الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأوْحَيْنا إلى مُوسى أنْ أسْرِ بِعِبادِي إنَّكم مُتَّبَعُونَ﴾ ﴿فَأرْسَلَ فِرْعَوْنُ في المَدائِنِ حاشِرِينَ﴾ ﴿إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ ﴿وإنَّهم لَنا لَغائِظُونَ﴾ ﴿وإنّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ﴾ ﴿فَأخْرَجْناهم مِن جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿وكُنُوزٍ ومَقامٍ كَرِيمٍ﴾ ﴿كَذَلِكَ وأوْرَثْناها بَنِي إسْرائِيلَ﴾ ﴿فَأتْبَعُوهم مُشْرِقِينَ﴾ ﴿فَلَمّا تَراءى الجَمْعانِ قالَ أصْحابُ مُوسى إنّا لَمُدْرَكُونَ﴾ ﴿قالَ كَلّا إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ . قُرِئَ (أسْرِ) بِقَطْعِ الهَمْزَةِ ووَصْلِها و”سِرْ“ . لَمّا ظَهَرَ أمْرُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِما شاهَدُوهُ مِنَ الآيَةِ، أمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِأنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إسْرائِيلَ لَمّا كانَ في المَعْلُومِ مِن تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعالى في مُوسى وتَخْلِيصِهِ مِنَ القَوْمِ وتَمْلِيكِهِ بِلادَهم وأمْوالَهم، ولَمْ يَأْمَن وقَدْ جَرَتْ تِلْكَ الغَلَبَةُ الظّاهِرَةُ أنْ يَقَعَ مِن فِرْعَوْنَ بِبَنِي إسْرائِيلَ ما يُؤَدِّي إلى الِاسْتِئْصالِ، فَلِذَلِكَ أمَرَهُ اللَّهُ تَعالى أنْ يَسْرِيَ بِبَنِي إسْرائِيلَ، وهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا مِن قَوْمِ مُوسى، ولا شُبْهَةَ أنَّ في الكَلامِ حَذْفًا وهو أنَّهُ أسْرى بِهِمْ كَما أمَرَهُ اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ إنَّ قَوْمَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قالُوا لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ: إنَّ لَنا في هَذِهِ اللَّيْلَةِ عِيدًا، ثُمَّ اسْتَعارُوا مِنهم حُلِيَّهم وحُلَلَهم بِهَذا السَّبَبِ، ثُمَّ خَرَجُوا بِتِلْكَ الأمْوالِ في اللَّيْلِ إلى جانِبِ البَحْرِ، فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ فِرْعَوْنُ أرْسَلَ في المَدائِنِ حاشِرِينَ، ثُمَّ إنَّهُ قَوّى نَفْسَهُ ونَفْسَ أصْحابِهِ بِأنْ وصَفَ قَوْمَ مُوسى بِوَصْفَيْنِ مِن أوْصافِ الذَّمِّ، ووَصَفَ قَوْمَ نَفْسِهِ بِصِفَةِ المَدْحِ. أمّا وصْفُ قَوْمِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِالذَّمِّ: فالصِّفَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ والشِّرْذِمَةُ الطّائِفَةُ القَلِيلَةُ، ومِنهُ قَوْلُهم ثَوْبٌ شَراذِمُ لِلَّذِي بَلِيَ وتَقَطَّعَ قِطَعًا، ذَكَرَهم بِالِاسْمِ الدّالِّ عَلى القِلَّةِ، ثُمَّ جَعَلَهم قَلِيلًا بِالوَصْفِ، ثُمَّ جَمَعَ القَلِيلَ فَجَعَلَ كُلَّ حِزْبٍ مِنهم قَلِيلًا واخْتارَ جَمْعَ السَّلامَةِ الَّذِي هو لِلْقِلَّةِ، ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِالقِلَّةِ: الذِّلَّةَ لا قِلَّةَ العَدَدِ، والمَعْنى: أنَّهم لِقِلَّتِهِمْ لا يُبالِي بِهِمْ ولا يَتَوَقَّعُ غَلَبَتَهم وعُلُوَّهم، ثُمَّ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في عَدَدِ تِلْكَ الشِّرْذِمَةِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: كانُوا سِتَّمِائَةِ ألْفِ مُقاتِلٍ لا شابَّ فِيهِمْ دُونَ عِشْرِينَ سَنَةً، ولا شَيْخَ يُوفِي عَلى السِّتِّينَ (p-١١٩)سِوى الحَشَمِ، وفِرْعَوْنُ يُقَلِّلُهم لِكَثْرَةِ مَن مَعَهُ، وهَذا الوَصْفُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ في الكَثِيرِ عِنْدَ الإضافَةِ إلى ما هو أكْثَرُ مِنهُ، فَرُوِيَ أنَّ فِرْعَوْنَ خَرَجَ عَلى فَرَسٍ أدْهَمَ حِصانٍ وفي عَسْكَرِهِ عَلى لَوْنِ فَرَسِهِ ثَلَثُمِائَةِ ألْفٍ. الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وإنَّهم لَنا لَغائِظُونَ﴾ يَعْنِي يَفْعَلُونَ أفْعالًا تَغِيظُنا وتُضَيِّقُ صُدُورَنا، واخْتَلَفُوا في تِلْكَ الأفْعالِ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: ما تَقَدَّمَ مِن أمْرِ الحُلِيِّ وغَيْرِهِ. وثانِيها: خُرُوجُ بَنِي إسْرائِيلَ عَنْ عُبُودِيَّةِ فِرْعَوْنَ واسْتِقْلالُهم بِأنْفُسِهِمْ. وثالِثُها: مُخالَفَتُهم لَهم في الدِّينِ وخُرُوجُهم عَلَيْهِمْ. ورابِعُها: لَيْسَ إلّا أنَّهم لَمْ يَتَّخِذُوا فِرْعَوْنَ إلَهًا. أمّا الَّذِي وصَفَ فِرْعَوْنُ بِهِ قَوْمَهُ فَهو قَوْلُهُ: ﴿وإنّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ﴾ وفِيهِ ثَلاثُ قِراءاتٍ ”حَذِرُونِ“ و”حاذِرُونَ“ و”حادِرُونَ“ بِالدّالِ غَيْرِ المُعْجَمَةِ. واعْلَمْ أنَّ الصِّفَةَ إذا كانَتْ جارِيَةً عَلى الفِعْلِ وهي اسْمُ الفاعِلِ واسْمُ المَفْعُولِ كالضّارِبِ والمَضْرُوبِ أفادَتِ الحُدُوثَ، وإذا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ وهي المُشَبَّهَةُ أفادَتِ الثُّبُوتَ، فَمَن قَرَأ ”حَذِرُونَ“ ذَهَبَ إلى: إنّا قَوْمٌ مِن عادَتِنا الحَذَرُ واسْتِعْمالُ الحَزْمِ، ومَن قَرَأ ”حاذِرُونَ“ فَكَأنَّهُ ذَهَبَ إلى مَعْنى: إنّا قَوْمٌ ما عَهِدْنا أنْ نَحْذَرَ إلّا عَصْرَنا هَذا. وأمّا مَن قَرَأ ”حادِرُونَ“ بِالدّالِ غَيْرِ المُعْجَمَةِ فَكَأنَّهُ ذَهَبَ إلى نَفْيِ الحَذَرِ أصْلًا؛ لِأنَّ الحادِرَ هو المُشَمِّرُ، فَأرادَ إنّا قَوْمٌ أقْوِياءُ أشِدّاءُ، أوْ أرادَ إنّا مُدَجَّجُونَ في السِّلاحِ، والغَرَضُ مِن هَذِهِ المَعاذِيرِ أنْ لا يَتَوَهَّمَ أهْلُ المَدائِنِ أنَّهُ مُنْكَسِرٌ مِن قَوْمِ مُوسى أوْ خائِفٌ مِنهم. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأخْرَجْناهُمْ﴾ فالمُرادُ: إنّا جَعَلْنا في قُلُوبِهِمْ داعِيَةَ الخُرُوجِ فاسْتَوْجَبَتِ الدّاعِيَةُ الفِعْلَ، فَكانَ الفِعْلُ مُضافًا إلى اللَّهِ تَعالى لا مَحالَةَ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿مِن جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿وكُنُوزٍ﴾ فَقالَ مُجاهِدٌ: سَمّاها كُنُوزًا، لِأنَّهم لَمْ يُنْفِقُوا مِنها في طاعَةِ اللَّهِ تَعالى، والمَقامُ الكَرِيمُ يُرِيدُ المَنازِلَ الحَسَنَةَ والمَجالِسَ البَهِيَّةَ، والمَعْنى إنّا أخْرَجْناهم مِن بَساتِينِهِمُ الَّتِي فِيها عُيُونُ الماءِ وكُنُوزُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، والمَواضِعِ الَّتِي كانُوا يَتَنَعَّمُونَ فِيها لِنُسَلِّمَها إلى بَنِي إسْرائِيلَ. أمّا قَوْلُهُ: ”كَذَلِكَ“ فَيَحْتَمِلُ ثَلاثَةَ أوْجُهٍ: النَّصْبَ عَلى أخْرَجْناهم مِثْلَ ذَلِكَ الإخْراجِ الَّذِي وصَفْناهُ، والجَرَّ عَلى أنَّهُ وصْفٌ لِمَقامٍ كَرِيمٍ، أيْ مَقامٍ كَرِيمٍ مِثْلِ ذَلِكَ المَقامِ الَّذِي كانَ لَهم، والرَّفْعَ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيِ الأمْرُ كَذَلِكَ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَأتْبَعُوهُمْ﴾ أيْ: فَلَحِقُوهم، وقُرِئَ ”فاتَّبَعُوهم مُشْرِقِينَ“ داخِلِينَ في وقْتِ الشُّرُوقِ مِن أشْرَقَتِ الشَّمْسُ شُرُوقًا إذا طَلَعَتْ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا تَراءى الجَمْعانِ﴾ أيْ رَأى بَعْضُهم بَعْضًا، قالَ أصْحابُ مُوسى: ﴿إنّا لَمُدْرَكُونَ﴾ أيْ لَمُلْحَقُونَ ﴿قالُوا أُوذِينا مِن قَبْلِ أنْ تَأْتِيَنا ومِن بَعْدِ ما جِئْتَنا﴾ [الأعراف: ١٢٩] كانُوا يَذْبَحُونَ أبْناءَنا، مِن قَبْلِ أنْ تَأْتِيَنا ومِن بَعْدِ ما جِئْتَنا يُدْرِكُونَنا، أيْ في السّاعَةِ فَيَقْتُلُونَنا، وقُرِئَ ”فَلَمّا تَراءَتِ الفِئَتانِ“ ”إنّا لَمُدَّرِكُونَ“ بِتَشْدِيدِ الدّالِ وكَسْرِ الرّاءِ مِنَ ادّارَكَ الشَّيْءُ إذا تَتابَعَ فَفَنِيَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ﴾ [النمل: ٦٦] قالَ الحَسَنُ: جَهِلُوا عِلْمَ الآخِرَةِ، والمَعْنى إنّا لَمُتَتابِعُونَ في الهَلاكِ عَلى أيْدِيهِمْ حَتّى لا يَبْقى مِنّا أحَدٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ لَهم: كَلّا، وذَلِكَ كالمَنعِ مِمّا تَوَهَّمُوهُ، ثُمَّ قَوّى نُفُوسَهم بِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: ﴿إنَّ مَعِيَ رَبِّي﴾ وهَذا دَلالَةُ النُّصْرَةِ والتَّكَفُّلِ بِالمَعُونَةِ. والثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿سَيَهْدِينِ﴾ والهُدى هو طَرِيقُ النَّجاةِ والخَلاصِ، وإذا دَلَّهُ عَلى طَرِيقِ نَجاتِهِ وهَلاكِ أعْدائِهِ، فَقَدْ بَلَغَ النِّهايَةَ في النُّصْرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب