الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَكُنْ لَهم آيَةً أنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ ﴿ولَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعْجَمِينَ﴾ ﴿فَقَرَأهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿كَذَلِكَ سَلَكْناهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ﴾ ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّى يَرَوْا العَذابَ الألِيمَ﴾ ﴿فَيَأْتِيَهم بَغْتَةً وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَكُنْ لَهم آيَةً أنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ المُرادُ مِنهُ ذِكْرُ الحجة الثّانِيَةِ عَلى نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وصِدْقِهِ، وتَقْرِيرُهُ أنَّ جَماعَةً مِن عُلَماءِ بَنِي إسْرائِيلَ أسْلَمُوا ونَصُّوا عَلى مَواضِعَ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ ذُكِرَ فِيها الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِصِفَتِهِ ونَعْتِهِ، وقَدْ كانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يَذْهَبُونَ إلى اليَهُودِ ويَتَعَرَّفُونَ مِنهم هَذا الخَبَرَ، وهَذا يَدُلُّ دَلالَةً ظاهِرَةً عَلى نُبُوَّتِهِ لِأنَّ تَطابُقَ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ عَلى نَعْتِهِ ووَصْفِهِ يَدُلُّ قَطْعًا عَلى نُبُوَّتِهِ، واعْلَمْ أنَّهُ قُرِئَ ”يَكُنْ“ بِالتَّذْكِيرِ، ”وآيَةً“ بِالنَّصْبِ عَلى أنَّها خَبَرُهُ و”أنْ يَعْلَمَهُ“ هو الِاسْمُ، وقُرِئَ ”تَكُنْ“ بِالتَّأْنِيثِ وجُعِلَتْ ”آيَةٌ“ اسْمًا و”أنْ يَعْلَمَهُ“ خَبَرًا، ولَيْسَتْ كالأُولى لِوُقُوعِ النَّكِرَةِ اسْمًا والمَعْرِفَةِ خَبَرًا، ويَجُوزُ مَعَ نَصْبِ الآيَةِ تَأْنِيثُ ”يَكُنْ“ كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهم إلّا أنْ قالُوا﴾ [الأنعام: ٢٣] . * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعْجَمِينَ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ بِالدَّلِيلَيْنِ المَذْكُورَيْنِ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ وصِدْقَ لَهْجَتِهِ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أنَّ هَؤُلاءِ الكُفّارَ لا تَنْفَعُهُمُ الدَّلائِلُ ولا البَراهِينُ، فَقالَ: ﴿ولَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعْجَمِينَ﴾ يَعْنِي: إنّا أنْزَلْنا هَذا القُرْآنَ عَلى رَجُلٍ عَرَبِيٍّ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، فَسَمِعُوهُ وفَهِمُوهُ وعَرَفُوا (p-١٤٦)فَصاحَتَهُ، وأنَّهُ مُعْجِزٌ لا يُعارَضُ بِكَلامٍ مِثْلِهِ، وانْضَمَّ إلى ذَلِكَ بِشارَةُ كُتُبِ اللَّهِ السّالِفَةِ بِهِ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وجَحَدُوهُ، وسَمَّوْهُ شِعْرًا تارَةً وسِحْرًا أُخْرى، فَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعْجَمِينَ الَّذِي لا يُحْسِنُ العَرَبِيَّةَ لَكَفَرُوا بِهِ أيْضًا ولَتَمَحَّلُوا لِجُحُودِهِمْ عُذْرًا، ثم قال: ﴿كَذَلِكَ سَلَكْناهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ﴾ أيْ مِثْلُ هَذا السَّلْكِ سَلَكْناهُ في قُلُوبِهِمْ، وهَكَذا مَكَّنّاهُ وقَرَّرْناهُ فِيها وكَيْفَما فَعَلَ بِهِمْ فَلا سَبِيلَ إلى أنْ يَتَغَيَّرُوا عَمّا هم عَلَيْهِ مِنَ الجُحُودِ والإنْكارِ، وهَذا أيْضًا مِمّا يُفِيدُ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ ﷺ لِأنَّهُ إذا عَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ إصْرارَهم عَلى الكُفْرِ، وأنَّهُ قَدْ جَرى القَضاءُ الأزَلِيُّ بِذَلِكَ حَصَلَ اليَأْسُ، وفي المَثَلِ: اليَأْسُ إحْدى الرّاحَتَيْنِ. المسألة الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ سَلَكْناهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ الكُلَّ بِقَضاءِ اللَّهِ وخَلْقِهِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: أرادَ بِهِ أنَّهُ صارَ ذَلِكَ التَّكْذِيبُ مُتَمَكِّنًا في قُلُوبِهِمْ أشَدَّ التَّمَكُّنِ فَصارَ ذَلِكَ كالشَّيْءِ الجِبِلِّيِّ. والجَوابُ: أنَّهُ إمّا أنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَ اللَّهُ فِيهِمْ ما يَقْتَضِي رُجْحانَ التَّكْذِيبِ عَلى التَّصْدِيقِ أوْ ما فَعَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَإنْ كانَ الأوَّلُ فَقَدْ دَلَّلْنا في سُورَةِ الأنْعامِ عَلى أنَّ التَّرْجِيحَ لا يَتَحَقَّقُ ما لَمْ يَنْتَهِ إلى حَدِّ الوُجُوبِ وحِينَئِذٍ يَحْصُلُ المَقْصُودُ، فَإنْ لَمْ يَفْعَلْ فِيهِمْ ما يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ البَتَّةَ، امْتَنَعَ قَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ سَلَكْناهُ﴾ كَما أنَّ طَيَرانَ الطّائِرِ لَمّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِكُفْرِهِمْ، امْتَنَعَ إسْنادُ الكُفْرِ إلى ذَلِكَ الطَّيَرانِ. المسألة الخامِسَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: فَإنْ قُلْتَ: ما مَوْقِعُ ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ مِن قَوْلِهِ ﴿سَلَكْناهُ في قُلُوبِ المُجْرِمِينَ﴾ ؟ قُلْتُ: مَوْقِعُهُ مِنهُ مُوقِعُ المُوَضِّحِ والمُبَيِّنِ؛ لِأنَّهُ مَسُوقٌ لِبَيانِهِ مُؤَكِّدٌ لِلْجُحُودِ في قُلُوبِهِمْ، فاتَّبَعَ ما يُقَرِّرُ هَذا المَعْنى مِن أنَّهم لا يَزالُونَ عَلى التَّكْذِيبِ بِهِ حَتّى يُعايِنُوا الوَعِيدَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب