الباحث القرآني

وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والطَّيْرِ﴾ فالحَشْرُ هو الإحْضارُ والجَمْعُ مِنَ الأماكِنِ المُخْتَلِفَةِ، والمَعْنى أنَّهُ جَعَلَ اللَّهُ تَعالى كُلَّ هَذِهِ الأصْنافِ جُنُودَهُ ولا يَكُونُ كَذَلِكَ إلّا بِأنْ يَتَصَرَّفَ عَلى مُرادِهِ، ولا يَكُونُ كَذَلِكَ إلّا مَعَ العَقْلِ الَّذِي يَصِحُّ مَعَهُ التَّكْلِيفُ، أوْ يَكُونُ بِمَنزِلَةِ المُراهِقِ الَّذِي قَدْ قارَبَ حَدَّ التَّكْلِيفِ فَلِذَلِكَ قُلْنا: إنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ الطَّيْرَ في أيّامِهِ مِمّا لَهُ عَقْلٌ، ولَيْسَ كَذَلِكَ حالُ الطُّيُورِ في أيّامِنا وإنْ كانَ فِيها ما قَدْ ألْهَمَهُ اللَّهُ تَعالى الدَّقائِقَ الَّتِي خُصَّتْ بِالحاجَةِ إلَيْها أوْ خَصَّها اللَّهُ بِها لِمَنافِعِ العِبادِ كالنَّحْلِ وغَيْرِهِ. (p-١٦١)وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَهم يُوزَعُونَ﴾ مَعْناهُ يُحْبَسُونَ وهَذا لا يَكُونُ إلّا إذا كانَ في كُلِّ قَبِيلٍ مِنها وازِعٌ، ويَكُونُ لَهُ تَسَلُّطٌ عَلى مَن يَرُدُّهُ ويَكُفُّهُ ويَصْرِفُهُ، فالظّاهِرُ يَشْهَدُ بِهَذا القَدْرِ والَّذِي جاءَ في الخَبَرِ مِن أنَّهم كانُوا يَمْنَعُونَ مَن يَتَقَدَّمُ لِيَكُونَ مَسِيرُهُ مَعَ جُنُودِهِ عَلى تَرْتِيبٍ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى إذا أتَوْا عَلى وادِي النَّمْلِ﴾ فَقِيلَ هو وادٍ بِالشّامِ كَثِيرُ النَّمْلِ، ويُقالُ لَهُ لِمَ عَدّى ﴿أتَوْا﴾ بِعَلى ؟ فَجَوابُهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ إتْيانَهم كانَ مِن فَوْقُ فَأتى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلاءِ. والثّانِي: أنْ يُرادَ قَطْعُ الوادِي وبُلُوغُ آخِرِهِ مِن قَوْلِهِمْ أتى عَلى الشَّيْءِ إذا بَلَغَ آخِرَهُ كَأنَّهم أرادُوا أنْ يَنْزِلُوا عِنْدَ مُنْقَطَعِ الوادِي، وقُرِئَ ”نَمُلَةٌ يا أيُّها النُّمُلُ“ بِضَمِّ المِيمِ وبِضَمِّ النُّونِ والمِيمِ وكانَ الأصْلُ النَّمُلَ بِوَزْنِ الرَّجُلِ والنَّمْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الِاسْتِعْمالُ تَخْفِيفٌ عَنْهُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَتْ نَمْلَةٌ﴾ فالمَعْنى أنَّها تَكَلَّمَتْ بِذَلِكَ وهَذا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ فِيها العَقْلَ والنُّطْقَ. وعَنْ قَتادَةَ: أنَّهُ دَخَلَ الكُوفَةَ فالتَفَّ عَلَيْهِ النّاسُ فَقالَ: سَلُوا عَمّا شِئْتُمْ وكانَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حاضِرًا وهو غُلامٌ حَدَثٌ فَقالَ: سَلُوهُ عَنْ نَمْلَةِ سُلَيْمانَ أكانَتْ ذَكَرًا أمْ أُنْثى ؟ فَسَألُوهُ فَأُفْحِمَ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كانَتْ أُنْثى، فَقِيلَ لَهُ: مَن أيْنَ عَرَفْتَ ؟ فَقالَ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى وهو قَوْلُهُ: ﴿قالَتْ نَمْلَةٌ﴾ ولَوْ كانَ ذَكَرًا لَقالَ ”قالَ نَمْلَةٌ“، وذَلِكَ لِأنَّ النَّمْلَةَ مِثْلُ الحَمامَةِ والشّاةِ في وُقُوعِها عَلى الذَّكَرِ والأُنْثى فَيُمَيَّزُ بَيْنَهُما بِعَلامَةٍ نَحْوُ قَوْلِهِمْ حَمامَةٌ ذَكَرٌ وحَمامَةٌ أُنْثى وهو وهي. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ﴾ فاعْلَمْ أنَّ النَّمْلَةَ لَمّا قارَبَتْ حَدَّ العَقْلِ، لا جَرَمَ ذُكِرَتْ بِما يُذْكَرُ بِهِ العُقَلاءُ فَلِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ﴾ فَإنْ قُلْتَ: ﴿لا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ ما هو ؟ قُلْتُ: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ جَوابًا لِلْأمْرِ وأنْ يَكُونَ نَهْيًا بَدَلًا مِنَ الأمْرِ، والمَعْنى: لا تَكُونُوا حَيْثُ أنْتُمْ فَيَحْطِمَنَّكم عَلى طَرِيقَةِ: لا أرَيَنَّكَ هَهُنا. وفِي هَذِهِ الآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلى أُمُورٍ: أحَدُها: أنَّ مَن يَسِيرُ في الطَّرِيقِ لا يَلْزَمُهُ التَّحَرُّزُ، وإنَّما يَلْزَمُ مَن في الطَّرِيقِ التَّحَرُّزُ. وثانِيها: أنَّ النَّمْلَةَ قالَتْ: ﴿وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ كَأنَّها عَرَفَتْ أنَّ النَّبِيَّ مَعْصُومٌ فَلا يَقَعُ مِنهُ قَتْلُ هَذِهِ الحَيَواناتِ إلّا عَلى سَبِيلِ السَّهْوِ، وهَذا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلى وُجُوبِ الجَزْمِ بِعِصْمَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. وثالِثُها: ما رَأيْتُ في بَعْضِ الكُتُبِ أنَّ تِلْكَ النَّمْلَةَ إنَّما أمَرَتْ غَيْرَها بِالدُّخُولِ لِأنَّها خافَتْ عَلى قَوْمِها أنَّها إذا رَأتْ سُلَيْمانَ في جَلالَتِهِ، فَرُبَّما وقَعَتْ في كُفْرانِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعالى وهَذا هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿لا يَحْطِمَنَّكم سُلَيْمانُ﴾ فَأمَرَتْها بِالدُّخُولِ في مَساكِنِها لِئَلّا تَرى تِلْكَ النِّعَمِ فَلا تَقَعُ في كُفْرانِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعالى، وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ مُجالَسَةَ أرْبابِ الدُّنْيا مَحْذُورَةٌ. ورابِعُها: قُرِئَ ”مَسْكَنَكم“ و”لا يَحْطِمَنكم“ بِتَخْفِيفِ النُّونِ، وقُرِئَ ”لا يَحْطَمَنَّكم“ بِفَتْحِ الطّاءِ وكَسْرِها وأصْلُها يَحْطِمَنَّكم. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَبَسَّمَ ضاحِكًا مِن قَوْلِها﴾ يَعْنِي تَبَسَّمَ شارِعًا في الضَّحِكِ، يَعْنِي أنَّهُ قَدْ تَجاوَزَ حَدَّ التَّبَسُّمِ إلى الضَّحِكِ، وإنَّما ضَحِكَ لِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: إعْجابُهُ بِما دَلَّ مِن قَوْلِها عَلى ظُهُورِ رَحْمَتِهِ ورَحْمَةِ جُنُودِهِ وعَلى شُهْرَةِ حالِهِ وحالِهِمْ في بابِ التَّقْوى، وذَلِكَ قَوْلُها: ﴿وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ . والثّانِي: سُرُورُهُ بِما آتاهُ اللَّهُ مِمّا لَمْ يُؤْتِ أحَدًا مِن سَماعِهِ لِكَلامِ النَّمْلَةِ وإحاطَتِهِ بِمَعْناهُ. (p-١٦٢)أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبِّ أوْزِعْنِي﴾ فَقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: حَقِيقَةُ أوْزِعْنِي: اجْعَلْنِي أزَعُ شُكْرَ نِعْمَتِكَ عِنْدِي وأكُفُّهُ عَنْ أنْ يَنْقَلِبَ عَنِّي، حَتّى أكُونَ شاكِرًا لَكَ أبَدًا، وهَذا يَدُلُّ عَلى مَذْهَبِنا فَإنَّ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ كُلَّ ما أمْكَنَ فِعْلُهُ مِنَ الألْطافِ فَقَدْ صارَتْ مَفْعُولَةً وطَلَبَ تَحْصِيلِ الحاصِلِ عَبَثٌ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَلى والِدَيَّ﴾ فَذَلِكَ لِأنَّهُ عَدَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعالى عَلى والِدَيْهِ نِعْمَةً عَلَيْهِ. ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وأنْ أعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ﴾ طَلَبَ الإعانَةَ في الشُّكْرِ وفي العَمَلِ الصّالِحِ، ثم قال: ﴿وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحِينَ﴾ فَلَمّا طَلَبَ في الدُّنْيا الإعانَةَ عَلى الخَيْراتِ طَلَبَ أنْ يُجْعَلَ في الآخِرَةِ مِنَ الصّالِحِينَ، وقَوْلُهُ: ﴿بِرَحْمَتِكَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ بِرَحْمَتِهِ وفَضْلِهِ لا بِاسْتِحْقاقٍ مِن جانِبِ العَبْدِ واعْلَمْ أنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ طَلَبَ ما يَكُونُ وسِيلَةً إلى ثَوابِ الآخِرَةِ أوَّلًا ثُمَّ طَلَبَ ثَوابَ الآخِرَةِ ثانِيًا، أمّا وسِيلَةُ الثَّوابِ فَهي أمْرانِ: أحَدُهُما: شُكْرُ النِّعْمَةِ السّالِفَةِ. والثّانِي: الِاشْتِغالُ بِسائِرِ أنْواعِ الخِدْمَةِ. أمّا الِاشْتِغالُ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ السّالِفَةِ، فَهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبِّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ ولَمّا كانَ الإنْعامُ عَلى الآباءِ إنْعامًا عَلى الأبْناءِ لِأنَّ انْتِسابَ الِابْنِ إلى أبٍ شَرِيفٍ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى الِابْنِ، لا جَرَمَ اشْتَغَلَ بِشُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلى الآباءِ بِقَوْلِهِ: ﴿وعَلى والِدَيَّ﴾ وأمّا الِاشْتِغالُ بِسائِرِ أنْواعِ الخِدْمَةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وأنْ أعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ﴾ وأمّا طَلَبُ ثَوابِ الآخِرَةِ فَقَوْلُهُ: ﴿وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحِينَ﴾ فَإنْ قِيلَ دَرَجاتُ الأنْبِياءِ أعْظَمُ مِن دَرَجاتِ الأوْلِياءِ والصّالِحِينَ، فَما السَّبَبُ في أنَّ الأنْبِياءَ يَطْلُبُونَ جَعْلَهم مِنَ الصّالِحِينَ فَقالَ يُوسُفُ: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ [يوسف: ١٠١] وقالَ سُلَيْمانُ: ﴿وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحِينَ﴾ ؟ جَوابُهُ: الصّالِحُ الكامِلُ هو الَّذِي لا يَعْصِي اللَّهَ تَعالى ولا يَهُمُّ بِمَعْصِيَةٍ وهَذِهِ دَرَجَةٌ عالِيَةٌ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب