الباحث القرآني

[ القِصَّةُ الأُولى: قِصَّةُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ] . ﴿وإذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أنِ ائْتِ القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ ألا يَتَّقُونَ﴾ . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أنِ ائْتِ القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ ألا يَتَّقُونَ﴾ . اخْتَلَفَ أهْلُ السُّنَّةِ في النِّداءِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ اللَّهِ تَعالى، هَلْ هو كَلامُهُ القَدِيمُ، أوْ هو ضَرْبٌ مِنَ الأصْواتِ، فَقالَ أبُو الحَسَنِ الأشْعَرِيُّ: المَسْمُوعُ هو الكَلامُ القَدِيمُ، وكَما أنَّ ذاتَهُ تَعالى لا تُشْبِهُ سائِرَ الأشْياءِ، مَعَ أنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلى أنَّها مَعْلُومَةٌ ومُرَتَّبَةٌ، فَكَذا كَلامُهُ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشابَهَةِ الحُرُوفِ والأصْواتِ، مَعَ أنَّهُ مَسْمُوعٌ، وقالَ أبُو مَنصُورٍ الماتُرِيدِيُّ: الَّذِي سَمِعَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ نِداءً مِن جِنْسِ الحُرُوفِ والأصْواتِ، وذَلِكَ لِأنَّ الدَّلِيلَ لَمّا دَلَّ عَلى أنّا رَأيْنا الجَوْهَرَ والعَرَضَ، ولا بُدَّ مِن عِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُما لِصِحَّةِ الرُّؤْيَةِ، ولا عِلَّةَ إلّا الوُجُودُ، حَكَمْنا بِأنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ أنْ يُرى، ولَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنا أنّا نَسْمَعُ الأصْواتَ والأجْسامَ حَتّى يَحْكُمَ بِأنَّهُ لا بُدَّ مِن مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الجِسْمِ والصَّوْتِ، فَلَمْ يَلْزَمْ صِحَّةُ كَوْنِ كُلِّ مَوْجُودٍ مَسْمُوعًا (p-١٠٦)فَظَهَرَ الفَرْقُ، أمّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ ذَلِكَ المَسْمُوعَ ما كانَ إلّا حُرُوفًا وأصْواتًا، فَعِنْدَ هَذا قالُوا: إنَّ ذَلِكَ النِّداءَ وقَعَ عَلى وجْهٍ عَلِمَ بِهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى، فَصارَ مُعْجِزًا عَلِمَ بِهِ أنَّ اللَّهَ مُخاطِبٌ لَهُ، فَلَمْ يَحْتَجْ مَعَ ذَلِكَ إلى واسِطَةٍ، وكَفى في الوَقْتِ أنْ يُحَمِّلَهُ الرِّسالَةَ الَّتِي هي ﴿أنِ ائْتِ القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ لِأنَّ في بَدْءِ البَعْثَةِ يَجِبُ أنْ يَأْمُرَهُ بِالدُّعاءِ إلى التَّوْحِيدِ، ثُمَّ بَعْدَهُ يَأْمُرُهُ بِالأحْكامِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَأْمُرَهُ تَعالى بِذَلِكَ إلّا وقَدْ عَرَّفَهُ أنَّهُ سَتَظْهَرُ عَلَيْهِ المُعْجِزاتُ إذا طُولِبَ بِذَلِكَ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنِ ائْتِ القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ فالمَعْنى أنَّهُ تَعالى سَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ، وقَدِ اسْتَحَقُّوا هَذا الِاسْمَ مِن وجْهَيْنِ: مِن وجْهِ ظُلْمِهِمْ أنْفُسَهم بِكُفْرِهِمْ، ومِن وجْهِ ظُلْمِهِمْ لِبَنِي إسْرائِيلَ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾ فَقَدْ عَطَفَ ”﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾“ عَلى ”﴿القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾“ عَطْفَ بَيانٍ، كَأنَّ القَوْمَ الظّالِمِينَ وقَوْمَ فِرْعَوْنَ لَفْظانِ يَدُلّانِ عَلى مَعْنًى واحِدٍ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ألا يَتَّقُونَ﴾ فَقُرِئَ: ”ألا يَتَّقُونِ“ بِكَسْرِ النُّونِ، بِمَعْنى ألا يَتَّقُونَنِي، فَحُذِفَتِ النُّونُ لِاجْتِماعِ النُّونَيْنِ والياءُ لِلِاكْتِفاءِ بِالكَسْرَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿ألا يَتَّقُونَ﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ أتْبَعَهُ تَعالى إرْسالَهُ إلَيْهِمْ لِلْإنْذارِ والتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ؛ تَعْجِيبًا لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِن حالِهِمْ في الظُّلْمِ والعَسْفِ، ومِن أمْنِهِمُ العَواقِبَ وقِلَّةِ خَوْفِهِمْ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ ﴿ألا يَتَّقُونَ﴾ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في ”الظّالِمِينَ“، أيْ: يَظْلِمُونَ غَيْرَ مُتَّقِينَ اللَّهَ وعِقابَهُ، فَأُدْخِلَتْ هَمْزَةُ الإنْكارِ عَلى الحالِ، ووَجْهٌ ثالِثٌ وهو أنْ يَكُونَ المَعْنى ألا يا ناسُ اتَّقُونِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ألّا يَسْجُدُوا﴾ [النَّمْلِ: ٢٥] . وأمّا مَن قَرَأ: ”ألا تَتَّقُونَ“ عَلى الخِطابِ، فَعَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ إلَيْهِمْ وصَرْفِ وُجُوهِهِمْ بِالإنْكارِ والغَضَبِ عَلَيْهِمْ، كَما يَرى مَن يَشْكُو مِمَّنْ رَكِبَ جِنايَةً والجانِي حاضِرٌ، فَإذا انْدَفَعَ في الشِّكايَةِ وحَمِيَ غَضَبُهُ، قَطَعَ مُباثَةَ صاحِبِهِ وأقْبَلَ عَلى الجانِي يُوَبِّخُهُ ويُعَنِّفُهُ بِهِ، ويَقُولُ لَهُ: ألا تَتَّقِي اللَّهَ ألّا تَسْتَحِي مِنَ النّاسِ، فَإنْ قُلْتَ: فَما الفائِدَةُ في هَذا الِالتِفاتِ والخِطابُ مَعَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في وقْتِ المُناجاةِ، والمُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ غائِبُونَ لا يَشْعُرُونَ ؟ قُلْتُ: إجْراءُ ذَلِكَ في تَكْلِيمِ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ في مَعْنى إجْرائِهِ بِحَضْرَتِهِمْ وإلْقائِهِ إلى مَسامِعِهِمْ؛ لِأنَّهُ مُبَلِّغُهم ومُنْهِيهِ إلَيْهِمْ، ولَهُ فِيهِ لُطْفٌ وحَثٌّ عَلى زِيادَةِ التَّقْوى، وكَمْ مِن آيَةٍ نَزَلَتْ في شَأْنِ الكافِرِينَ وفِيها أوْفَرُ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تَدَبُّرًا لَها واعْتِبارًا بِمَوارِدِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب