الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ ﴿واجْعَلْنِي مِن ورَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾ ﴿واغْفِرْ لِأبِي إنَّهُ كانَ مِنَ الضّالِّينَ﴾ ﴿ولا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ﴾ ﴿إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ . اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا حَكى عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثَناءَهُ عَلى اللَّهِ تَعالى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ دُعاءَهُ ومَسْألَتَهُ وذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ تَقْدِيمَ الثَّناءِ عَلى الدُّعاءِ مِنَ المُهِمّاتِ وتَحْقِيقُ الكَلامِ فِيهِ أنَّ هَذِهِ الأرْواحَ البَشَرِيَّةَ مِن جِنْسِ المَلائِكَةِ فَكُلَّما كانَ اشْتِغالُها بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى ومَحَبَّتِهِ والِانْجِذابُ إلى عالَمِ الرُّوحانِيّاتِ أشَدَّ كانَتْ مُشاكَلَتُها لِلْمَلائِكَةِ أتَمَّ، فَكانَتْ أقْوى عَلى التَّصَرُّفِ في أجْسامِ هَذا العالَمِ، وكُلَّما كانَ اشْتِغالُها بِلَذّاتِ هَذا العالَمِ واسْتِغْراقُها في ظُلُماتِ هَذِهِ الجُسْمانِيّاتِ أشَدَّ كانَتْ مُشاكَلَتُها لِلْبَهائِمِ أشَدَّ فَكانَتْ أكْثَرَ عَجْزًا وضَعْفًا وأقَلَّ تَأْثِيرًا في هَذا العالَمِ، فَمَن أرادَ أنْ يَشْتَغِلَ بِالدُّعاءِ يَجِبُ أنْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ ثَناءَ اللَّهِ تَعالى وذِكْرَ عَظَمَتِهِ وكِبْرِيائِهِ حَتّى أنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذِّكْرِ يَصِيرُ مُسْتَغْرِقًا في مَعْرِفَةِ اللَّهِ ومَحَبَّتِهِ ويَصِيرُ قَرِيبَ المُشاكَلَةِ مِنَ المَلائِكَةِ فَتَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ تِلْكَ المُشاكَلَةِ قُوَّةٌ إلَهِيَّةٌ سَماوِيَّةٌ فَيَصِيرُ مَبْدَأً لِحُدُوثِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي هو المَطْلُوبُ بِالدُّعاءِ فَهَذا هو الكَشْفُ عَنْ ماهِيَّةِ الدُّعاءِ وظَهَرَ أنَّ تَقْدِيمَ الثَّناءِ عَلى الدُّعاءِ مِنَ الواجِباتِ وظَهَرَ بِهِ تَحْقِيقُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ حِكايَةً عَنِ اللَّهِ تَعالى: ”«مَن شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أُعْطِي السّائِلِينَ» “ فَإنْ قالَ قائِلٌ: لِمَ لَمْ يَقْتَصِرْ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى الثَّناءِ، لا سِيَّما ويُرْوى عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ قالَ: حَسْبِي مِن سُؤالِي عِلْمُهُ بِحالِي ؟ فالجَوابُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما ذَكَرَ ذَلِكَ حِينَ كانَ مُشْتَغِلًا بِدَعْوَةِ الخَلْقِ إلى الحَقِّ ألا تَرى أنَّهُ قالَ: ﴿فَإنَّهم عَدُوٌّ لِي إلّا رَبَّ العالَمِينَ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ الثَّناءَ، ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعاءَ لِأنَّ الشّارِعَ لا بُدَّ لَهُ مِن تَعْلِيمِ الشَّرْعِ، فَأمّا حِينَ ما خَلا بِنَفْسِهِ، ولَمْ يَكُنْ غَرَضُهُ تَعْلِيمَ الشَّرْعِ كانَ يَقْتَصِرُ عَلى قَوْلِهِ: حَسْبِي مِن سُؤالِي عِلْمُهُ بِحالِي. * * * البَحْثُ الثّانِي: في الأُمُورِ الَّتِي طَلَبَها في الدُّعاءِ وهي مَطالِيبُ: المَطْلُوبُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾، ولَقَدْ أجابَهُ اللَّهُ تَعالى حَيْثُ قالَ: ﴿وإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ﴾ [البقرة: ١٣٠] وفِيهِ مَطالِبُ: أحَدُها: أنَّهُ لا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الحُكْمِ بِالنُّبُوَّةِ لِأنَّ (p-١٢٨)النُّبُوَّةَ كانَتْ حاصِلَةً فَلَوْ طَلَبَ النُّبُوَّةَ لَكانَتِ النُّبُوَّةُ المَطْلُوبَةُ، إمّا عَيْنَ النُّبُوَّةِ الحاصِلَةَ أوْ غَيْرَها، والأوَّلُ مُحالٌ لِأنَّ تَحْصِيلَ الحاصِلِ مُحالٌ، والثّانِي مُحالٌ لِأنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الواحِدُ نَبِيًّا مَرَّتَيْنِ، بَلِ المُرادُ مِنَ الحُكْمِ ما هو كَمالُ القُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وذَلِكَ بِإدْراكِ الحَقِّ ومِن قَوْلِهِ ﴿وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ كَمالُ القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ، وذَلِكَ بِأنْ يَكُونَ عامِلًا بِالخَيْرِ فَإنَّ كَمالِ الإنْسانِ أنْ يَعْرِفَ الحَقَّ لِذاتِهِ، والخَيْرَ لِأجْلِ العَمَلِ بِهِ، وإنَّما قَدَّمَ قَوْلَهُ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا﴾ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ لِما أنَّ القُوَّةَ النَّظَرِيَّةَ مُقَدِّمَةٌ عَلى القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ بِالشَّرَفِ وبِالذّاتِ، وأيْضًا فَإنَّهُ يُمْكِنُهُ أنْ يَعْلَمَ الحَقَّ وإنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالخَيْرِ وعَكْسُهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، ولِأنَّ العِلْمَ صِفَةُ الرُّوحِ والعَمَلَ صِفَةُ البَدَنِ، ولَمّا كانَ الرُّوحُ أشْرَفَ مِنَ البَدَنِ كانَ العِلْمُ أفْضَلَ مِنَ العَمَلِ، وإنَّما فَسَّرْنا مَعْرِفَةَ الأشْياءِ بِالحُكْمِ وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ لا يَعْرِفُ حَقائِقَ الأشْياءِ إلّا إذا اسْتَحْضَرَ في ذِهْنِهِ صُوَرَ الماهِيّاتِ، ثُمَّ نَسَبَ بَعْضَها إلى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أوْ بِالإثْباتِ، وتِلْكَ النِّسْبَةُ وهي الحُكْمُ، ثُمَّ إنْ كانَتِ النِّسَبُ الذِّهْنِيَّةُ مُطابِقَةً لِلنِّسَبِ الخارِجِيَّةِ كانَتِ النِّسَبُ الذِّهْنِيَّةُ مُمْتَنِعَةَ التَّغَيُّرِ فَكانَتْ مُسْتَحْكِمَةً قَوِيَّةً، فَمِثْلُ هَذا الإدْراكِ يُسَمّى حِكْمَةً وحُكْمًا، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«أرِنا الأشْياءَ كَما هي» “ وأمّا الصَّلاحُ فَهو كَوْنُ القُوَّةِ العاقِلَةِ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ رَذِيلَتِيِ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ، وذَلِكَ لِأنَّ الإفْراطَ في أحَدِ الجانِبَيْنِ تَفْرِيطٌ في الجانِبِ الآخَرِ وبِالعَكْسِ فالصَّلاحُ لا يَحْصُلُ إلّا بِالِاعْتِدالِ، ولَمّا كانَ الِاعْتِدالُ الحَقِيقِيُّ شَيْئًا واحِدًا لا يَقْبَلُ القِسْمَةَ البَتَّةَ والأفْكارُ البَشَرِيَّةُ في هَذا العالَمِ قاصِرَةً عَلى إدْراكِ أمْثالِ هَذِهِ الأشْياءِ، لا جَرَمَ لا يَنْفَكُّ البَشَرُ عَنِ الخُرُوجِ عَنْ ذَلِكَ الحَدِّ وإنْ قَلَّ، إلّا أنَّ خُرُوجَ المُقَرَّبِينَ عَنْهُ يَكُونُ في القِلَّةِ بِحَيْثُ لا يُحَسُّ بِهِ، وخُرُوجُ العُصاةِ عَنْهُ يَكُونُ مُتَفاحِشًا جِدًّا فَقَدْ ظَهَرَ مِن هَذا تَحْقِيقُ ما قِيلَ: حَسَناتُ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ، وظَهَرَ احْتِياجُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى أنْ يَقُولَ: ﴿وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ . المَطْلَبُ الثّانِي: لَمّا ثَبَتَ أنَّ المُرادَ مِنَ الحُكْمِ العِلْمُ، ثَبَتَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أنْ يُعْطِيَهُ العِلْمَ بِاللَّهِ تَعالى وبِصِفاتِهِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعالى لا تَحْصُلُ في قَلْبِ العَبْدِ إلّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى، وقَوْلُهُ: ﴿وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ كَوْنَ العَبْدِ صالِحًا لَيْسَ إلّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى، وحَمْلُ هَذِهِ الأشْياءِ عَلى الألْطافِ بَعِيدٌ، لِأنَّ عِنْدَ الخَصْمِ كُلَّ ما في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى مِنَ الألْطافِ فَقَدْ فَعَلَهُ فَلَوْ صَرَفْنا الدُّعاءَ إلَيْهِ لَكانَ ذَلِكَ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ الحاصِلِ وهو فاسِدٌ. * * * المَطْلَبُ الثّالِثُ: أنَّ الحُكْمَ المَطْلُوبَ في الدُّعاءِ إمّا أنْ يَكُونَ هو العِلْمَ بِاللَّهِ أوْ بِغَيْرِهِ والثّانِي باطِلٌ، لِأنَّ الإنْسانَ حالَ كَوْنِهِ مُسْتَحْضِرًا لِلْعِلْمِ بِشَيْءٍ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا لِلْعِلْمِ بِشَيْءٍ آخَرَ فَلَوْ كانَ المَطْلُوبُ بِهَذا الدُّعاءِ العِلْمَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى، والعِلْمُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى شاغِلٌ عَنِ الِاسْتِغْراقِ في العِلْمِ بِاللَّهِ كانَ هَذا السُّؤالُ طَلَبًا لِما يَشْغَلُهُ عَنِ الِاسْتِغْراقِ في العِلْمِ بِاللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ لِأنَّهُ لا كَمالَ فَوْقَ ذَلِكَ الِاسْتِغْراقِ، فَإذَنِ المَطْلُوبُ بِهَذا الدُّعاءِ هو العِلْمُ بِاللَّهِ. ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ العِلْمَ إمّا أنْ يَكُونَ هو العِلْمَ بِاللَّهِ تَعالى الَّذِي هو شَرْطُ صِحَّةِ الإيمانِ أوْ غَيْرُهُ، والأوَّلُ باطِلٌ لِأنَّهُ لَمّا وجَبَ أنْ يَكُونَ حاصِلًا لِكُلِّ المُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ لا يَكُونُ حاصِلًا عِنْدَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وإذا كانَ حاصِلًا عِنْدَهُ امْتَنَعَ طَلَبُ تَحْصِيلِهِ، فَثَبَتَ أنَّ المَطْلُوبَ بِهَذا الدُّعاءِ دَرَجاتٌ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى أزْيَدُ مِنَ العِلْمِ بِوُجُودِهِ وبِأنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ ولا حالٍّ في المُتَحَيِّزِ وبِأنَّهُ عالَمٌ قادِرٌ حَيٌّ، وما ذاكَ إلّا الوُقُوفُ عَلى صِفاتِ الجَلالِ أوِ الوُقُوفُ عَلى حَقِيقَةِ الذّاتِ أوْ ظُهُورُ نُورِ تِلْكَ المَعْرِفَةِ (p-١٢٩)فِي القَلْبِ. ثُمَّ هُناكَ أحْوالٌ لا يُعَبِّرُ عَنْها المَقالُ ولا يَشْرَحُها الخَيالُ، ومَن أرادَ أنْ يَصِلَ إلَيْها فَلْيَكُنْ مِنَ الواصِلِينَ إلى العَيْنِ، دُونَ السّامِعِينَ لِلْأثَرِ. المَطْلُوبُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ وفِيهِ ثَلاثُ تَأْوِيلاتٍ: التَّأْوِيلُ الأوَّلُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ابْتَدَأ بِطَلَبِ ما هو الكَمالُ الذّاتِيُّ لِلْإنْسانِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ وهو طَلَبُ الحُكْمِ الَّذِي هو العِلْمُ، ثُمَّ طَلَبَ بَعْدَهُ كِمالاتِ الدُّنْيا وبَعْدَ ذَلِكَ طَلَبَ كِمالاتِ الآخِرَةِ، فَأمّا كِمالاتُ الدُّنْيا فَبَعْضُها داخِلِيَّةٌ وبَعْضُها خارِجِيَّةٌ، أمّا الدّاخِلِيَّةُ: فَهي الخَلْقُ الظّاهِرُ والخَلْقُ الباطِنُ والخَلْقُ الظّاهِرُ أشَدُّ جُسْمانِيَّةً والخَلْقُ الباطِنُ أشَدُّ رُوحانِيَّةً، فَتَرَكَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ الأمْرَ الجُسْمانِيَّ وهو الخَلْقُ الظّاهِرُ وطَلَبَ الأمْرَ الرُّوحانِيَّ وهو الخَلْقُ الباطِنُ، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ وأمّا الخارِجِيَّةُ: فَهي المالُ والجاهُ، والمالُ أشَدُّ جُسْمانِيَّةً والجاهُ أشَدُّ رُوحانِيَّةً فَتَرَكَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ الأمْرَ الجُسْمانِيَّ وهو المالُ وطَلَبَ الأمْرَ الرُّوحانِيَّ وهو الجاهُ والذِّكْرُ الجَمِيلُ الباقِي عَلى وجْهِ الدَّهْرِ، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: وقَدْ أعْطاهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وتَرَكْنا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ﴾ [الصافات: ١٠٨] فَإنْ قِيلَ وأيُّ غَرَضٍ لَهُ في أنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ ويَمْدَحَ ؟ جَوابُهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: وهو عَلى لِسانِ الحِكْمَةِ: أنَّ الأرْواحَ البَشَرِيَّةَ قَدْ بَيَّنّا أنَّها مُؤَثِّرَةٌ في الجُمْلَةِ إلّا أنَّ بَعْضَها قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا فَيَعْجِزُ عَنِ التَّأْثِيرِ فَإذا اجْتَمَعَتْ طائِفَةٌ مِنها فَرُبَّما قَوِيَ مَجْمُوعُها عَلى ما عَجَزَتِ الآحادُ عَنْهُ، وهَذا المَعْنى مَشاهَدٌ في المُؤَثِّراتِ الجُسْمانِيَّةِ، إذا ثَبَتَ هَذا فالإنْسانُ الواحِدُ إذا كانَ بِحَيْثُ يُثْنِي عَلَيْهِ الجَمْعُ العَظِيمُ ويَمْدَحُونَهُ ويُعَظِّمُونَهُ، فَرُبَّما صارَ انْصِرافُ هِمَمِهِمْ عِنْدَ الِاجْتِماعِ إلَيْهِ سَبَبًا لِحُصُولِ زِيادَةِ كَمالٍ لَهُ. الثّانِي: وهو عَلى لِسانِ الكَمالِ: أنَّ مَن صارَ مَمْدُوحًا فِيما بَيْنَ النّاسِ بِسَبَبِ ما عِنْدَهُ مِنَ الفَضائِلِ، فَإنَّهُ يَصِيرُ ذَلِكَ المَدْحُ وتِلْكَ الشُّهْرَةُ داعِيًا لِغَيْرِهِ إلى اكْتِسابِ مِثْلِ تِلْكَ الفَضائِلِ. التَّأْوِيلُ الثّانِي: أنَّهُ سَألَ رَبَّهُ أنْ يَجْعَلَ مِن ذُرِّيَّتِهِ في آخِرِ الزَّمانِ مَن يَكُونُ داعِيًا إلى اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ هُوَمُحَمَّدٌ ﷺ فالمُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ بَعْثَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ . التَّأْوِيلُ الثّالِثُ: قالَ بَعْضُهم: المُرادُ اتِّفاقُ أهْلِ الأدْيانِ عَلى حُبِّهِ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى أعْطاهُ ذَلِكَ لِأنَّكَ لا تَرى أهْلَ دِينٍ إلّا ويَتَوَلَّوْنَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقَدَحَ بَعْضُهم فِيهِ بِأنَّهُ لا تَقْوى الرَّغْبَةُ في مَدْحِ الكافِرِ وجَوابُهُ: أنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ مَدْحَ الكافِرِ مِن حَيْثُ هو كافِرٌ، بَلِ المَقْصُودُ أنْ يَكُونَ مَمْدُوحَ كُلِّ إنْسانٍ ومَحْبُوبَ كُلِّ قَلْبٍ. المَطْلُوبُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿واجْعَلْنِي مِن ورَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ لَمّا طَلَبَ سَعادَةَ الدُّنْيا طَلَبَ بَعْدَها سَعادَةَ الآخِرَةِ وهي جَنَّةُ النَّعِيمِ، وشَبَّهَها بِما يُوَرَّثُ لِأنَّهُ الَّذِي يُغْتَنَمُ في الدُّنْيا، فَشَبَّهَ غَنِيمَةَ الآخِرَةِ بِغَنِيمَةِ الدُّنْيا. المَطْلُوبُ الرّابِعُ: قَوْلُهُ: ﴿واغْفِرْ لِأبِي إنَّهُ كانَ مِنَ الضّالِّينَ﴾ واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا فَرَغَ مِن طَلَبِ السَّعاداتِ الدُّنْيَوِيَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ لِنَفْسِهِ طَلَبَها لِأشَدِّ النّاسِ التِصاقًا بِهِ وهو أبُوهُ فَقالَ: ﴿واغْفِرْ لِأبِي﴾ ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ المَغْفِرَةَ مَشْرُوطَةٌ بِالإسْلامِ وطَلَبُ المَشْرُوطِ مُتَضَمِّنٌ لِطَلَبِ الشَّرْطِ فَقَوْلُهُ: ﴿واغْفِرْ لِأبِي﴾ يَرْجِعُ حاصِلُهُ إلى أنَّهُ دُعاءٌ لِأبِيهِ بِالإسْلامِ. الثّانِي: أنَّ أباهُ وعَدَهُ الإسْلامَ كَما قالَ تَعالى: ﴿وما كانَ اسْتِغْفارُ إبْراهِيمَ لِأبِيهِ إلّا عَنْ﴾ (p-١٣٠)﴿مَوْعِدَةٍ وعَدَها إيّاهُ﴾ [التوبة: ١١٤] فَدَعا لَهُ لِهَذا الشَّرْطِ ولا يَمْتَنِعُ الدُّعاءُ لِلْكافِرِ عَلى هَذا الشَّرْطِ ﴿فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأ مِنهُ﴾ [التوبة: ١١٤] وهَذا ضَعِيفٌ لِأنَّ الدُّعاءَ بِهَذا الشَّرْطِ جائِزٌ لِلْكافِرِ فَلَوْ كانَ دُعاؤُهُ مَشْرُوطًا لَما مَنَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ. الثّالِثُ: أنَّ أباهُ قالَ لَهُ: إنَّهُ عَلى دِينِهِ باطِنًا وعَلى دِينِ نَمْرُوذَ ظاهِرًا تَقِيَّةً وخَوْفًا، فَدَعا لَهُ لِاعْتِقادِهِ أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ خِلافَ ذَلِكَ تَبَرَّأ مِنهُ، لِذَلِكَ قالَ في دُعائِهِ: ﴿إنَّهُ كانَ مِنَ الضّالِّينَ﴾ فَلَوْلا اعْتِقادُهُ فِيهِ أنَّهُ في الحالِ لَيْسَ بِضالٍّ لَما قالَ ذَلِكَ. المَطْلُوبُ الخامِسُ: قَوْلُهُ: ﴿ولا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: الإخْزاءُ مِنَ الخِزْيِ وهو الهَوانُ، أوْ مِنَ الخَزايَةِ وهي الحَياءُ وهَهُنا أبْحاثٌ: أحَدُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا تُخْزِنِي﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَجِبُ عَلى اللَّهِ تَعالى شَيْءٌ عَلى ما بَيَّنّاهُ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ . وثانِيها: أنَّ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ لَمّا قالَ أوَّلًا: ﴿واجْعَلْنِي مِن ورَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾ ومَتى حَصَلَتِ الجَنَّةُ امْتَنَعَ حُصُولُ الخِزْيِ، فَكَيْفَ قالَ بَعْدَهُ: ﴿ولا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ وأيْضًا فَقَدْ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الخِزْيَ اليَوْمَ والسُّوءَ عَلى الكافِرِينَ﴾ [النحل: ٢٧] فَمًا كانَ نَصِيبُ الكُفّارِ فَقَطْ فَكَيْفَ يَخافُهُ المَعْصُومُ ؟ جَوابُهُ: كَما أنَّ حَسَناتِ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ فَكَذا دَرَجاتُ الأبْرارِ دَرَكاتُ المُقَرَّبِينَ وخِزْيُ كُلِّ واحِدٍ بِما يَلِيقُ بِهِ. وثالِثُها: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: في [ يُبْعَثُونَ ] ضَمِيرُ العِبادِ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أوْ ضَمِيرُ الضّالِّينَ. * * * أمّا قَوْلُهُ: ﴿إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أكْرَمُهُ بِهَذا الوَصْفِ حَيْثُ قالَ: ﴿وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإبْراهِيمَ﴾ ﴿إذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: ٨٣، ٨٤] . ثُمَّ في هَذا الِاسْتِثْناءِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّهُ إذا قِيلَ لَكَ: هَلْ لِزَيْدٍ مالٌ وبَنُونَ ؟ فَتَقُولُ: مالُهُ وبَنُوهُ سَلامَةُ قَلْبِهِ، تُرِيدُ نَفْيَ المالِ والبَنِينَ عَنْهُ وإثْباتَ سَلامَةِ القَلْبِ لَهُ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ، فَكَذا في هَذِهِ الآيَةِ. وثانِيها: أنْ نَحْمِلَ الكَلامَ عَلى المَعْنى ونَجْعَلَ المالَ والبَنِينَ في مَعْنى الغِنى كَأنَّهُ قِيلَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ غِنًى إلّا غِنى مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لِأنَّ غِنى الرَّجُلِ في دِينِهِ بِسَلامَةِ قَلْبِهِ كَما أنَّ غِناهُ في دُنْياهُ بِمالِهِ وبَنِيهِ. وثالِثُها: أنْ نَجْعَلَ [ مَن ] مَفْعُولًا لِ ”يَنْفَعُ“ أيْ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ إلّا رَجُلًا سَلِمَ قَلْبُهُ مَعَ مالِهِ حَيْثُ أنْفَقَهُ في طاعَةِ اللَّهِ تَعالى، ومَعَ بَنِيهِ حَيْثُ أرْشَدَهم إلى الدِّينِ، ويَجُوزُ عَلى هَذا ﴿إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ مِن فِتْنَةِ المالِ والبَنِينَ، أمّا السَّلِيمُ فَفي ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: وهو الأصَحُّ أنَّ المُرادَ مِنهُ سَلامَةُ القَلْبِ عَنِ الجَهْلِ والأخْلاقِ الرَّذِيلَةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ كَما أنَّ صِحَّةَ البَدَنِ وسَلامَتَهُ عِبارَةٌ عَنْ حُصُولِ ما يَنْبَغِي مِنَ المِزاجِ والتَّرْكِيبِ والِاتِّصالِ ومَرَضَهُ عِبارَةٌ عَنْ زَوالِ أحَدِ تِلْكَ الأُمُورِ فَكَذَلِكَ سَلامَةُ القَلْبِ عِبارَةٌ عَنْ حُصُولِ ما يَنْبَغِي لَهُ وهو العِلْمُ والخُلُقُ الفاضِلُ ومَرَضُهُ عِبارَةٌ عَنْ زَوالِ أحَدِهِما فَقَوْلُهُ: ﴿إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ أنْ يَكُونَ خالِيًا عَنِ العَقائِدِ الفاسِدَةِ والمِيلِ إلى شَهَواتِ الدُّنْيا ولَذّاتِها فَإنْ قِيلَ فَظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ مَن سَلِمَ قَلْبُهُ كانَ ناجِيًا وأنَّهُ لا حاجَةَ فِيهِ إلى سَلامَةِ اللِّسانِ واليَدِ جَوابُهُ: أنَّ القَلْبَ مُؤَثِّرٌ واللِّسانَ والجَوارِحَ تَبَعٌ فَلَوْ كانَ القَلْبُ سَلِيمًا لَكانا سَلِيمَيْنِ لا مَحالَةَ، وحَيْثُ لَمْ يَسْلَما ثَبَتَ عَدَمُ سَلامَةِ القَلْبِ. التَّأْوِيلُ الثّانِي: أنَّ السَّلِيمَ هو اللَّدِيغُ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ تَعالى. التَّأْوِيلُ الثّالِثُ: أنَّ السَّلِيمَ هو الَّذِي سَلِمَ وأسْلَمَ وسالَمَ واسْتَسْلَمَ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب