الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّماواتِ والأرْضِ ويَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ﴾ ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ ﴿قالَ سَنَنْظُرُ أصَدَقْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ ﴿اذْهَبْ بِكِتابِي هَذا فَألْقِهِ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهم فانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ﴾ . وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: اعْلَمْ أنَّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألّا يَسْجُدُوا﴾ قِراءاتٍ أحَدُها: قِراءَةُ مَن قَرَأ بِالتَّخْفِيفِ ”ألا“ (p-١٦٥)لِلتَّنْبِيهِ ويا حَرْفُ النِّداءِ ومُناداهُ مَحْذُوفٌ، كَما حَذَفَهُ مَن قالَ: ؎ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ عَلى البِلى [ ولا زالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعائِكِ القَطْرُ ] وثانِيها: بِالتَّشْدِيدِ أرادَ فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ لِئَلّا يَسْجُدُوا، فَحَذَفَ الجارَّ مَعَ أنْ ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ لا مَزِيدَةً، ويَكُونُ المَعْنى فَهم لا يَهْتَدُونَ إلّا أنْ يَسْجُدُوا. وثالِثُها: وهي حَرْفُ عَبْدِ اللَّهِ وقِراءَةُ الأعْمَشِ هَلّا بِقَلْبِ الهَمْزَةِ هاءً، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ هَلّا تَسْجُدُونَ بِمَعْنى ألا تَسْجُدُونَ عَلى الخِطابِ. ورابِعُها: قِراءَةُ أُبَيٍّ ”ألا يَسْجُدُونَ لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّماواتِ والأرْضِ ويَعْلَمُ سِرَّكم وما تُعْلِنُونَ“ . المسألة الثّانِيَةُ: قالَ أهْلُ التَّحْقِيقِ قَوْلُهُ: ﴿ألّا يَسْجُدُوا﴾ يَجِبُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الأمْرِ لِأنَّهُ لَوْ كانَ بِمَعْنى المَنعِ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَكُنْ لِوَصْفِهِ تَعالى بِما يُوجِبُ أنْ يَكُونَ السُّجُودُ لَهُ وهو كَوْنُهُ قادِرًا عَلى إخْراجِ الخَبْءِ عالِمًا بِالأسْرارِ مَعْنًى. * * * المسألة الثّالِثَةُ: الآيَةُ دَلَّتْ عَلى وصْفِ اللَّهِ تَعالى بِالقُدْرَةِ والعِلْمِ، أمّا القُدْرَةُ فَقَوْلُهُ: ﴿يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وسَمّى المَخْبُوءَ بِالمَصْدَرِ، وهو يَتَناوَلُ جَمِيعَ أنْواعِ الأرْزاقِ والأمْوالِ وإخْراجُهُ مِنَ السَّماءِ بِالغَيْثِ، ومِنَ الأرْضِ بِالنَّباتِ. وأمّا العِلْمُ فَقَوْلُهُ: ﴿ويَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ﴾ . واعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الكَلامِ الرَّدُّ عَلى مَن يَعْبُدُ الشَّمْسَ وتَحْرِيرُ الدَّلالَةِ هَكَذا: الإلَهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ قادِرًا عَلى إخْراجِ الخَبْءِ وعالِمًا بِالخَفِيّاتِ، والشَّمْسُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَهي لا تَكُونُ إلَهًا وإذا لَمْ تَكُنْ إلَهًا لَمْ يَجُزِ السُّجُودُ لَها، أمّا أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى يَجِبُ أنْ يَكُونَ قادِرًا عالِمًا عَلى الوجه المَذْكُورِ، فَلَمّا أنَّهُ واجِبٌ لِذاتِهِ فَلا تَخْتَصُّ قادِرِيَّتُهُ وعالَمِيَّتُهُ بِبَعْضِ المَقْدُوراتِ والمَعْلُوماتِ دُونَ البَعْضِ، وأمّا أنَّ الشَّمْسَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلِأنَّها جِسْمٌ مُتَناهٍ، وكُلُّ ما كانَ مُتَناهِيًا في الذّاتِ كانَ مُتَناهِيًا في الصِّفاتِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لا يُعْلَمُ كَوْنُها قادِرَةً عَلى إخْراجِ الخَبْءِ عالِمَةً بِالخَفِيّاتِ، فَإذا لَمْ يُعْلَمْ مِن حالِها ذَلِكَ لَمْ يُعْلَمْ مِن حالِها كَوْنُها قادِرَةً عَلى جَلْبِ المَنافِعِ ودَفْعِ المَضارِّ، فَرَجَعَ حاصِلُ الدَّلالَةِ إلى ما ذَكَرَهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ: ﴿لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم: ٤٢] وفي قَوْلِهِ: ﴿لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وجْهٌ آخَرُ وهو أنَّ هَذا إشارَةٌ إلى ما اسْتَدَلَّ بِهِ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْلِهِ: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] وفي قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ﴾ [البقرة: ٢٥٨] وذَلِكَ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى هو الَّذِي يُخْرِجُ الشَّمْسَ مِنَ المَشْرِقِ بَعْدَ أُفُولِها في المَغْرِبِ فَهَذا هو إخْراجُ الخَبْءِ في