الباحث القرآني

(p-١١١)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ فِرْعَوْنُ وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ ﴿قالَ رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ ﴿قالَ لِمَن حَوْلَهُ ألا تَسْتَمِعُونَ﴾ ﴿قالَ رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿قالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ ﴿قالَ رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ﴿قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ﴾ ﴿قالَ أوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾ ﴿قالَ فَأْتِ بِهِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَقُلْ لِمُوسى ﴿وما رَبُّ العالَمِينَ﴾، إلّا وقَدْ دَعاهُ مُوسى إلى طاعَةِ رَبِّ العالَمِينَ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إنّا رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ فَلا بُدَّ عِنْدَ دُخُولِهِما عَلَيْهِ أنَّهُما قالا ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ فِرْعَوْنُ: ﴿وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ ثُمَّ هَهُنا بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ فِرْعَوْنَ يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ عارِفًا بِاللَّهِ، ولَكِنَّهُ قالَ ما قالَ طَلَبًا لِلْمُلْكِ والرِّياسَةِ، وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى في كِتابِهِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ عارِفًا بِاللَّهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ إلّا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الإسراء: ١٠٢] فَإذا قُرِئَ بِفَتْحِ التّاءِ مِن ﴿عَلِمْتَ﴾ فالمُرادُ أنَّ فِرْعَوْنَ عَلِمَ ذَلِكَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ عارِفًا بِاللَّهِ، لَكِنَّهُ كانَ يَسْتَأْكِلُ قَوْمَهُ بِما يُظْهِرُهُ مِن إلَهِيَّتِهِ، والقِراءَةُ الأُخْرى بِرَفْعِ التّاءِ مِن (عَلِمْتُ) فَهي تَقْتَضِي أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ هو الَّذِي عَرَفَ ذَلِكَ، وأيْضًا فَإنَّ فِرْعَوْنَ إنْ لَمْ يَكُنْ عاقِلًا لَمْ يَجُزْ مِنَ اللَّهِ تَعالى بَعْثَةُ الرَّسُولِ إلَيْهِ، وإنْ كانَ عاقِلًا فَهو يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّهُ ما كانَ مَوْجُودًا ولا حَيًّا ولا عاقِلًا ثُمَّ صارَ كَذَلِكَ، وبِالضَّرُورَةِ يَعْلَمُ أنَّ كُلَّ ما كانَ كَذَلِكَ فَلا بُدَّ لَهُ مِن مُؤَثِّرٍ، فَلا بُدَّ وأنْ يَتَوَلَّدَ لَهُ مِن هَذَيْنِ العِلْمَيْنِ عِلْمٌ ثالِثٌ بِافْتِقارِهِ في تَرْكِيبِهِ وفي حَياتِهِ وعَقْلِهِ إلى مُؤَثِّرٍ مُوجِدٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ عَلى مَذْهَبِ الدَّهْرِيَّةِ مِن أنَّ الأفْلاكَ واجِبَةُ الوُجُودِ في ذَواتِها ومُتَحَرِّكَةٌ لِذَواتِها، وأنَّ حَرَكاتِها أسْبابٌ لِحُصُولِ الحَوادِثِ في هَذا العالَمِ، أوْ يُقالُ: إنَّهُ كانَ مِنَ الفَلاسِفَةِ القائِلِينَ بِالعِلَّةِ المُوجِبَةِ لا بِالفاعِلِ المُخْتارِ، ثُمَّ اعْتَقَدَ أنَّهُ بِمَنزِلَةِ الإلَهِ لِأهْلِ إقْلِيمِهِ مِن حَيْثُ اسْتَعْبَدَهم ومَلَكَ ذِمّاتِهِمْ وزِمامَ أمْرِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ عَلى مَذْهَبِ الحُلُولِيَّةِ، القائِلِينَ بِأنَّ ذاتَ الإلَهِ يَتَدَرَّعُ بِجَسَدِ إنْسانٍ مُعَيَّنٍ، حَتّى يَكُونَ الإلَهُ سُبْحانَهُ لِذَلِكَ الجَسَدِ بِمَنزِلَةِ رُوحِ كُلِّ إنْسانٍ بِالنِّسْبَةِ إلى جَسَدِهِ، وبِهَذِهِ التَّقْدِيراتِ كانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ إلَهًا. البَحْثُ الثّانِي: وهو أنَّهُ قالَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ ؟ واعْلَمْ أنَّ السُّؤالَ بِما طَلَبَ لِتَعْرِيفِ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وتَعْرِيفُ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ إمّا أنْ يَكُونَ بِنَفْسِ تِلْكَ الحَقِيقَةِ أوْ بِشَيْءٍ مِن أجْزائِها أوْ بِأمْرٍ خارِجٍ عَنْها أوْ بِما يَتَرَكَّبُ مِنَ الدّاخِلِ والخارِجِ. أمّا تَعْرِيفُها بِنَفْسِها فَمُحالٌ، لِأنَّ المُعَرَّفَ مَعْلُومٌ قَبْلَ المُعَرِّفِ، فَلَوْ عَرَّفَ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ لَزِمَ أنْ يَكُونَ مَعْلُومًا قَبْلَ أنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وهو مُحالٌ. وأمّا تَعْرِيفُها بِالأُمُورِ الدّاخِلَةِ فِيها فَهَهُنا في حَقِّ واجِبِ الوُجُودِ مُحالٌ، لِأنَّ التَّعْرِيفَ بِالأُمُورِ الدّاخِلَةِ لا يُمْكِنُ إلّا إذا كانَ المُعَرَّفُ مُرَكَّبًا، وواجِبُ الوُجُودِ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا، لِأنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ فَهو مُحْتاجٌ إلى كُلِّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ، وكُلُّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ فَهو غَيْرُهُ، فَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُحْتاجٌ إلى غَيْرِهِ، وكُلُّ ما احْتاجَ إلى غَيْرِهِ فَهو مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، وكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهو مُمْكِنٌ، فَما لَيْسَ بِمُمْكِنٍ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا، فَواجِبُ الوُجُودِ لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ، وإذا لَمْ يَكُنْ مُرَكَّبًا اسْتَحالَ تَعْرِيفُهُ بِأجْزائِهِ، ولَمّا بَطَلَ هَذانِ القِسْمانِ ثَبَتَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَعْرِيفُ ماهِيَّةِ واجِبِ الوُجُودِ إلّا بِلَوازِمِهِ وآثارِهِ، ثُمَّ إنَّ اللَّوازِمَ قَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً، وقَدْ تَكُونُ جَلِيَّةً، ولا يَجُوزُ تَعْرِيفُ الماهِيَّةِ بِاللَّوازِمِ الخَفِيَّةِ بَلْ لا بُدَّ مِن تَعْرِيفِها بِاللَّوازِمِ الجَلِيَّةِ، وأظْهَرُ آثارِ ذاتِ واجِبِ الوُجُودِ هو هَذا العالَمُ المَحْسُوسُ وهو السَّماواتُ (p-١١٢)والأرْضُ وما بَيْنَهُما فَقَدْ ثَبَتَ أنَّهُ لا جَوابَ البَتَّةَ لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ ﴿وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ إلّا ما قالَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو أنَّهُ ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما﴾، فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ فَمَعْناهُ: إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِإسْنادِ هَذِهِ المَحْسُوساتِ إلى مَوْجُودٍ واجِبِ الوُجُودِ فاعْرِفُوا أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهُ إلّا بِما ذَكَرْتُهُ لِأنَّكم لَمّا سَلَّمْتُمُ انْتِهاءَ هَذِهِ المَحْسُوساتِ إلى الواجِبِ لِذاتِهِ، ثَبَتَ أنَّ الواجِبَ لِذاتِهِ فَرْدٌ مُطْلَقٌ، وثَبَتَ أنَّ الفَرْدَ المُطْلَقَ لا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهُ إلّا بِآثارِهِ، وثَبَتَ أنَّ تِلْكَ الآثارَ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ أظْهَرَ آثارِهِ، وأبْعَدَها عَنِ الخَفاءِ وما ذاكَ إلّا السَّماواتُ والأرْضُ وما بَيْنَهُما، فَإنْ أيْقَنْتُمْ بِذَلِكَ لَزِمَكم أنْ تَقْطَعُوا بِأنَّهُ لا جَوابَ عَنْ ذَلِكَ السُّؤالِ إلّا هَذا الجَوابُ، ولَمّا ذَكَرَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ هَذا الجَوابَ الحَقَّ قالَ فِرْعَوْنَ ”﴿لِمَن حَوْلَهُ ألا تَسْتَمِعُونَ﴾“ وإنَّما ذَكَرَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ مِن جَوابِ مُوسى، يَعْنِي أنا أطْلُبُ مِنهُ الماهِيَّةَ وخُصُوصِيَّةَ الحَقِيقَةِ، وهو يُجِيبُنِي بِالفاعِلِيَّةِ والمُؤَثِّرِيَّةِ، وتَمامُ الإشْكالِ أنَّ تَعْرِيفَ الماهِيَّةِ بِلَوازِمِها لا يُفِيدُ الوُقُوفَ عَلى نَفْسِ تِلْكَ الماهِيَّةِ، وذَلِكَ لِأنّا إذا قُلْنا في الشَّيْءِ إنَّهُ الَّذِي يَلْزَمُهُ اللّازِمُ الفُلانِيُّ، فَهَذا المَذْكُورُ، إمّا أنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ أمْرًا ما يَلْزَمُهُ ذَلِكَ اللّازِمُ أوْ لِخُصُوصِيَّةِ تِلْكَ الماهِيَّةِ الَّتِي عَرَضَتْ لَها هَذِهِ المَلْزُومِيَّةِ، والأوَّلُ مُحالٌ لِأنَّ كَوْنَهُ أمْرًا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ اللّازِمُ جَعَلْناهُ كاشِفًا فَلَوْ كانَ المَكْشُوفُ هو هَذا القَدْرَ لَزِمَ كَوْنُ الشَّيْءِ مَعْرُوفًا لِنَفْسِهِ وهو مُحالٌ، والثّانِي مُحالٌ؛ لِأنَّ العِلْمَ بِأنَّهُ أمْرٌ ما يَلْزَمُهُ اللّازِمُ الفُلانِيُّ لا يُفِيدُ العِلْمَ بِخُصُوصِيَّةِ تِلْكَ الماهِيَّةِ المَلْزُومَةِ، لِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ في العَقْلِ اشْتِراكُ الماهِيّاتِ المُخْتَلِفَةِ في لَوازِمَ مُتَساوِيَةٍ. فَثَبَتَ أنَّ التَّعْرِيفَ بِالوَصْفِ الخارِجِيِّ لا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ نَفْسِ الحَقِيقَةِ فَلَمْ يَكُنْ كَوْنُهُ رَبًّا لِلسَّمَواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما جَوابًا عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ فَأجابَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنْ: ﴿قالَ رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ وكَأنَّهُ عَدَلَ عَنِ التَّعْرِيفِ بِخالِقَيَّةِ السَّماءِ والأرْضِ إلى التَّعْرِيفِ بِكَوْنِهِ تَعالى خالِقًا لَنا ولِآبائِنا، وذَلِكَ لِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَعْتَقِدَ أحَدٌ أنَّ السَّماواتِ والأرَضِينَ واجِبَةٌ لِذَواتِها فَهي غَنِيَّةٌ عَنِ الخالِقِ والمُؤَثِّرِ، ولَكِنْ لا يُمْكِنُ أنْ يَعْتَقِدَ العاقِلُ في نَفْسِهِ وأبِيهِ وأجْدادِهِ كَوْنَهم واجِبِينَ لِذَواتِهِمْ، لِما أنَّ المُشاهَدَةَ دَلَّتْ عَلى أنَّهم وُجِدُوا بَعْدَ العَدَمِ ثُمَّ عُدِمُوا بَعْدَ الوُجُودِ، وما كانَ كَذَلِكَ اسْتَحالَ أنْ يَكُونَ واجِبًا لِذاتِهِ، وما لَمْ يَكُنْ واجِبًا لِذاتِهِ اسْتَحالَ وُجُودُهُ إلّا لِمُؤَثِّرٍ، فَكانَ التَّعْرِيفُ بِهَذا الأثَرِ أظْهَرَ فَلِهَذا عَدَلَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الكَلامِ الأوَّلِ إلَيْهِ. فَقالَ فِرْعَوْنُ: ﴿إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ يَعْنِي المَقْصُودَ مِن سُؤالِ ما طَلَبُ الماهِيَّةِ وخُصُوصِيَّةِ الحَقِيقَةِ والتَّعْرِيفُ بِهَذِهِ الآثارِ الخارِجِيَّةِ لا يُفِيدُ البَتَّةَ تِلْكَ الخُصُوصِيَّةَ، فَهَذا الَّذِي يَدَّعِي الرِّسالَةَ مَجْنُونٌ لا يَفْهَمُ السُّؤالَ فَضْلًا عَنْ أنْ يُجِيبَ عَنْهُ، فَقالَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ فَعَدَلَ إلى طَرِيقٍ ثالِثٍ أوْضَحَ مِنَ الثّانِي، وذَلِكَ لِأنَّهُ أرادَ بِالمَشْرِقِ طُلُوعَ الشَّمْسِ وظُهُورَ النَّهارِ، وأرادَ بِالمَغْرِبِ غُرُوبَ الشَّمْسِ وزَوالَ النَّهارِ، والأمْرُ ظاهِرٌ في أنَّ هَذا التَّدْبِيرَ المُسْتَمِرَّ عَلى الوجه العَجِيبِ لا يَتِمُّ إلّا بِتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ وهَذا بِعَيْنِهِ طَرِيقَةُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ نَمْرُوذَ، فَإنَّهُ اسْتَدَلَّ أوَّلًا بِالإحْياءِ والإماتَةِ وهو الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ هَهُنا بِقَوْلِهِ: ﴿رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ فَأجابَهُ نَمْرُوذُ بِقَوْلِهِ: ﴿أنا أُحْيِي وأُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] فَقالَ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] وهو الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ هَهُنا بِقَوْلِهِ: ﴿رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾ . * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ فَكَأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: إنْ كُنْتَ مِنَ العُقَلاءِ عَرَفْتَ أنَّهُ لا جَوابَ عَنْ سُؤالِكَ إلّا ما ذَكَرْتَ لِأنَّكَ طَلَبْتَ مِنِّي تَعْرِيفَ حَقِيقَتِهِ (p-١١٣)بِنَفْسِ حَقِيقَتِهِ ولا بِأجْزاءِ حَقِيقَتِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ أُعَرِّفَ حَقِيقَتَهُ بِآثارِ حَقِيقَتِهِ، وأنا قَدْ عَرَّفْتُ حَقِيقَتَهُ بِآثارِ حَقِيقَتِهِ فَقَدْ ثَبَتَ أنَّ كُلَّ مَن كانَ عاقِلًا يَقْطَعُ بِأنَّهُ لا جَوابَ عَنْ هَذا السُّؤالِ إلّا ما ذَكَرْتُهُ. واعْلَمْ أنّا قَدْ بَيَّنّا في سُورَةِ الأنْعامِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ﴾ [الأنعام: ١٨] أنَّ حَقِيقَةَ الإلَهِ سُبْحانَهُ مِن حَيْثُ هي هي غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ اسْتَحالَ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَذْكُرَ ما تُعْرَفُ بِهِ تِلْكَ الحَقِيقَةُ، إلّا أنَّ عَدَمَ العِلْمِ بِتِلْكَ الخُصُوصِيَّةِ لا يَقْدَحُ في صِحَّةِ الرِّسالَةِ فَكانَ حاصِلُ كَلامِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ ادِّعاءَ رِسالَةِ رَبِّ العالَمِينَ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلى إثْباتِ أنَّ لِلْعالِمِينَ رَبًّا وإلَهًا ولا تَتَوَقَّفُ عَلى العِلْمِ بِخُصُوصِيَّةِ الرَّبِّ تَعالى وماهِيَّتِهِ المُعَيَّنَةِ، فَكَأنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ يُقِيمُ الدَّلالَةَ عَلى إثْباتِ القَدْرِ المُحْتاجِ إلَيْهِ في صِحَّةِ دَعْوى الرِّسالَةِ، وفِرْعَوْنُ يُطالِبُهُ بِبَيانِ الماهِيَّةِ، ومُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُعْرِضُ عَنْ سُؤالِهِ لِعِلْمِهِ بِأنَّهُ لا تَعَلُّقَ لِذَلِكَ السُّؤالِ نَفْيًا ولا إثْباتًا في هَذا المَطْلُوبِ، فَهَذا تَمامُ القَوْلِ في هَذا البَحْثِ واللَّهُ أعْلَمُ. ثُمَّ إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا خَشَّنَ في آخِرِ الكَلامِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ فِرْعَوْنُ: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ﴾ فَإنَّهُ لَمّا عَجَزَ عَنِ الحِجاجِ عَدَلَ إلى التَّخْوِيفِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كَلامًا مُجْمَلًا لِيُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِهِ فَيَعْدِلَ عَنْ وعِيدِهِ فَقالَ: ﴿أوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾ ؟ أيْ هَلْ تَسْتَجِيزُ أنْ تَسْجُنَنِي مَعَ اقْتِدارِي عَلى أنْ آتِيَكَ بِأمْرٍ بَيِّنٍ في بابِ الدَّلالَةِ عَلى وُجُودِ اللَّهِ تَعالى وعَلى أنِّي رَسُولُهُ ؟ فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ: ﴿فَأْتِ بِهِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ وهَهُنا فُرُوعٌ: الفَرْعُ الأوَّلُ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى لَيْسَ بِجِسْمٍ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ جِسْمًا ولَهُ صُورَةٌ لَكانَ جَوابُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِذِكْرِ حَقِيقَتِهِ ولَكانَ كَلامُ فِرْعَوْنَ لازِمًا لَهُ لِعُدُولِهِ عَنِ الجَوابِ الحَقِّ. الثّانِي: الواجِبُ عَلى مَن يَدْعُو غَيْرَهُ إلى اللَّهِ تَعالى أنْ لا يُجِيبَ عَنِ السَّفاهَةِ؛ لِأنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا قالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنَّهُ مَجْنُونٌ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ ذِكْرِ الدَّلالَةِ وكَذَلِكَ لَمّا تَوَعَّدَهُ أنْ يَسْجُنَهُ. الثّالِثُ: أنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَسْئُولِ أنْ يَعْدِلَ في حُجَّتِهِ مِن مِثالٍ إلى مِثالٍ لِإيضاحِ الكَلامِ ولا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلى الِانْقِطاعِ. الرّابِعُ: إنْ قِيلَ: كَيْفَ قَطَعَ الكَلامَ بِما لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالأوَّلِ وهو قَوْلُهُ: ﴿أوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾ والمُعْجِزُ لا يَدُلُّ عَلى اللَّهِ تَعالى كَدَلالَةِ سائِرِ ما تَقَدَّمَ ؟ قُلْنا: بَلْ يَدُلُّ ما أرادَ أنْ يُظْهِرَهُ مِنَ انْقِلابِ العَصا حَيَّةً عَلى اللَّهِ تَعالى وعَلى تَوْحِيدِهِ، وعَلى أنَّهُ صادِقٌ في الرِّسالَةِ فالَّذِي خَتَمَ بِهِ كَلامَهُ أقْوى مِن كُلِّ ما تَقَدَّمَ وأجْمَعُ. الخامِسُ: فَإنْ قِيلَ كَيْفَ قالَ: ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما﴾ عَلى التَّثْنِيَةِ والمَرْجُوعُ إلَيْهِ مَجْمُوعٌ ؟ جَوابُهُ: أرِيدَ ما بَيْنَ الجِهَتَيْنِ، فَإنْ قِيلَ: ذِكْرُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما قَدِ اسْتَوْعَبَ الخَلائِقَ كُلَّهم، فَما مَعْنى ذِكْرُهم وذِكْرُ آبائِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وذِكْرُ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ ؟ جَوابُهُ: قَدْ عَمَّمَ أوَّلًا ثُمَّ خَصَّصَ مِنَ العامِّ لِلْبَيانِ أنْفُسَهم وآباءَهم لِأنَّ أقْرَبَ الأشْياءِ مِنَ العاقِلِ نَفْسُهُ ومَن وُلِدَ مِنهُ وما شاهَدَ مِنَ انْتِقالِهِ مِن وقْتِ مِيلادِهِ إلى وقْتِ وفاتِهِ مِن حالَةٍ إلى حالَةٍ أُخْرى، ثُمَّ خَصَّصَ المَشْرِقَ والمَغْرِبَ لِأنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مِن أحَدِ الخافِقَيْنِ وغُرُوبَها عَلى تَقْدِيرٍ مُسْتَقِيمٍ في فُصُولِ السَّنَةِ مِن أظْهَرِ الدَّلائِلِ. السّادِسُ: فَإنْ قِيلَ لِمَ قالَ: ﴿لَأجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ﴾ ولَمْ يَقُلْ لَأسْجُنَنَّكَ مَعَ أنَّهُ أخْصَرُ ؟ جَوابُهُ: لِأنَّهُ لَوْ قالَ لَأسْجُنَنَّكَ لا يُفِيدُ إلّا صَيْرُورَتَهُ مَسْجُونًا. أمّا قَوْلُهُ: ﴿لَأجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ﴾ فَمَعْناهُ أنِّي أجْعَلُكَ واحِدًا مِمَّنْ عَرَفْتَ حالَهم في سُجُونِي، وكانَ مِن عادَتِهِ أنْ يَأْخُذَ مَن يُرِيدُ أنْ يَسْجُنَهُ فَيَطْرَحَهُ في بِئْرٍ عَمِيقَةٍ فَرْدًا لا يُبْصِرُ فِيها ولا يَسْمَعُ فَكانَ ذَلِكَ أشَدَّ مِنَ القَتْلِ. السّابِعُ: الواوُ في قَوْلِهِ: ﴿أوَلَوْ جِئْتُكَ﴾ واوُ الحالِ دَخَلَتْ عَلَيْها هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ مَعْناهُ أتَفْعَلُ بِي ذَلِكَ ولَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أيْ جائِيًا بِالمُعْجِزَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب