الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما يَأْتِيهِمْ مِن ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إلّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا إلى الأرْضِ كَمْ أنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ .
المسألة الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿وما يَأْتِيهِمْ مِن ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إلّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾ مِن تَمامِ قَوْلِهِ: ﴿إنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ﴾ [الشُّعَراءِ: ٤] فَنَبَّهَ تَعالى عَلى أنَّهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلى أنْ يَجْعَلَهم مُؤْمِنِينَ بِالإلْجاءِ رَحِيمٌ بِهِمْ مِن حَيْثُ يَأْتِيهِمْ حالًا بَعْدَ حالٍ بِالقُرْآنِ، وهو الذِّكْرُ، ويُكَرِّرُهُ عَلَيْهِمْ وهم مَعَ ذَلِكَ عَلى حَدٍّ واحِدٍ في الإعْراضِ والتَّكْذِيبِ والِاسْتِهْزاءِ، ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ زَجَرَ وتَوَعَّدَ؛ لِأنَّ المَرْءَ إذا اسْتَمَرَّ عَلى كُفْرِهِ فَلَيْسَ يَنْفَعُ فِيهِ إلّا الزَّجْرُ الشَّدِيدُ، فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا﴾ أيْ: بَلَغُوا النِّهايَةَ في رَدِّ آياتِ اللَّهِ تَعالى ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أنْباءُ ما كانُوا﴾ وذَلِكَ إمّا عِنْدَ نُزُولِ العَذابِ عَلَيْهِمْ في الدُّنْيا، أوْ عِنْدَ المُعايَنَةِ، أوْ في الآخِرَةِ، فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ وقَدْ جَرَتِ العادَةُ فِيمَن يُسِيءُ أنْ يُقالَ لَهُ: سَتَرى حالَكَ مِن بَعْدُ، عَلى وجْهِ الوَعِيدِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهُ مَعَ إنْزالِهِ القُرْآنَ حالًا بَعْدَ حالٍ قَدْ أظْهَرَ أدِلَّةً تَحْدُثُ حالًا بَعْدَ حالٍ، فَقالَ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا إلى الأرْضِ كَمْ أنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ والزَّوْجُ هو الصِّنْفُ مِنَ النَّباتِ، والكَرِيمُ صِفَةٌ لِكُلِّ ما يُرْضى ويُحْمَدُ في بابِهِ، يُقالُ: وجْهٌ كَرِيمٌ إذا كانَ مَرْضِيًّا في حُسْنِهِ وجَمالِهِ. وكِتابٌ كَرِيمٌ إذا كانَ مَرْضِيًّا في فَوائِدِهِ ومَعانِيهِ، والنَّباتُ الكَرِيمُ هو المَرْضِيُّ فِيما يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ المَنافِعِ. وفي وصْفِ الزَّوْجِ بِالكَرِيمِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّ النَّباتَ عَلى نَوْعَيْنِ: نافِعٍ وضارٍّ، فَذَكَرَ سُبْحانَهُ كَثْرَةَ ما أنْبَتَ في الأرْضِ مِن جَمِيعِ أصْنافِ النَّباتِ النّافِعِ، وتَرَكَ ذِكْرَ الضّارِّ.
والثّانِي: أنَّهُ عَمَّ جَمِيعَ النَّباتِ نافِعِهِ وضارِّهِ، ووَصَفَهُما جَمِيعًا بِالكَرَمِ، ونَبَّهَ عَلى أنَّهُ ما أنْبَتَ شَيْئًا إلّا وفِيهِ فائِدَةٌ، وإنْ غَفَلَ عَنْها الغافِلُونَ.
(p-١٠٥)أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ فَهو كَقَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ٢] والمَعْنى أنَّ في ذَلِكَ دَلالَةً لِمَن يَتَفَكَّرُ ويَتَدَبَّرُ، وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ، أيْ: مَعَ كُلِّ ذَلِكَ يَسْتَمِرُّ أكْثَرُهم عَلى كُفْرِهِمْ، فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ فَإنَّما قَدَّمَ ذِكْرَ العَزِيزِ عَلى ذِكْرِ الرَّحِيمِ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدِّمْهُ لَكانَ رُبَّما قِيلَ: إنَّهُ رَحِمَهم لِعَجْزِهِ عَنْ عُقُوبَتِهِمْ، فَأزالَ هَذا الوَهْمَ بِذِكْرِ العَزِيزِ، وهو الغالِبُ القاهِرُ، ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّهُ رَحِيمٌ بِعِبادِهِ، فَإنَّ الرَّحْمَةَ إذا كانَتْ عَنِ القُدْرَةِ الكامِلَةِ كانَتْ أعْظَمَ وقْعًا. والمُرادُ أنَّهم مَعَ كُفْرِهِمْ وقُدْرَةِ اللَّهِ عَلى أنْ يُعَجِّلَ عِقابَهم لا يَتْرُكُ رَحْمَتَهم بِما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن خَلْقِ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ مِنَ النَّباتِ، ثُمَّ مِن إعْطاءِ الصِّحَّةِ والعَقْلِ والهِدايَةِ.
المسألة الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى وصَفَ الكُفّارَ بِالإعْراضِ أوَّلًا، وبِالتَّكْذِيبِ ثانِيًا، وبِالِاسْتِهْزاءِ ثالِثًا، وهَذِهِ دَرَجاتُ مَن أخَذَ يَتَرَقّى في الشَّقاوَةِ؛ فَإنَّهُ يُعَرِّضُ أوَّلًا، ثُمَّ يُصَرِّحُ بِالتَّكْذِيبِ والإنْكارِ إلى حَيْثُ يَسْتَهْزِئُ بِهِ ثالِثًا.
المسألة الثّالِثَةُ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى الجَمْعِ بَيْنَ كَمْ وكُلٍّ، ولِمَ لَمْ يَقُلْ: كَمْ أنْبَتْنا فِيها مَن زَوْجٍ كَرِيمٍ ؟ قُلْتُ: قَدْ دَلَّ كُلٌّ عَلى الإحاطَةِ بِأزْواجِ النَّباتِ عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وكَمْ عَلى أنَّ هَذا المُحِيطَ مُتَكاثِرٌ مُفْرِطُ الكَثْرَةِ، فَهَذا مَعْنى الجَمْعِ رَتَّبَهُ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ، فَإنْ قُلْتَ: فَحِينَ ذَكَرَ الأزْواجَ ودَلَّ عَلَيْها بِكَلِمَتَيِ الكَثْرَةِ والإحاطَةِ، وكانَتْ بِحَيْثُ لا يُحْصِيها إلّا عالِمُ الغَيْبِ، فَكَيْفَ قالَ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً﴾ وهَلّا قالَ: لَآياتٍ ؟ قُلْتُ: فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُشارًا بِهِ إلى مَصْدَرِ أنْبَتْنا، فَكَأنَّهُ قالَ: إنَّ في ذَلِكَ الإنْباتِ لَآيَةً أيَّ آيَةٍ.
والثّانِي: أنْ يُرادَ أنَّ في كُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأزْواجِ لَآيَةً.
* * *
المسألة الرّابِعَةُ: احْتَجَّتِ المُعْتَزِلَةُ عَلى خَلْقِ القُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما يَأْتِيهِمْ مِن ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ﴾ فَقالُوا: الذِّكْرُ هو القُرْآنُ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهَذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ﴾ [ الأنْبِياءِ: ٥٠] وبَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الذِّكْرَ مُحْدَثٌ، فَيَلْزَمُ مِن هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ أنَّ القُرْآنَ مُحْدَثٌ، وهَذا الِاسْتِدْلالُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتابًا﴾ [الزُّمَرِ: ٢٣] وبِقَوْلِهِ: ﴿فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [المُرْسَلاتِ: ٥٠] وإذا ثَبَتَ أنَّهُ مُحْدَثٌ فَلَهُ خالِقٌ، فَيَكُونُ مَخْلُوقًا لا مَحالَةَ.
والجَوابُ: أنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلى هَذِهِ الألْفاظِ، ونَحْنُ نُسَلِّمُ حُدُوثَها، إنَّما نَدَّعِي قِدَمَ أمْرٍ آخَرَ وراءَ هَذِهِ الحُرُوفِ، ولَيْسَ في الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى ذَلِكَ.
{"ayahs_start":5,"ayahs":["وَمَا یَأۡتِیهِم مِّن ذِكۡرࣲ مِّنَ ٱلرَّحۡمَـٰنِ مُحۡدَثٍ إِلَّا كَانُوا۟ عَنۡهُ مُعۡرِضِینَ","فَقَدۡ كَذَّبُوا۟ فَسَیَأۡتِیهِمۡ أَنۢبَـٰۤؤُا۟ مَا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ","أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَمۡ أَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجࣲ كَرِیمٍ","إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِینَ","وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ"],"ayah":"أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَمۡ أَنۢبَتۡنَا فِیهَا مِن كُلِّ زَوۡجࣲ كَرِیمٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