السَّماواتِ وهو المُرادُ مِن قَوْلِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ [الأنعام: ٧٦] وحاصِلُهُ يَرْجِعُ إلى أنَّ أُفُولَ الشَّمْسِ وطُلُوعَها يَدُلّانِ عَلى كَوْنِها تَحْتَ تَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ قاهِرٍ فَكانَتِ العِبادَةُ لِقاهِرِها والمُتَصَرِّفِ فِيها أوْلى، وأمّا إخْراجُ الخَبْءِ مِنَ الأرْضِ فَهو يَتَناوَلُ إخْراجَ النُّطْفَةِ مِنَ الصُّلْبِ والتَّرائِبِ وتَكْوِينَ الجَنِينِ مِنهُ، فَإنْ قِيلَ: إنَّ إبْراهِيمَ ومُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ قَدَّما دَلالَةَ الأنْفُسِ عَلى دَلالَةِ الآفاقِ فَإنَّ إبْراهِيمَ قالَ: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ ثم قال: ﴿فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ﴾ ومُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ﴿رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ [الشعراء: ٢٦] ثم قال: ﴿رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾ فَلِمَ كانَ الأمْرُ هَهُنا بِالعَكْسِ فَقَدَّمَ خَبْءَ السَّماواتِ عَلى خَبْءِ الأرْضِ ؟ جَوابُهُ: أنَّ إبْراهِيمَ ومُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ ناظَرا مَعَ مَنِ ادَّعى إلَهِيَّةَ البَشَرِ، فَلا جَرَمَ ابْتَدَءا بِإبْطالِ إلَهِيَّةِ البَشَرِ ثُمَّ انْتَقَلا إلى إبْطالِ إلَهِيَّةِ السَّماواتِ، وهَهُنا المُناظَرَةُ مَعَ مَنِ ادَّعى إلَهِيَّةَ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ: (p-١٦٦)﴿وجَدْتُها وقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ فَلا جَرَمَ ابْتَدَأ بِذِكْرِ السَّماوِيّاتِ ثُمَّ بِالأرْضِيّاتِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ فالمُرادُ مِنهُ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا بَيَّنَ افْتِقارَ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما إلى المُدَبِّرِ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أنَّ ما هو أعْظَمُ الأجْسامِ فَهي مَخْلُوقَةٌ ومَرْبُوبَةٌ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ هو المُنْتَهى في القُدْرَةِ والرُّبُوبِيَّةِ إلى ما لا يَزِيدُ عَلَيْهِ واللَّهُ أعْلَمُ. المسألة الرّابِعَةُ: قِيلَ مِن ”أحَطْتُ“ إلى ”العَظِيمِ“ كَلامُ الهُدْهُدِ وقِيلَ كَلامُ رَبِّ العِزَّةِ. * * * المسألة الخامِسَةُ: الحَقُّ أنَّ سَجْدَةَ التِّلاوَةِ واجِبَةٌ في القِراءَتَيْنِ جَمِيعًا وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ وأبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِما لِأنَّهم أجْمَعُوا عَلى أنَّ سَجَداتِ القُرْآنِ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، وهَذا واحِدٌ مِنها ولِأنَّ مَواضِعَ السَّجْدَةِ إمّا أمْرٌ بِها أوْ مَدْحٌ لِمَن أتى بِها أوْ ذَمٌّ لِمَن تَرَكَها، وإحْدى القِراءَتَيْنِ أمْرٌ بِالسُّجُودِ والأُخْرى ذَمٌّ لِلتّارِكِ فَثَبَتَ أنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ مِن وُجُوبِ السَّجْدَةِ مَعَ التَّخْفِيفِ دُونَ التَّشْدِيدِ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إلَيْهِ. المسألة السّادِسَةُ: يُقالُ: هَلْ يُفَرِّقُ الواقِفُ بَيْنَ القِراءَتَيْنِ ؟ جَوابُهُ: نَعَمْ إذا خَفَّفَ وقَفَ عَلى ﴿فَهم لا يَهْتَدُونَ﴾ ثُمَّ ابْتَدَأ بِ (?ألا يَسْجُدُوا ) وإنْ شاءَ وقَفَ عَلى ”ألا يا“ ثُمَّ ابْتَدَأ ”اسْجُدُوا“ وإذا شَدَّدَ لَمْ يَقِفْ إلّا عَلى ”العَرْشِ العَظِيمِ“ . أمّا قَوْلُهُ: ﴿سَنَنْظُرُ﴾ فَمِنَ النَّظَرِ الَّذِي هو التَّأمُّلُ، وأرادَ صَدَقْتَ أمْ كَذَبْتَ إلّا أنَّ ﴿أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ أبْلَغُ، لِأنَّهُ إذا كانَ مَعْرُوفًا بِالكَذِبِ كانَ مُتَّهَمًا بِالكَذِبِ فِيما أخْبَرَ بِهِ فَلَمْ يُوثَقْ بِهِ، وإنَّما قالَ: ﴿فَألْقِهِ إلَيْهِمْ﴾ عَلى لَفْظِ الجَمْعِ لِأنَّهُ قالَ: ﴿وجَدْتُها وقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ﴾ فَقالَ: ﴿فَألْقِهِ إلَيْهِمْ﴾ أيْ إلى الَّذِينَ هَذا دِينُهم. أمّا قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أيْ تَنَحَّ عَنْهم إلى مَكانٍ قَرِيبٍ تَتَوارى فِيهِ لِيَكُونَ ما يَقُولُونَهُ بِمَسْمَعٍ مِنكَ و﴿يَرْجِعُونَ﴾ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَرْجِعُ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ القَوْلَ﴾ [سبأ: ٣٠] ويُقالُ دَخَلَ عَلَيْها مِن كُوَّةٍ وألْقى إلَيْها الكِتابَ وتَوارى في الكُوَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب