الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا ويُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وسَلامًا﴾ . أمّا المَنافِعُ فَهي قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا﴾ والمُرادُ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرُفاتِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿وهم في الغُرُفاتِ آمِنُونَ﴾ [سَبَأٍ: ٣٧]، وقالَ: ﴿لَهم غُرَفٌ مِن فَوْقِها غُرَفٌ﴾ [الزُّمَرِ: ٢٠]، والغُرْفَةُ في اللُّغَةِ العُلِّيَّةُ، وكُلُّ بِناءٍ عالٍ فَهو غُرْفَةٌ، والمُرادُ بِهِ الدَّرَجاتُ العالِيَةُ. وقالَ المُفَسِّرُونَ: الغُرْفَةُ اسْمُ الجَنَّةِ، فالمَعْنى: يُجْزَوْنَ الجَنَّةَ، وهي جَنّاتٌ كَثِيرَةٌ. وقَرَأ بَعْضُهم: ”أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ في الغُرْفَةِ“ . وقَوْلُهُ: ﴿بِما صَبَرُوا﴾ فِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: احْتَجَّ بِالآيَةِ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ الجَنَّةَ بِالِاسْتِحْقاقِ، فَقالَ: الباءُ في قَوْلِهِ: ﴿بِما صَبَرُوا﴾ تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، ولَوْ كانَ حُصُولُها بِالوَعْدِ لَما صَدَقَ ذَلِكَ. البَحْثُ الثّانِي: ذَكَرَ الصَّبْرَ ولَمْ يَذْكُرِ المَصْبُورَ عَنْهُ، لِيَعُمَّ كُلَّ نَوْعٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ صَبْرُهم عَلى مَشاقِّ التَّفَكُّرِ والِاسْتِدْلالِ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى، وعَلى مَشاقِّ الطّاعاتِ، وعَلى مَشاقِّ تَرْكِ الشَّهَواتِ، وعَلى مَشاقِّ أذى المُشْرِكِينَ، وعَلى مَشاقِّ الجِهادِ والفَقْرِ ورِياضَةِ النَّفْسِ، فَلا وجْهَ لِقَوْلِ مَن يَقُولُ: المُرادُ الصَّبْرُ عَلى الفَقْرِ خاصَّةً؛ لِأنَّ هَذِهِ الصِّفاتِ إذا حَصَلَتْ مَعَ الغِنى اسْتَحَقَّ مَن يَخْتَصُّ بِها الجَنَّةَ كَما يَسْتَحِقُّهُ بِالفَقْرِ. * * * ( ٣٠ ﴿ويُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وسَلامًا﴾ ﴿خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقامًا﴾ ﴿قُلْ ما يَعْبَأُ بِكم رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكم فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزامًا﴾ . وثانِيهِما التَّعْظِيمُ: وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وسَلامًا﴾ قُرِئَ: ”يُلَقَّوْنَ“؛ كَقَوْلِهِ: ﴿ولَقّاهم نَضْرَةً وسُرُورًا﴾ [ الإنْسانِ: ١١] و”يَلْقَوْنَ“ كَقَوْلِهِ: ﴿يَلْقَ أثامًا﴾ [الفُرْقانِ: ٦٨]، والتَّحِيَّةُ: الدُّعاءُ بِالتَّعْمِيرِ، والسَّلامُ: الدُّعاءُ بِالسَّلامَةِ، فَيَرْجِعُ حاصِلُ التَّحِيَّةِ إلى كَوْنِ نَعِيمِ الجَنَّةِ باقِيًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، ويَرْجِعُ السَّلامُ إلى كَوْنِ ذَلِكَ النَّعِيمِ خالِصًا عَنْ شَوائِبِ الضَّرَرِ، ثُمَّ هَذِهِ التَّحِيَّةُ والسَّلامُ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَعالى؛ لِقَوْلِهِ: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨] ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مِنَ المَلائِكَةِ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرَّعْدِ: ٢٣، ٢٤] ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مِن بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقامًا﴾ فالمُرادُ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا وعَدَ بِالمَنافِعِ أوَّلًا وبِالتَّعْظِيمِ ثانِيًا، بَيَّنَ أنَّ مِن صِفَتِهِما الدَّوامَ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿خالِدِينَ فِيها﴾، ومَن صِفَتِهِما الخُلُوصُ أيْضًا، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقامًا﴾، وهَذا في مُقابَلَةِ قَوْلِهِ: ﴿ساءَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقامًا﴾ أيْ: ما أسْوَأ ذَلِكَ وما أحْسَنَ هَذا. أمّا قَوْلُهُ: ﴿قُلْ ما يَعْبَأُ بِكم رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكم فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزامًا﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا شَرَحَ صِفاتِ المُتَّقِينَ، وشَرَحَ حالَ ثَوابِهِمْ أمَرَ رَسُولَهُ أنْ يَقُولَ: ﴿قُلْ ما يَعْبَأُ بِكم رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ﴾ فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلى أنَّهُ تَعالى غَنِيٌّ عَنْ عِبادَتِهِمْ، وأنَّهُ تَعالى إنَّما كَلَّفَهم لِيَنْتَفِعُوا بِطاعَتِهِمْ، وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قالَ الخَلِيلُ: ما أعْبَأُ بِفُلانٍ؛ أيْ: ما أصْنَعُ بِهِ، كَأنَّهُ يَسْتَقِلُّهُ ويَسْتَحْقِرُهُ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: ما (p-١٠٢)أعْبَأُ بِهِ؛ أيْ: وُجُودُهُ وعَدَمُهُ عِنْدِي سَواءٌ، وقالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ أيْ: لا وزْنَ لَكم عِنْدَ رَبِّكم، والعِبْءُ في اللُّغَةِ: الثِّقَلُ، وقالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: ما يُبالِي بِكم رَبِّي. المسألة الثّانِيَةُ: في ”ما“ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّها مُتَضَمِّنَةٌ لِمَعْنى الِاسْتِفْهامِ، وهي في مَحَلِّ النَّصْبِ، وهي عِبارَةٌ عَنِ المَصْدَرِ، كَأنَّهُ قِيلَ: وأيُّ عِبْءٍ يَعْبَأُ بِكم لَوْلا دُعاؤُكم. والثّانِي: أنْ تَكُونَ ما نافِيَةً. المسألة الثّالِثَةُ: ذَكَرُوا في قَوْلِهِ: ﴿لَوْلا دُعاؤُكُمْ﴾ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: لَوْلا دُعاؤُهُ إيّاكم إلى الدِّينِ، والطّاعَةُ والدُّعاءُ عَلى هَذا مَصْدَرٌ مُضافٌ إلى المَفْعُولِ. وثانِيهِما: أنَّ الدُّعاءَ مُضافٌ إلى الفاعِلِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: لَوْلا دُعاؤُكم: لَوْلا إيمانُكم. وثانِيها: لَوْلا عِبادَتُكم. وثالِثُها: لَوْلا دُعاؤُكم إيّاهُ في الشَّدائِدِ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿فَإذا رَكِبُوا في الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ﴾ [العَنْكَبُوتِ: ٦٥] . ورابِعُها: دُعاؤُكم يَعْنِي لَوْلا شُكْرُكم لَهُ عَلى إحْسانِهِ؛ لِقَوْلِهِ: ﴿ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكم إنْ شَكَرْتُمْ﴾ [النِّساءِ: ١٤٧] . وخامِسُها: ما خَلَقْتُكم وبِي إلَيْكم حاجَةٌ إلّا أنْ تَسْألُونِي فَأُعْطِيَكم وتَسْتَغْفِرُونِي فَأغْفِرَ لَكم. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾ فالمَعْنى أنِّي إذا أعْلَمْتُكم أنَّ حُكْمِي أنِّي لا أعْتَدُّ بِعِبادِي إلّا لِعِبادَتِهِمْ فَقَدْ خالَفْتُمْ بِتَكْذِيبِكم حُكْمِي، فَسَوْفَ يَلْزَمُكم أثَرُ تَكْذِيبِكم، وهو عِقابُ الآخِرَةِ، ونَظِيرُهُ أنْ يَقُولَ المَلِكُ لِمَنِ اسْتَعْصى عَلَيْهِ: إنَّ مِن عادَتِي أنْ أُحْسِنَ إلى مَن يُطِيعُنِي، وقَدْ عَصَيْتَ فَسَوْفَ تَرى ما أُحِلُّ بِكَ بِسَبَبِ عِصْيانِكَ. فَإنْ قِيلَ: إلى مَن يَتَوَجَّهُ هَذا الخِطابُ ؟ قُلْنا: إلى النّاسِ عَلى الإطْلاقِ، ومِنهم مُؤْمِنُونَ عابِدُونَ ومُكَذِّبُونَ عاصُونَ، فَخُوطِبُوا بِما وُجِدَ في جِنْسِهِمْ مِنَ العِبادَةِ والتَّكْذِيبِ. وقُرِئَ: ”فَقَدْ كَذَّبَ الكافِرُونَ فَسَوْفَ يَكُونُ العَذابُ لِزامًا“، وقُرِئَ: ”لَزامًا“ بِالفَتْحِ بِمَعْنى اللُّزُومِ، كالثَّباتِ والثُّبُوتِ، والوجه أنَّ تَرْكَ اسْمِ كانَ غَيْرَ مَنطُوقٍ بِهِ بَعْدَما عُلِمَ أنَّهُ مِمّا تَوَعَّدَ بِهِ لِأجْلِ الإبْهامِ ويَتَناوَلُ ما لا يُحِيطُ بِهِ الوَصْفُ. ثُمَّ قِيلَ: هَذا العَذابُ في الآخِرَةِ، وقِيلَ: كانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، واللَّهُ أعْلَمُ. تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ، والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ وآلِهِ وصَحْبِهِ أجْمَعِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب