الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ﴾ ﴿واخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿فَإنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ ﴿وتَوَكَّلْ عَلى العَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ﴾ ﴿وتَقَلُّبَكَ في السّاجِدِينَ﴾ ﴿إنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا بالَغَ في تَسْلِيَةِ رَسُولِهِ أوَّلًا، ثُمَّ أقامَ الحجة عَلى نُبُوَّتِهِ ثانِيًا ثُمَّ أوْرَدَ سُؤالَ المُنْكِرِينَ، وأجابَ عَنْهُ ثالِثًا، أمَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِما يَتَعَلَّقُ بِبابِ التَّبْلِيغِ والرِّسالَةِ وهو هَهُنا أُمُورٌ ثَلاثَةٌ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ﴾ وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى بَدَأ بِالرَّسُولِ فَتَوَعَّدَهُ إنْ دَعا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ، ثُمَّ أمَرَهُ بِدَعْوَةِ الأقْرَبِ فالأقْرَبِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ إذا تَشَدَّدَ عَلى نَفْسِهِ أوَّلًا، ثُمَّ بِالأقْرَبِ فالأقْرَبِ ثانِيًا، لَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ فِيهِ طَعْنٌ البَتَّةَ وكانَ قَوْلُهُ أنْفَعَ وكَلامُهُ أنْجَعَ، ورُوِيَ ”«أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ صَعِدَ الصَّفا فَنادى الأقْرَبَ فالأقْرَبَ وقالَ: يا بَنِي هاشِمٍ، يا بَنِي عَبْدِ مُنافٍ، يا عَبّاسُ عَمَّ مُحَمَّدٍ، يا صَفِيَّةُ عَمَّةَ مُحَمَّدٍ؛ إنِّي لا أمْلِكُ لَكم مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَلُونِي مِنَ المالِ ما شِئْتُمْ» “ ورُوِيَ ”«أنَّهُ جَمَعَ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ وهم يَوْمَئِذٍ أرْبَعُونَ رَجُلًا عَلى رِجْلِ شاةٍ وقَعْبٍ مِن لَبَنٍ، وكانَ الرَّجُلُ مِنهم يَأْكُلُ الجَذَعَةَ ويَشْرَبُ العُسَّ، فَأكَلُوا وشَرِبُوا، ثم قال يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ لَوْ أخْبَرْتُكم أنَّ بِسَفْحِ هَذا الجَبَلِ خَيْلًا، أكَنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟ قالُوا: نَعَمْ، فَقالَ: إنِّي نَذِيرٌ لَكم بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» “ . الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿واخْفِضْ جَناحَكَ﴾ واعْلَمْ أنَّ الطّائِرَ إذا أرادَ أنْ يَنْحَطَّ لِلْوُقُوعِ كَسَرَ جَناحَهُ وخَفَضَهُ، وإذا أرادَ أنْ يَنْهَضَ لِلطَّيَرانِ رَفَعَ جَناحَهُ فَجَعَلَ خَفْضَ جَناحِهِ عِنْدَ الِانْحِطاطِ مَثَلًا في التَّواضُعِ ولِينِ الجانِبِ، فَإنْ قِيلَ المُتَّبِعُونَ لِلرَّسُولِ هُمُ المُؤْمِنُونَ وبِالعَكْسِ فَلِمَ قالَ: ﴿لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ ؟ جَوابُهُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ المُتَّبِعِينَ لِلرَّسُولِ هُمُ المُؤْمِنُونَ فَإنَّ كَثِيرًا مِنهم كانُوا يَتَّبِعُونَهُ لِلْقَرابَةِ والنَّسَبِ لا لِلدِّينِ. فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ﴾ فَمَعْناهُ ظاهِرٌ، قالَ الجُبّائِيُّ: هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ بَرِيئًا مِن مَعاصِيهِمْ، وذَلِكَ يُوجِبُ أنَّ اللَّهَ تَعالى أيْضًا بَرِيءٌ مِن عَمَلِهِمْ كالرَّسُولِ وإلّا كانَ مُخالِفًا لِلَّهِ، كَما لَوْ رَضِيَ عَمَّنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَكانَ كَذَلِكَ، وإذا كانَ تَعالى بَرِيئًا مِن عَمَلِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ فاعِلًا لَهُ ومُرِيدًا لَهُ ؟ الجَوابُ: أنَّهُ تَعالى بَرِيءٌ مِنَ المَعاصِي بِمَعْنى أنَّهُ ما أمَرَ بِها بَلْ نَهى عَنْها، فَأمّا بِمَعْنى أنَّهُ لا يُرِيدُها فَلا نُسَلِّمُ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ عَلِمَ وُقُوعَها، وعَلِمَ أنَّ ما هو مَعْلُومُ الوُقُوعِ فَهو واجِبُ الوُقُوعِ وإلّا لانْقَلَبَ عِلْمُهُ جَهْلًا وهو مُحالٌ والمُفْضِي إلى المُحالِ مُحالٌ، وعَلِمَ أنَّ ما هو واجِبُ الوُقُوعِ فَإنَّهُ لا يُرادُ عَدَمُ وُقُوعِهِ فَثَبَتَ ما قُلْناهُ. والثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿وتَوَكَّلْ﴾ والتَّوَكُّلُ عِبارَةٌ عَنْ تَفْوِيضِ الرَّجُلِ أمْرَهُ إلى مَن يَمْلِكُ أمْرَهُ ويَقْدِرُ (p-١٤٩)عَلى نَفْعِهِ وضُرِّهِ، وقَوْلُهُ: ﴿عَلى العَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ أيْ عَلى الَّذِي يَقْهَرُ أعْداءَكَ بِعِزَّتِهِ ويَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ ثُمَّ أتْبَعُ كَوْنَهُ رَحِيمًا عَلى رَسُولِهِ ما هو كالسَّبَبِ لِتِلْكَ الرَّحْمَةِ، وهو قِيامُهُ وتَقَلُّبُهُ في السّاجِدِينَ وفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: المُرادُ ما كانَ يَفْعَلُهُ في جَوْفِ اللَّيْلِ مِن قِيامِهِ لِلتَّهَجُّدِ وتَقَلُّبِهِ في تَصَفُّحِ أحْوالِ المُجْتَهِدِينَ لِيَطَّلِعَ عَلى أسْرارِهِمْ، كَما يُحْكى أنَّهُ حِينَ نُسِخَ فَرْضُ قِيامِ اللَّيْلِ طافَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِبُيُوتِ أصْحابِهِ لِيَنْظُرَ ما يَصْنَعُونَ لِحِرْصِهِ عَلى ما يُوجَدُ مِنهم مَنِ الطّاعاتِ، فَوَجَدَها كَبُيُوتِ الزَّنابِيرِ لِما يَسْمَعُ مِنها مِن دَنْدَنَتِهِمْ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى والمُرادُ بِالسّاجِدِينَ المُصَلِّينَ. وثانِيها: المَعْنى يَراكَ حِينَ تَقُومُ لِلصَّلاةِ بِالنّاسِ جَماعَةً، وتُقَلُّبُهُ في السّاجِدِينَ تَصَرُّفُهُ فِيما بَيْنَهم بِقِيامِهِ ورُكُوعِهِ وسُجُودِهِ وقُعُودِهِ إذْ كانَ إمامًا لَهم. وثالِثُها: أنَّهُ لا يَخْفى عَلَيْهِ حالُكَ كُلَّما قُمْتَ وتَقَلَّبْتَ مَعَ السّاجِدِينَ في كِفايَةِ أُمُورِ الدِّينِ. ورابِعُها: المُرادُ تَقَلُّبُ بَصَرِهُ فِيمَن يُصَلِّي خَلْفَهُ مِن قَوْلِهِ ﷺ: ”«أتَمُّوا الرُّكُوعَ والسُّجُودَ فَواللَّهِ إنِّي لَأراكم مِن خَلْفِي» “ . ثم قال: ﴿إنَّهُ هو السَّمِيعُ﴾ أيْ لِما تَقُولُهُ ﴿العَلِيمُ﴾ أيْ بِما تَنْوِيهِ وتَعْمَلُهُ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ كَوْنَهُ سَمِيعًا أمْرٌ مُغايِرٌ لِعِلْمِهِ بِالمَسْمُوعاتِ وإلّا لَكانَ لَفْظُ ”العَلِيمُ“ مُفِيدًا فائِدَتَهُ. واعْلَمْ أنَّهُ قُرِئَ ”ونُقَلِّبُكَ“ . واعْلَمْ أنَّ الرّافِضَةَ ذَهَبُوا إلى أنَّ آباءَ النَّبِيِّ ﷺ كانُوا مُؤْمِنِينَ وتَمَسَّكُوا في ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ وبِالخَبَرِ، أمّا هَذِهِ الآيَةُ فَقالُوا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَقَلُّبَكَ في السّاجِدِينَ﴾ يَحْتَمِلُ الوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْتُمْ ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّ اللَّهَ تَعالى نَقَلَ رُوحَهُ مِن ساجِدٍ إلى ساجِدٍ كَما نَقُولُهُ نَحْنُ، وإذا احْتَمَلَ كُلَّ هَذِهِ الوُجُوهِ وجَبَ حَمْلُ الآيَةِ عَلى الكُلِّ ضَرُورَةَ أنَّهُ لا مُنافاةَ ولا رُجْحانَ، وأمّا الخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لَمْ أزَلْ أُنْقَلُ مِن أصْلابِ الطّاهِرَيْنِ إلى أرْحامِ الطّاهِراتِ» “ وكُلُّ مَن كانَ كافِرًا فَهو نَجِسٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] قالُوا: فَإنْ تَمَسَّكْتُمْ عَلى فَسادِ هَذا المَذْهَبِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ لِأبِيهِ آزَرَ﴾ [الأنعام: ٧٤] قُلْنا: الجَوابُ عَنْهُ أنَّ لَفْظَ الأبِ قَدْ يُطْلَقُ عَلى العَمِّ كَما قالَ أبْناءُ يَعْقُوبَ لَهُ: ﴿نَعْبُدُ إلَهَكَ وإلَهَ آبائِكَ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ﴾ [البقرة: ١٣٣] فَسَمَّوْا إسْماعِيلَ أبًا لَهُ مَعَ أنَّهُ كانَ عَمًّا لَهُ، وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«رُدُّوا عَلَيَّ أبِي» “ يَعْنِي العَبّاسَ، ويَحْتَمِلُ أيْضًا أنْ يَكُونَ مُتَّخِذَ الأصْنامِ أبَ أُمِّهِ فَإنَّ هَذا قَدْ يُقالُ لَهُ الأبُ قالَ تَعالى: ﴿ومِن ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وسُلَيْمانَ﴾ [الأنعام: ٨٤] إلى قَوْلِهِ: ﴿وعِيسى﴾ [الأنعام: ٨٥] فَجَعَلَ عِيسى مِن ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ مَعَ أنَّ إبْراهِيمَ كانَ جَدَّهُ مِن قِبَلِ الأُمِّ. واعْلَمْ أنّا نَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِأبِيهِ آزَرَ﴾ وما ذَكَرُوهُ صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ ظاهِرِهِ، وأمّا حَمْلُ قَوْلِهِ: ﴿وتَقَلُّبَكَ في السّاجِدِينَ﴾ عَلى جَمِيعِ الوُجُوهِ فَغَيْرُ جائِزٍ لِما بَيَّنّا أنَّ حَمْلَ المُشْتَرَكِ عَلى كُلِّ مَعانِيهِ غَيْرُ جائِزٍ، وأمّا الحَدِيثُ فَهو خَبَرٌ واحِدٌ فَلا يُعارِضُ القُرْآنَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب