الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أرى الهُدْهُدَ أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ﴾ ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أوْ لَأذْبَحَنَّهُ أوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أحَطتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ ﴿إنِّي وجَدْتُ امْرَأةً تَمْلِكُهم وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿وجَدْتُها وقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهم فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ فَهم لا يَهْتَدُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا تَفَقَّدَ الطَّيْرَ أوْهَمَ ذَلِكَ أنَّهُ إنَّما تَفَقَّدَهُ لِأمْرٍ يَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ الطَّيْرُ، واخْتَلَفُوا فِيما لِأجْلِهِ تَفَقَّدَهُ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: قَوْلُ وهْبٍ أنَّهُ أخَلَّ بِالنَّوْبَةِ الَّتِي كانَ يَنُوبُها فَلِذَلِكَ تَفَقَّدَهُ. (p-١٦٣)وثانِيها: أنَّهُ تَفَقَّدَهُ لِأنَّ مَقايِيسَ الماءِ كانَتْ إلَيْهِ، وكانَ يَعْرِفُ الفَصْلَ بَيْنَ قَرِيبِهِ وبَعِيدِهِ، فَلِحاجَةِ سُلَيْمانَ إلى ذَلِكَ طَلَبَهُ وتَفَقَّدَهُ. وثالِثُها: أنَّهُ كانَ يُظِلُّهُ مِنَ الشَّمْسِ، فَلَمّا فَقَدَ ذَلِكَ تَفَقَّدَهُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَقالَ ما لِيَ لا أرى الهُدْهُدَ أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ﴾ فَأمْ هي المُنْقَطِعَةُ نَظَرَ إلى مَكانِ الهُدْهُدِ فَلَمْ يُبْصِرْهُ فَقالَ: ما لِيَ لا أراهُ، عَلى مَعْنى أنَّهُ لا يَراهُ وهو حاضِرٌ لِساتِرٍ سَتَرَهُ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ لاحَ لَهُ أنَّهُ غائِبٌ فَأضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ وأخَذَ يَقُولُ: أهْوَ غائِبٌ ؟ كَأنَّهُ يَسْألُ عَنْ صِحَّةِ ما لاحَ لَهُ، ومِثْلُهُ قَوْلُهم: إنَّها لَإبِلٌ أمْ شاءٌ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أوْ لَأذْبَحَنَّهُ أوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ فَهَذا لا يَجُوزُ أنْ يَقُولَهُ إلّا فِيمَن هو مُكَلَّفٌ أوْ فِيمَن قارَبَ العَقْلَ فَيَصْلُحُ لِأنْ يُؤَدَّبَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في قَوْلِهِ: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّهُ نَتْفُ الرِّيشِ والإلْقاءُ في الشَّمْسِ، وقِيلَ: أنْ يُطْلى بِالقَطِرانِ ويُشَمَّسُ، وقِيلَ: أنْ يُلْقى لِلنَّمْلِ فَتَأْكُلُهُ، وقِيلَ: إيداعُهُ القَفَصَ، وقِيلَ: التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ إلْفِهِ، وقِيلَ: لَأُلْزِمَنَّهُ صُحْبَةَ الأضْدادِ، وعَنْ بَعْضِهِمْ: أضْيَقُ السُّجُونِ مُعاشَرَةُ الأضْدادِ، وقِيلَ: لَأُلْزِمَنَّهُ خِدْمَةَ أقْرانِهِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَمَكَثَ﴾ فَقَدْ قُرِئَ بِفَتْحِ الكافِ وضَمِّها ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ كَقَوْلِكَ عَنْ قَرِيبٍ، ووَصَفَ مُكْثَهُ بِقِصَرِ المُدَّةِ لِلدَّلالَةِ عَلى إسْراعِهِ خَوْفًا مِن سُلَيْمانَ ولِيُعْلَمَ كَيْفَ كانَ الطَّيْرُ مُسَخَّرًا لَهُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿أحَطتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِسُلَيْمانَ عَلى أنَّ في أدْنى خَلْقِ اللَّهِ تَعالى مَن أحاطَ عِلْمًا بِما لَمْ يُحِطْ بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لُطْفًا في تَرْكِ الإعْجابِ، والإحاطَةُ بِالشَّيْءِ عِلْمًا أنْ يُعْلَمَ مِن جَمِيعِ جِهاتِهِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ فاعْلَمْ أنَّ سَبَأً قُرِئَ بِالصَّرْفِ ومَنعِهِ، وقَدْ رُوِيَ بِسُكُونِ الباءِ، وعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ في رِوايَةِ سَبا بِالألْفِ كَقَوْلِهِمْ: ذَهَبُوا أيْدِيَ سَبا وهو سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطانَ، فَمَن جَعَلَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ لَمْ يَصْرِفْ، ومِن جَعَلَهُ اسْمًا لِلْحَيِّ أوْ لِلْأبِ الأكْبَرِ صَرَفَ، ثُمَّ سُمِّيَتْ مَدِينَةُ مَأْرِبَ بِسَبَأٍ وبَيْنَها وبَيْنَ صَنْعاءَ مَسِيرَةُ ثَلاثَةِ أيّامٍ، والنَّبَأُ الخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ. وقَوْلُهُ: ﴿مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ مِن مَحاسِنَ الكَلامِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ وشَرْطُ حُسْنِهِ صِحَّةُ المَعْنى، ولَقَدْ جاءَ هَهُنا زائِدًا عَلى الصِّحَّةِ فَحَسُنَ لَفْظًا ومَعْنًى، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ وضَعَ مَكانَ ”بِنَبَأٍ“ بِخَبَرٍ لَكانَ المَعْنى صَحِيحًا، ولَكِنَّ لَفْظَ النَّبَأِ أوْلى لِما فِيهِ مِنَ الزِّيادَةِ الَّتِي يُطابِقُها وصْفُ الحالِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنِّي وجَدْتُ امْرَأةً تَمْلِكُهُمْ﴾ فالمَرْأةُ بِلْقِيسُ بِنْتُ شَراحِيلَ، وكانَ أبُوها مَلِكُ أرْضِ اليَمَنِ وكانَتْ هي وقَوْمُها مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، والضَّمِيرُ في تَمْلِكُهم راجِعٌ إلى سَبَأٍ، فَإنْ أُرِيدَ بِهِ القَوْمُ فالأمْرُ ظاهِرٌ، وإنْ أُرِيدَتِ المَدِينَةُ فَمَعْناهُ تَمْلِكُ أهْلَها. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ فَفِيهِ سُؤالٌ وهو أنَّهُ كَيْفَ قالَ: ﴿وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ مَعَ قَوْلِ سُلَيْمانَ ﴿وأُوتِينا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ فَكَأنَّ الهُدْهُدَ سَوّى بَيْنَهُما ؟ جَوابُهُ: أنَّ قَوْلَ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَرْجِعُ إلى ما أُوتِيَ مِنَ النُّبُوَّةِ والحِكْمَةِ، ثُمَّ إلى المُلْكِ وأسْبابِ الدُّنْيا، وأمّا قَوْلُ الهُدْهُدِ فَلَمْ يَكُنْ إلّا إلى ما يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيا. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ فَفِيهِ سُؤالٌ، وهو أنَّهُ كَيْفَ اسْتَعْظَمَ الهُدْهُدُ عَرْشَها مَعَ ما كانَ يَرى مِن مُلْكِ سُلَيْمانَ ؟ وأيْضًا فَكَيْفَ سَوّى بَيْنِ عَرْشِ بِلْقِيسَ وعَرْشِ اللَّهِ تَعالى في الوَصْفِ بِالعَظِيمِ ؟ والجَوابُ عَنِ (p-١٦٤)الأوَّلِ: يَجُوزُ أنْ يَسْتَصْغِرَ حالَها إلى حالِ سُلَيْمانَ فاسْتَعْظَمَ لَها ذَلِكَ العَرْشَ، ويَجُوزُ أنْ لا يَكُونَ لِسُلَيْمانَ مَعَ جَلالَتِهِ مِثْلُهُ كَما قَدْ يَتَّفِقُ لِبَعْضِ الأُمَراءِ شَيْءٌ لا يَكُونُ مِثْلُهُ عِنْدَ السُّلْطانِ. وعَنِ الثّانِي: أنَّ وصْفَ عَرْشِها بِالعِظَمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالإضافَةِ إلى عُرُوشِ أبْناءِ جِنْسِها مِنَ المُلُوكِ ووَصْفَ عَرْشِ اللَّهِ بِالعِظَمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلى سائِرِ ما خَلَقَ مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ، واعْلَمْ أنَّ هَهُنا بَحْثَيْنِ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ المَلاحِدَةَ طَعَنَتْ في هَذِهِ القِصَّةِ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ هَذِهِ الآياتِ اشْتَمَلَتْ عَلى أنَّ النَّمْلَةَ والهُدْهُدَ تَكَلَّما بِكَلامٍ لا يَصْدُرُ ذَلِكَ الكَلامُ إلّا مِنَ العُقَلاءِ وذَلِكَ يَجُرُّ إلى السَّفْسَطَةِ، فَإنّا لَوْ جَوَّزْنا ذَلِكَ لَما أمِنّا في النَّمْلَةِ الَّتِي نُشاهِدُها في زَمانِنا هَذا، أنْ تَكُونَ أعْلَمَ بِالهَنْدَسَةِ مِن إقْلِيدِسَ، وبِالنَّحْوِ مِن سِيبَوَيْهِ، وكَذا القَوْلُ في القَمْلَةِ والصِّئْبانِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ فِيهِمُ الأنْبِياءُ والتَّكالِيفُ والمُعْجِزاتُ، ومَعْلُومٌ أنَّ مَن جَوَّزَ ذَلِكَ كانَ إلى الجُنُونِ أقْرَبَ. وثانِيها: أنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ بِالشّامِ فَكَيْفَ طارَ الهُدْهُدُ في تِلْكَ اللَّحْظَةِ اللَّطِيفَةِ مِنَ الشّامِ إلى اليَمَنِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ ؟ . وثالِثُها: كَيْفَ خَفِيَ عَلى سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ حالَ مِثْلِ تِلْكَ المَلِكَةِ العَظِيمَةِ مَعَ ما يُقالُ إنَّ الجِنَّ والإنْسَ كانُوا في طاعَةِ سُلَيْمانَ، وإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مَلِكَ الدُّنْيا بِالكُلِّيَّةِ وكانَ تَحْتَ رايَةِ بِلْقِيسَ عَلى ما يُقالُ اثْنا عَشَرَ ألْفَ مَلِكٍ تَحْتَ رايَةِ كُلِّ واحِدٍ مِنهم مِائَةُ ألْفٍ، ومَعَ أنَّهُ يُقالُ: إنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ سُلَيْمانَ وبَيْنَ بَلْدَةِ بِلْقِيسَ حالَ طَيَرانِ الهُدْهُدِ إلّا مَسِيرَةُ ثَلاثَةِ أيّامٍ. ورابِعُها: مَن أيْنَ حَصَلَ لِلْهُدْهُدِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعالى ووُجُوبُ السُّجُودِ لَهُ وإنْكارُ سُجُودِهِمْ لِلشَّمْسِ وإضافَتُهُ إلى الشَّيْطانِ وتَزْيِينُهُ ؟ والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ ذَلِكَ الِاحْتِمالَ قائِمٌ في أوَّلِ العَقْلِ، وإنَّما يُدْفَعُ ذَلِكَ بِالإجْماعِ، وعَنِ البَواقِي أنَّ الإيمانَ بِافْتِقارِ العالَمِ إلى القادِرِ المُخْتارِ يُزِيلُ هَذِهِ الشُّكُوكَ. البَحْثُ الثّانِي: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: قَوْلُهُ: ﴿يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ فِعْلَ العَبْدِ مِن جِهَتِهِ لِأنَّهُ تَعالى أضافَ ذَلِكَ إلى الشَّيْطانِ بَعْدَ إضافَتِهِ إلَيْهِمْ ولِأنَّهُ أوْرَدَهُ مَوْرِدَ الذَّمِّ ولِأنَّهُ بَيَّنَ أنَّهم لا يَهْتَدُونَ والجَوابُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ هَذا قَوْلُ الهُدْهُدِ فَلا يَكُونُ حُجَّةً. وثانِيها: أنَّهُ مَتْرُوكُ الظّاهِرِ، فَإنَّهُ قالَ: ﴿فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ﴾ وعِنْدَهُمُ الشَّيْطانُ ما صَدَّ الكافِرَ عَنِ السَّبِيلِ إذْ لَوْ كانَ مَصْدُودًا مَمْنُوعًا لَسَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ، فَلَمْ يَبْقَ هَهُنا إلّا التَّمَسُّكُ بِفَصْلِ المَدْحِ والذَّمِّ والجَوابُ: قَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ مِرارًا فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب