الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَألْقى عَصاهُ فَإذا هي ثُعْبانٌ مُبِينٌ﴾ ﴿ونَزَعَ يَدَهُ فَإذا هي بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ﴾ ﴿قالَ لِلْمَلَإ حَوْلَهُ إنَّ هَذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكم مِن أرْضِكم بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ﴾ ﴿قالُوا أرْجِهْ وأخاهُ وابْعَثْ في المَدائِنِ حاشِرِينَ﴾ ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قَرَأ الأعْمَشُ: ”بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ“ . المسألة الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى قَبْلَ أنْ ألْقى العَصا عَرَّفَهُ بِأنَّهُ يُصَيِّرُها ثُعْبانًا، ولَوْلا ذَلِكَ لَما قالَ ما قالَ: فَلَمّا ألْقى عَصاهُ ظَهَرَ ما وعَدَهُ اللَّهُ بِهِ فَصارَ ثُعْبانًا مُبِينًا، والمُرادُ أنَّهُ تَبَيَّنَ لِلنّاظِرِينَ أنَّهُ ثُعْبانٌ بِحَرَكاتِهِ وبِسائِرِ العَلاماتِ، رُوِيَ أنَّهُ لَمّا انْقَلَبَتْ حَيَّةً ارْتَفَعَتْ في السَّماءِ قَدْرَ مَيْلٍ ثُمَّ انْحَطَّتْ مُقْبِلَةً إلى فِرْعَوْنَ وجَعَلَتْ تَقُولُ: يا مُوسى مُرْنِي بِما شِئْتَ، ويَقُولُ فِرْعَوْنُ: يا مُوسى أسْألُكَ بِالَّذِي أرْسَلَكَ ألا أخَذْتَها فَعادَتْ عَصًا. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ قالَ هَهُنا: ﴿ثُعْبانٌ مُبِينٌ﴾ . وفِي آيَةٍ أُخْرى: ﴿فَإذا هي حَيَّةٌ تَسْعى﴾ [طه: ٢٠] . وفِي آيَةٍ ثالِثَةٍ: ﴿كَأنَّها جانٌّ﴾ [النمل: ١٠] والجانُّ مائِلٌ إلى الصِّغَرِ والثُّعْبانُ مائِلٌ إلى الكِبَرِ ؟ جَوابُهُ: أمّا الحَيَّةُ فَهي اسْمُ الجِنْسِ ثُمَّ إنَّها لِكِبَرِها صارَتْ ثُعْبانًا، وشَبَّهَها بِالجانِّ لِخِفَّتِها وسُرْعَتِها فَصَحَّ الكَلامانِ، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ شَبَّهَها بِالشَّيْطانِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والجانَّ خَلَقْناهُ مِن قَبْلُ مِن نارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر: ٢٧] ويُحْتَمَلُ أنَّها كانَتْ أوَّلًا صَغِيرَةً كالجانِّ ثُمَّ عَظُمَتْ فَصارَتْ ثُعْبانًا، ثُمَّ إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا أتى بِهَذِهِ الآيَةِ قالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: هَلْ غَيْرَها ؟ قالَ: نَعَمْ، فَأراهُ يَدَهُ ثُمَّ أدْخَلَها جَيْبَهُ ثُمَّ أخْرَجَها فَإذا هي بَيْضاءُ يُضِيءُ الوادِي مِن شِدَّةِ بَياضِها مِن غَيْرِ بَرَصٍ لَها شُعاعٌ كَشُعاعِ الشَّمْسِ، فَعِنْدَ هَذا أرادَ فِرْعَوْنُ تَعْمِيَةَ هَذِهِ الحجة عَلى قَوْمِهِ فَذَكَرَ فِيها أُمُورًا ثَلاثَةً: أحَدُها: قَوْلُهُ: ﴿إنَّ هَذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ الزَّمانَ كانَ زَمانَ السَّحَرَةِ وكانَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنهم أنَّ السّاحِرَ قَدْ يَجُوزُ أنْ يَنْتَهِيَ بِسِحْرِهِ إلى هَذا الحَدِّ فَلِهَذا رَوَّجَ عَلَيْهِمْ هَذا القَوْلَ. وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكم مِن أرْضِكم بِسِحْرِهِ﴾ وهَذا يَجْرِي مَجْرى التَّنْفِيرِ عَنْهُ لِئَلّا يَقْبَلُوا قَوْلَهُ، والمَعْنى يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكم مِن أرْضِكم بِما يُلْقِيهِ بَيْنَكم مِنَ العَداواتِ فَيُفَرِّقُ جَمْعَكم، ومَعْلُومٌ أنَّ مُفارَقَةَ الوَطَنِ أصْعَبُ الأُمُورِ فَنَفَّرَهم عَنْهُ بِذَلِكَ، وهَذا نِهايَةُ ما يَفْعَلُهُ المُبْطِلُ في التَّنْفِيرِ عَنِ المُحِقِّ. وثالِثُها: قَوْلُهُ لَهم: ﴿فَماذا تَأْمُرُونَ﴾ أيْ فَما رَأْيُكم فِيهِ وما الَّذِي أعْمَلُهُ، يُظْهِرُ مِن نَفْسِهِ أنِّي مُتَبِّعٌ لِرَأْيِكم ومُنْقادٌ لِقَوْلِكم، ومِثْلُ هَذا الكَلامِ يُوجِبُ جَذْبَ القُلُوبِ وانْصِرافَها عَنِ العَدُوِّ فَعِنْدَ هَذِهِ الكَلِماتِ اتَّفَقُوا عَلى جَوابٍ واحِدٍ وهو قَوْلُهُ: ﴿أرْجِهْ﴾ قُرِئَ ”أرْجِئْهُ“ و”أرْجِهْ“ بِالهَمْزِ والتَّخْفِيفِ، وهُما لُغَتانِ يُقالُ: أرْجَأْتُهُ وأرْجَيْتُهُ إذا أخَّرْتَهُ، والمَعْنى أخِّرْهُ ومُناظَرَتَهُ لِوَقْتِ اجْتِماعِ السَّحَرَةِ، وقِيلَ احْبِسْهُ وذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، لِأنَّكَ إذا حَبَسْتَ الرَّجُلَ عَنْ حاجَتِهِ فَقَدْ أخَّرْتَهُ. رُوِيَ أنَّ فِرْعَوْنَ أرادَ قَتْلَهُ ولَمْ يَكُنْ يَصِلُ إلَيْهِ، فَقالُوا لَهُ لا تَفْعَلْ، فَإنَّكَ إنْ قَتَلْتَهُ أدْخَلْتَ عَلى النّاسِ في أمْرِهِ شُبْهَةً، ولَكِنْ أرْجِئْهُ وأخاهُ إلى أنْ تَحْشُرَ السَّحَرَةَ لِيُقاوِمُوهُ فَلا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْكَ حُجَّةٌ، ثُمَّ أشارُوا عَلَيْهِ بِإنْفاذِ حاشِرِينَ يَجْمَعُونَ (p-١١٥)السَّحَرَةَ ظَنًّا مِنهم بِأنَّهم إذا غَلَبُوهُ وكَشَفُوا حالَهُ وعارَضُوا قَوْلَهُ: ﴿إنَّ هَذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾ بِقَوْلِهِمْ: ﴿بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ﴾ فَجاءُوا بِكَلِمَةِ الإحاطَةِ وبِصِيغَةِ المُبالَغَةِ لِيُطَيِّبُوا قَلْبَهُ ولِيُسْكِنُوا بَعْضَ قَلَقِهِ، قالَ ”صاحِبُ الكَشّافِ“: فَإنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ لِلْمَلَإ حَوْلَهُ﴾ ما العامِلُ في ”حَوْلِهِ“ ؟ قُلْتُ: هو مَنصُوبٌ نَصْبَيْنِ نَصْبٌ في اللَّفْظِ ونَصْبٌ في المَحَلِّ والعامِلُ في النَّصْبِ اللَّفْظِيِّ ما يُقَدَّرُ في الظَّرْفِ، والعامِلُ في النَّصْبِ المَحَلِّيِّ هو النَّصْبُ عَلى الحالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب