . اعْلَمْ أنَّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَ ياأيُّها المَلَأُ أيُّكم يَأْتِينِي بِعَرْشِها﴾ دَلالَةً عَلى أنَّها عَزَمَتْ عَلى اللُّحُوقِ بِسُلَيْمانَ، ودَلالَةً عَلى أنَّ أمْرَ ذَلِكَ العَرْشِ كانَ مَشْهُورًا، فَأحَبَّ أنْ يَحْصُلَ عِنْدَهُ قَبْلَ حُضُورِها، واخْتَلَفُوا في غَرَضِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن إحْضارِ ذَلِكَ العَرْشِ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ المُرادَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلالَةٌ لِبِلْقِيسَ عَلى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وعَلى نُبُوَّةِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ، حَتّى تَنْضَمَّ هَذِهِ الدَّلالَةُ إلى سائِرِ الدَّلائِلِ الَّتِي سَلَفَتْ. وثانِيها: أرادَ أنْ يُؤْتى بِذَلِكَ العَرْشِ فَيُغَيَّرَ ويُنَكَّرَ، ثُمَّ يُعْرَضَ عَلَيْها حَتّى أنَّها هَلْ تَعْرِفُهُ أوْ تُنْكِرُهُ، والمَقْصُودُ اخْتِبارُ عَقْلِها، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أتَهْتَدِي﴾ [النمل: ٤١] كالدَّلالَةِ عَلى ذَلِكَ. وثالِثُها: قالَ قَتادَةُ: أرادَ أنْ يَأْخُذَهُ قَبْلَ إسْلامِها، لِعِلْمِهِ أنَّها إذا أسْلَمَتْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أخْذُ مالِها. ورابِعُها: أنَّ العَرْشَ سَرِيرُ المَمْلَكَةِ، فَأرادَ أنْ يَعْرِفَ مِقْدارَ مَمْلَكَتِها قَبْلَ وُصُولِها إلَيْهِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿قالَ عِفْريتٌ مِنَ الجِنِّ﴾ فالعِفْرِيتُ مِنَ الرِّجالِ الخَبِيثُ المُنْكَرُ الَّذِي يُعَفِّرُ أقْرانَهُ، ومِنَ الشَّياطِينِ الخَبِيثُ المارِدُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِن مَقامِكَ﴾ فالمَعْنى مِن مَجْلِسِكَ، ولا بُدَّ فِيهِ مِن عادَةٍ مَعْلُومَةٍ حَتّى يَصِحَّ أنْ يُؤَقِّتَ، فَقِيلَ: المُرادُ مَجْلِسُ الحُكْمِ بَيْنَ النّاسِ، وقِيلَ: الوَقْتُ الَّذِي يَخْطُبُ فِيهِ النّاسَ، وقِيلَ: إلى انْتِصافِ النَّهارِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿لَقَوِيٌّ﴾ أيْ عَلى حَمْلِهِ أمِينٌ آتِي بِهِ كَما هو لا أخْتَزِلُ مِنهُ شَيْئًا. أمّا قَوْلُهُ: ﴿قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ﴾ فَفِيهِ بَحْثانِ: الأوَّلُ: اخْتَلَفُوا في ذَلِكَ الشَّخْصِ عَلى قَوْلَيْنِ: قِيلَ: كانَ مِنَ المَلائِكَةِ، وقِيلَ: كانَ مِنَ الإنْسِ، فَمَن قالَ بِالأوَّلِ اخْتَلَفُوا، قِيلَ: هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقِيلَ: هو مَلَكٌ أيَّدَ اللَّهُ تَعالى بِهِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ومَن قالَ بِالثّانِي اخْتَلَفُوا عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إنَّهُ الخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ. وثانِيها: وهو المَشْهُورُ مِن قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ: إنَّهُ آصَفُ بْنُ بَرْخِيا وزِيرُ سُلَيْمانَ، وكانَ صَدِّيقًا يَعْلَمُ الِاسْمَ الأعْظَمَ إذا دَعا بِهِ أُجِيبَ. وثالِثُها: قَوْلُ قَتادَةَ: رَجُلٌ مِنَ الإنْسِ كانَ يَعْلَمُ اسْمَ اللَّهِ الأعْظَمِ. ورابِعُها: قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ: كانَ رَجُلًا صالِحًا في جَزِيرَةٍ في البَحْرِ، خَرَجَ ذَلِكَ اليَوْمَ يَنْظُرُ إلى سُلَيْمانَ. وخامِسُها: بَلْ هو سُلَيْمانُ نَفْسُهُ. والمُخاطَبُ هو العِفْرِيتُ الَّذِي كَلَّمَهُ، وأرادَ سُلَيْمانُ عَلَيْهِ السَّلامُ إظْهارَ مُعْجِزَةٍ فَتَحَدّاهم أوَّلًا، ثُمَّ بَيَّنَ لِلْعِفْرِيتِ أنَّهُ يَتَأتّى لَهُ مِن سُرْعَةِ الإتْيانِ بِالعَرْشِ ما لا يَتَهَيَّأُ لِلْعِفْرِيتِ، وهَذا القَوْلُ أقْرَبُ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ لَفْظَةَ ”الَّذِي“ مَوْضُوعَةٌ (p-١٧٠)فِي اللُّغَةِ لِلْإشارَةِ إلى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ مُحاوَلَةِ تَعْرِيفِهِ بِقِصَّةٍ مَعْلُومَةٍ والشَّخْصُ المَعْرُوفُ بِأنَّهُ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ هو سُلَيْمانُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَوَجَبَ انْصِرافُهُ إلَيْهِ، أقْصى ما في البابِ أنْ يُقالَ: كانَ آصَفُ كَذَلِكَ أيْضًا لَكِنّا نَقُولُ: إنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ، كانَ أعْرَفَ بِالكِتابِ مِنهُ لِأنَّهُ هو النَّبِيُّ، فَكانَ صَرْفُ هَذا اللَّفْظِ إلى سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ أوْلى. الثّانِي: أنَّ إحْضارَ العَرْشِ في تِلْكَ السّاعَةِ اللَّطِيفَةِ دَرَجَةٌ عالِيَةٌ، فَلَوْ حَصَلَتْ لِآصَفَ دُونَ سُلَيْمانَ لاقْتَضى ذَلِكَ تَفْضِيلَ آصَفَ عَلى سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وإنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ. الثّالِثُ: أنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَوِ افْتَقَرَ في ذَلِكَ إلى وصْفٍ لاقْتَضى ذَلِكَ قُصُورَ حالِ سُلَيْمانَ في أعْيُنِ الخَلْقِ. الرّابِعُ: أنَّ سُلَيْمانَ قالَ: ﴿هَذا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ﴾ وظاهِرُهُ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ ذَلِكَ المُعْجِزُ قَدْ أظْهَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِدُعاءِ سُلَيْمانَ. البَحْثُ الثّانِي: اخْتَلَفُوا في الكِتابِ، فَقِيلَ: اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، والَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ. وقِيلَ: كِتابُ سُلَيْمانَ، أوْ كِتابُ بَعْضِ الأنْبِياءِ، ومَعْلُومٌ في الجُمْلَةِ أنَّ ذَلِكَ مَدْحٌ، وأنَّ لِهَذا الوَصْفِ تَأْثِيرًا في نَقْلِ ذَلِكَ العَرْشِ، فَلِذَلِكَ قالُوا: إنَّهُ الِاسْمُ الأعْظَمُ وإنَّ عِنْدَهُ وقَعَتِ الإجابَةُ مِنَ اللَّهِ تَعالى في أسْرَعِ الأوْقاتِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ فَفِيهِ بَحْثانِ: الأوَّلُ: آتِيكَ في المَوْضِعَيْنِ، يَجُوزُ أنْ يَكُونَ فِعْلًا واسْمَ فاعِلٍ. الثّانِي: اخْتَلَفُوا في قَوْلِهِ: ﴿قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ عَلى وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ أرادَ المُبالَغَةَ في السُّرْعَةِ، كَما تَقُولُ لِصاحِبِكَ: افْعَلْ ذَلِكَ في لَحْظَةٍ، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ. الثّانِي: أنْ نُجْرِيَهُ عَلى ظاهِرِهِ، والطَّرْفُ تَحْرِيكُ الأجْفانِ عِنْدَ النَّظَرِ، فَإذا فَتَحْتَ الجَفْنَ فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أنَّ نُورَ العَيْنِ امْتَدَّ إلى المَرْئِيِّ، وإذا أغْمَضْتَ الجَفْنَ فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أنَّ ذَلِكَ النُّورَ ارْتَدَّ إلى العَيْنِ، فَهَذا هو المُرادُ مِنَ ارْتِدادِ الطَّرَفِ وهَهُنا سُؤالٌ: وهو أنَّهُ كَيْفَ يَجُوزُ والمَسافَةُ بَعِيدَةٌ أنْ يَنْقُلَ العَرْشَ في هَذا القَدْرِ مِنَ الزَّمانِ، وهَذا يَقْتَضِي إمّا القَوْلَ بِالطَّفْرَةِ أوْ حُصُولَ الجِسْمِ الواحِدِ دُفْعَةً واحِدَةً في مَكانَيْنِ جَوابُهُ: أنَّ المُهَنْدِسِينَ قالُوا: كُرَةُ الشَّمْسِ مِثْلُ كُرَةِ الأرْضِ مِائَةً وأرْبَعَةً وسِتِّينَ مَرَّةً، ثُمَّ إنَّ زَمانَ طُلُوعِها زَمانٌ قَصِيرٌ. فَإذا قَسَمْنا زَمانَ طُلُوعِ تَمامِ القُرْصِ عَلى زَمانِ القَدْرِ الَّذِي بَيْنَ الشّامِ واليَمَنِ كانَتِ اللَّمْحَةُ كَثِيرَةً فَلَمّا ثَبَتَ عَقْلًا إمْكانُ وُجُودِ هَذِهِ الحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ، وثَبَتَ أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ زالَ السُّؤالُ، ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا ﴿رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ﴾ والكَلامُ في تَفْسِيرِ الِابْتِلاءِ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بَيَّنَ أنَّ نَفْعَ الشُّكْرِ عائِدٌ إلى الشّاكِرِ لا إلى اللَّهِ تَعالى، أمّا أنَّهُ عائِدٌ إلى الشّاكِرِ فَلِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ ما وجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ. وثانِيها: أنَّهُ يَسْتَمِدُّ بِهِ المَزِيدَ عَلى ما قالَ: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧] . وثالِثُها: أنَّ المُشْتَغِلَ بِالشُّكْرِ مُشْتَغِلٌ بِاللَّذّاتِ الحِسِّيَّةِ وفَرْقُ ما بَيْنَهُما كَفَرْقِ ما بَيْنَ المُنْعِمِ والنِّعْمَةِ في الشَّرَفِ، ثم قال: ﴿ومَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ غَنِيٌ عَنْ شُكْرِهِ لا يَضُرُّهُ كُفْرانُهُ، كَرِيمٌ لا يَقْطَعُ عَنْهُ نِعَمَهُ بِسَبَبِ إعْراضِهِ عَنِ الشُّكْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب