الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِلْغاوِينَ﴾ ﴿وقِيلَ لَهم أيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ﴾ ﴿مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكم أوْ يَنْتَصِرُونَ﴾ ﴿فَكُبْكِبُوا فِيها هم والغاوُونَ﴾ ﴿وجُنُودُ إبْلِيسَ أجْمَعُونَ﴾ ﴿قالُوا وهم فِيها يَخْتَصِمُونَ﴾ ﴿تاللَّهِ إنْ كُنّا لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿إذْ نُسَوِّيكم بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿وما أضَلَّنا إلّا المُجْرِمُونَ﴾ ﴿فَما لَنا مِن شافِعِينَ﴾ ﴿ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ ﴿فَلَوْ أنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ . اعْلَمْ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَكَرَ في وصْفِ هَذا اليَوْمِ أُمُورًا: أحَدُها: قَوْلُهُ: ﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِلْغاوِينَ﴾ والمَعْنى أنَّ الجَنَّةَ قَدْ تَكُونُ قَرِيبَةً مِن مَوْقِفِ السُّعَداءِ يَنْظُرُونَ إلَيْها ويَفْرَحُونَ بِأنَّهُمُ المَحْشُورُونَ إلَيْها والنّارُ تَكُونُ بارِزَةً مَكْشُوفَةً لِلْأشْقِياءِ بِمَرْأًى مِنهم يَتَحَسَّرُونَ عَلى أنَّهُمُ المَسُوقُونَ إلَيْها، قالَ اللَّهُ تَعالى في صِفَةِ أهْلِ الثَّوابِ: ﴿وأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ [ق: ٣١]، وقالَ في صِفَةِ أهْلِ العِقابِ: ﴿فَلَمّا رَأوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الملك: ٢٧] وإنَّما يَفْعَلُ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ لِيَكُونَ سُرُورًا مُعَجَّلًا لِلْمُؤْمِنِينَ وغَمًّا عَظِيمًا لِلْكافِرِينَ. ثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿وقِيلَ لَهم أيْنَ ما كُنْتُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وجُنُودُ إبْلِيسَ أجْمَعُونَ﴾ والمَعْنى أيْنَ آلِهَتُكم هَلْ يَنْفَعُونَكم بِنُصْرَتِهِمْ لَكم أوْ هَلْ يَنْفَعُونَ أنْفُسَهم بِانْتِصارِهِمْ لِأنَّهم وآلِهَتَهم وقُودُ النّارِ وهو قَوْلُهُ: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيها هم والغاوُونَ﴾ أيِ الآلِهَةُ وعَبَدَتُهُمُ الَّذِينَ بُرِّزَتْ لَهُمُ الجَحِيمُ، والكَبْكَبَةُ تَكْرِيرُ الكَبِّ جَعَلَ التَّكْرِيرَ في اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلى التَّكْرِيرِ في المَعْنى كَأنَّهُ إذا أُلْقِيَ في جَهَنَّمَ يَنْكَبُّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتّى يَسْتَقِرَّ في قَعْرِها ﴿وجُنُودُ إبْلِيسَ﴾ مُتَّبِعُوهُ مِن عُصاةِ الإنْسِ والجِنِّ. وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿قالُوا وهم فِيها يَخْتَصِمُونَ﴾ ﴿تاللَّهِ إنْ كُنّا لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿إذْ نُسَوِّيكم بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ . واعْلَمْ أنَّ ظاهِرَ ذَلِكَ أنَّ مَن عَبَدَ خاصَمَ المَعْبُودَ وخاطَبَهُ بِهَذا الكَلامِ، فَلَيْسَ يَخْلُو حالُ الأصْنامِ مِن وجْهَيْنِ إمّا أنْ يَخْلُقَها اللَّهُ تَعالى في الآخِرَةِ جَمادًا يُعَذِّبُ بِها أهْلَ النّارِ فَحِينَئِذٍ لا يَصِحُّ أنْ تُخاطَبَ ويَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِمْ: ﴿إذْ نُسَوِّيكم بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِخِطابٍ لَهم أوْ يُقالُ إنَّهُ تَعالى يُحْيِيها في النّارِ، وذَلِكَ أيْضًا غَيْرُ جائِزٍ لِأنَّهُ لا ذَنْبَ لَها بِأنْ عَبَدَها غَيْرُها. فالأقْرَبُ أنَّهم ذَكَرُوا ذَلِكَ لَمّا رَأوْا صُوَرَها عَلى وجْهِ الِاعْتِرافِ بِالخَطَأِ العَظِيمِ وعَلى وجْهِ النَّدامَةِ لا عَلى سَبِيلِ المُخاطَبَةِ، والَّذِي يُحْمَلُ عَلى أنَّهُ خِطابٌ في (p-١٣٢)الحَقِيقَةِ قَوْلُهم: ﴿وما أضَلَّنا إلّا المُجْرِمُونَ﴾ وأرادُوا بِذَلِكَ مَن دَعاهم إلى عِبادَةِ الأصْنامِ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ وهو كَقَوْلِهِمْ: ﴿رَبَّنا إنّا أطَعْنا سادَتَنا وكُبَراءَنا فَأضَلُّونا السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب: ٦٧] فَأمّا قَوْلُهم: ﴿فَما لَنا مِن شافِعِينَ﴾ كَما نَرى المُؤْمِنِينَ لَهم شُفَعاءُ مِنَ المَلائِكَةِ والنَّبِيِّينَ ﴿ولا صَدِيقٍ﴾ كَما نَرى لَهم أصْدِقاءَ لِأنَّهُ لا يَتَصادَقُ في الآخِرَةِ إلّا المُؤْمِنُونَ، وأمّا أهْلُ النّارِ فَبَيْنَهُمُ التَّعادِي والتَّباغُضُ قالَ تَعالى: ﴿الأخِلّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلّا المُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: ٦٧] أوْ ﴿فَما لَنا مِن شافِعِينَ﴾ ﴿ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ مِنَ الَّذِينَ كُنّا نَعُدُّهم شُفَعاءَ وأصْدِقاءَ لِأنَّهم كانُوا يَعْتَقِدُونَ في أصْنامِهِمْ أنَّهم شُفَعاؤُهم عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وكانَ لَهم أصْدِقاءُ مِن شَياطِينِ الإنْسِ، أوْ أرادُوا أنَّهم إنْ وقَعُوا في مَهْلَكَةٍ عَلِمُوا أنَّ الشُّفَعاءَ والأصْدِقاءَ لا يَنْفَعُونَهم ولا يَدْفَعُونَ عَنْهم، فَقَصَدُوا بِنَفْيِهِمْ نَفِيَ ما تَعَلَّقَ بِهِمْ مِنَ النَّفْعِ، لِأنَّ ما لا يَنْفَعُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ المَعْدُومِ، والحَمِيمُ مِنَ الِاحْتِمامِ وهو الِاهْتِمامُ وهو الَّذِي يَهُمُّهُ ما يَهُمُّكَ، أوْ مِنَ الحامَّةِ بِمَعْنى الخاصَّةِ وهو الصَّدِيقُ الخالِصُ، وإنَّما جَمَعَ الشُّفَعاءَ ووَحَّدَ الصَّدِيقَ لِكَثْرَةِ الشُّفَعاءِ في العادَةِ وقِلَّةِ الصَّدِيقِ، فَإنَّ الرَّجُلَ المُمْتَحَنَ بِإرْهاقِ الظّالِمِ قَدْ يَنْهَضُ جَماعَةٌ وافِرَةٌ مِن أهْلِ بَلَدِهِ لِشَفاعَتِهِ رَحْمَةً لَهُ، وأمّا الصَّدِيقُ وهو الصّادِقُ في وِدادِكَ، فَأعَزُّ مِن بَيْضِ الأنُوقِ، ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِالصَّدِيقِ الجَمْعَ ثُمَّ حَكى تَعالى عَنْهم قَوْلَهم: ﴿فَلَوْ أنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ وأنَّهم تَمَنَّوُا الرَّجْعَةَ إلى الدُّنْيا، ولَوْ في مِثْلِ هَذا الوَضْعِ في مَعْنى التَّمَنِّي كَأنَّهُ قِيلَ: فَلَيْتَ لَنا كَرَّةً، وذَلِكَ لِما بَيْنَ مَعْنى لَوْ ولَيْتَ مِنَ التَّلاقِي في التَّقْدِيرِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ عَلى أصْلِها ويُحْذَفُ الجَوابُ وهو لَفَعَلْنا كَيْتَ وكَيْتَ. قالَ الجُبّائِيُّ: إنْ قَوْلَهم ﴿فَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ لَيْسَ بِخَبَرٍ عَنْ إيمانِهِمْ لَكِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ عَزْمِهِمْ لِأنَّهُ لَوْ كانَ خَبَرًا عَنْ إيمانِهِمْ لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ صِدْقًا، لَأنَّ الكَذِبَ لا يَقَعُ مِن أهْلِ الآخِرَةِ، وقَدْ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِخِلافِ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٨] وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الأنْعامِ بَيانُ فَسادِ هَذا الكَلامِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّ فِيما ذَكَرَهُ مِن قِصَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَآيَةً لِمَن يُرِيدُ أنْ يَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ ثم قال: ﴿وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ والأكْثَرُونَ مِنَ المُفَسِّرِينَ حَمَلُوهُ عَلى قَوْمِ إبْراهِيمَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ مَعَ كُلِّ هَذِهِ الدَّلائِلِ فَأكْثَرُ قَوْمِهِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فَيَكُونُ هَذا تَسْلِيَةً لِلرَّسُولِ ﷺ، فِيما يَجِدُهُ مِن تَكْذِيبِ قَوْمِهِ. فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ فَمَعْناهُ أنَّهُ قادِرٌ عَلى تَعْجِيلِ الِانْتِقامِ لَكِنَّهُ رَحِيمٌ بِالإمْهالِ لِكَيْ يُؤْمِنُوا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب