الباحث القرآني

(p-٤٤)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذا إلّا إفْكٌ افْتَراهُ وأعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاءُوا ظُلْمًا وزُورًا﴾ ﴿وقالُوا أساطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهي تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلًا﴾ ﴿قُلْ أنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّماواتِ والأرْضِ إنَّهُ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ﴿وقالُوا مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي في الأسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ ﴿أوْ يُلْقى إلَيْهِ كَنْزٌ أوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنها وقالَ الظّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ تَكَلَّمَ أوَّلًا في التَّوْحِيدِ، وثانِيًا في الرَّدِّ عَلى عَبَدَةِ الأوْثانِ، وثالِثًا في هَذِهِ الآيَةِ تَكَلَّمَ في مَسْألَةِ النُّبُوَّةِ، وحَكى سُبْحانَهُ شُبَهَهم في إنْكارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ: الشُّبْهَةُ الأُولى: قَوْلُهم: ﴿إنْ هَذا إلّا إفْكٌ افْتَراهُ وأعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النَّحْلِ: ١٠٣] واعْلَمْ أنَّهُ يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدُوا بِهِ أنَّهُ كَذَبَ في نَفْسِهِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدُوا بِهِ أنَّهُ كَذَبَ في إضافَتِهِ إلى اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ هَهُنا بَحْثانِ: الأوَّلُ: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: الِافْتِراءُ افْتِعالٌ مِن فَرَيْتُ، وقَدْ يُقالُ في تَقْدِيرِ الأدِيمِ: فَرَيْتُ الأدِيمَ، فَإذا أُرِيدَ قَطْعُ الإفْسادِ قِيلَ: أفْرَيْتُ وافْتَرَيْتُ وخَلَقْتُ واخْتَلَقْتُ، ويُقالُ فِيمَن شَتَمَ امْرَأً بِما لَيْسَ فِيهِ: افْتَرى عَلَيْهِ. البَحْثُ الثّانِي: قالَ الكَلْبِيُّ ومُقاتِلٌ: نَزَلَتْ في النَّضْرِ بْنِ الحارِثِ، فَهو الَّذِي قالَ هَذا القَوْلَ. ﴿وأعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ يَعْنِي: عَدّاسٌ مَوْلى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ العُزّى، ويَسارٌ غُلامُ عامِرِ بْنِ الحَضْرَمِيِّ، وجَبْرٌ مَوْلى عامِرٍ، وهَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ كانُوا مِن أهْلِ الكِتابِ، وكانُوا يَقْرَءُونَ التَّوْراةَ ويُحَدِّثُونَ أحادِيثَ مِنها، فَلَمّا أسْلَمُوا وكانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَعَهَّدُهم، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ قالَ النَّضْرُ ما قالَ. واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى أجابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ جاءُوا ظُلْمًا وزُورًا﴾ . وفِيهِ أبْحاثٌ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا القَدْرَ إنَّما يَكْفِي جَوابًا عَنِ الشُّبْهَةِ المَذْكُورَةِ؛ لِأنَّهُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ عاقِلٍ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ تَحَدّاهم بِالقُرْآنِ، وهُمُ النِّهايَةُ في الفَصاحَةِ، وقَدْ بَلَغُوا في الحِرْصِ عَلى إبْطالِ أمْرِهِ كُلَّ غايَةٍ، حَتّى أخْرَجَهم ذَلِكَ إلى ما وصَفُوهُ بِهِ في هَذِهِ الآياتِ، فَلَوْ أمْكَنَهم أنْ يُعارِضُوهُ لَفَعَلُوا، ولَكانَ ذَلِكَ أقْرَبَ إلى أنْ يَبْلُغُوا مُرادَهم فِيهِ مِمّا أوْرَدُوهُ في هَذِهِ الآيَةِ وغَيْرِها، ولَوِ اسْتَعانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلامُ في ذَلِكَ بِغَيْرِهِ لَأمْكَنَهم أيْضًا أنْ يَسْتَعِينُوا بِغَيْرِهِمْ؛ لِأنَّ مُحَمَّدًا ﷺ كَأُولَئِكَ المُنْكِرِينَ في مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وفي المَكِنَةِ مِنَ الِاسْتِعانَةِ، فَلَمّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ والحالَةُ هَذِهِ عُلِمَ أنَّ القُرْآنَ قَدْ بَلَغَ النِّهايَةَ في الفَصاحَةِ وانْتَهى إلى حَدِّ الإعْجازِ، ولَمّا تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الدَّلالَةُ مَرّاتٍ وكَرّاتٍ في القُرْآنِ وظَهَرَ بِسَبَبِها سُقُوطُ هَذا السُّؤالِ، ظَهَرَ أنَّ إعادَةَ هَذا السُّؤالِ بَعْدَ تَقَدُّمِ هَذِهِ الأدِلَّةِ الواضِحَةِ لا يَكُونُ إلّا لِلتَّمادِي في الجَهْلِ والعِنادِ، فَلِذَلِكَ اكْتَفى اللَّهُ في الجَوابِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ جاءُوا ظُلْمًا وزُورًا﴾ . البَحْثُ الثّانِي: قالَ الكِسائِيُّ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقَدْ جاءُوا ظُلْمًا وزُورًا﴾ أيْ: أتَوْا ظُلْمًا وكَذِبًا، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا﴾ [مريم: ٨٩] فانْتَصَبَ بِوُقُوعِ المَجِيءِ عَلَيْهِ، وقالَ الزَّجّاجُ: انْتَصَبَ بِنَزْعِ الخافِضِ، أيْ: جاءُوا بِالظُّلْمِ والزُّورِ. البَحْثُ الثّالِثُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَ كَلامَهم بِأنَّهُ ظُلْمٌ وبِأنَّهُ زُورٌ، أمّا أنَّهُ ظُلْمٌ فَلِأنَّهم نَسَبُوا هَذا الفِعْلَ القَبِيحَ إلى مَن كانَ مُبَرَّأً عَنْهُ، فَقَدْ وضَعُوا الشَّيْءَ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وذَلِكَ هو الظُّلْمُ، وأمّا الزُّورُ فَلِأنَّهم كَذَبُوا فِيهِ، وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: الظُّلْمُ تَكْذِيبُهُمُ الرَّسُولَ والرَّدُّ عَلَيْهِ، والزُّورُ كَذِبُهم عَلَيْهِمْ. (p-٤٥)الشُّبْهَةُ الثّانِيَةُ لَهم: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالُوا أساطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهي تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلًا﴾ وفِيهِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: الأساطِيرُ ما سَطَّرَهُ المُتَقَدِّمُونَ كَأحادِيثِ رُسْتُمَ وأسفنديارَ، جَمْعُ أسْطارٍ أوْ أُسْطُورَةٍ كَأُحْدُوثَةٍ. ﴿اكْتَتَبَها﴾: انْتَسَخَها مُحَمَّدٌ مِن أهْلِ الكِتابِ، يَعْنِي عامِرًا ويَسارًا وجَبْرًا، ومَعْنى اكْتَتَبَ هَهُنا أمَرَ أنْ يُكْتَبَ لَهُ، كَما يُقالُ: احْتَجَمَ وافْتَصَدَ إذا أمَرَ بِذَلِكَ. ﴿فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ﴾ أيْ: تُقْرَأُ عَلَيْهِ، والمَعْنى أنَّها كُتِبَتْ لَهُ وهو أُمِّيٌّ، فَهي تُلْقى عَلَيْهِ مِن كِتابِهِ لِيَحْفَظَها؛ لِأنَّ صُورَةَ الإلْقاءِ عَلى الحافِظِ كَصُورَةِ الإلْقاءِ عَلى الكاتِبِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿بُكْرَةً وأصِيلًا﴾ قالَ الضَّحّاكُ: ما يُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً يَقْرَؤُهُ عَلَيْكم عَشِيَّةً، وما يُمْلى عَلَيْهِ عَشِيَّةً يَقْرَؤُهُ عَلَيْكم بُكَرَةً. البَحْثُ الثّانِي: قالَ الحَسَنُ: قَوْلُهُ: ﴿فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلًا﴾ كَلامُ اللَّهِ ذَكَرَهُ جَوابًا عَنْ قَوْلِهِمْ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: إنَّ هَذِهِ الآياتِ تُمْلى عَلَيْهِ بِالوَحْيِ حالًا بَعْدَ حالٍ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ إلى أنَّهُ أساطِيرُ الأوَّلِينَ، وأمّا جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ ذَلِكَ مِن كَلامِ القَوْمِ، وأرادُوا بِهِ أنَّ أهْلَ الكِتابِ أمْلَوْا عَلَيْهِ في هَذِهِ الأوْقاتِ هَذِهِ الأشْياءَ، ولا شَكَّ أنَّ هَذا القَوْلَ أقْرَبُ؛ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: شِدَّةُ تَعَلُّقِ هَذا الكَلامِ بِما قَبْلَهُ، فَكَأنَّهم قالُوا: اكْتَتَبَ أساطِيرَ الأوَّلِينَ فَهي تُمْلى عَلَيْهِ. وثانِيها: أنَّ هَذا هو المُرادُ بِقَوْلِهِمْ: ﴿وأعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ . وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى أجابَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ كَلامِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ أنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وقَوْلُ الحَسَنِ إنَّما يَسْتَقِيمُ أنْ لَوْ فُتِحَتِ الهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهامِ الَّذِي في مَعْنى الإنْكارِ، وحَقُّ الحَسَنِ أنَّ يَقِفَ عَلى ”الأوَّلِينَ“، وأجابَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ أنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّماواتِ والأرْضِ إنَّهُ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، وفِيهِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: في بَيانِ أنَّ هَذا كَيْفَ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ جَوابًا عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ ؟ وتَقْرِيرُهُ ما قَدَّمْنا أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ تَحَدّاهم بِالمُعارَضَةِ، وظَهَرَ عَجْزُهم عَنْها، ولَوْ كانَ عَلَيْهِ السَّلامُ أتى بِالقُرْآنِ بِأنِ اسْتَعانَ بِأحَدٍ لَكانَ مِنَ الواجِبِ عَلَيْهِمْ أيْضًا أنَّ يَسْتَعِينُوا بِأحَدٍ فَيَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا القُرْآنِ، فَلَمّا عَجَزُوا عَنْهُ ثَبَتَ أنَّهُ وحْيُ اللَّهِ وكَلامُهُ؛ فَلِهَذا قالَ: ﴿قُلْ أنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ﴾، وذَلِكَ لِأنَّ القادِرَ عَلى تَرْكِيبِ ألْفاظِ القُرْآنِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ عالِمًا بِكُلِّ المَعْلُوماتِ ظاهِرِها وخافِيها مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ مِثْلَ هَذِهِ الفَصاحَةِ لا يَتَأتّى إلّا مِنَ العالِمِ بِكُلِّ المَعْلُوماتِ. وثانِيها: أنَّ القُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلى الإخْبارِ عَنِ الغُيُوبِ، وذَلِكَ لا يَتَأتّى إلّا مِنَ العالِمِ بِكُلِّ المَعْلُوماتِ. وثالِثُها: أنَّ القُرْآنَ مُبَرَّأٌ عَنِ النَّقْصِ، وذَلِكَ لا يَتَأتّى إلّا مِنَ العالِمِ، عَلى ما قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النِّساءِ: ٨٢] . ورابِعُها: اشْتِمالُهُ عَلى الأحْكامِ الَّتِي هي مُقْتَضِيَةٌ لِمَصالِحِ العالَمِ ونِظامِ العِبادِ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا مِنَ العالِمِ بِكُلِّ المَعْلُوماتِ. وخامِسُها: اشْتِمالُهُ عَلى أنْواعِ العُلُومِ، وذَلِكَ لا يَتَأتّى إلّا مِنَ العالِمِ بِكُلِّ المَعْلُوماتِ، فَلَمّا دَلَّ القُرْآنُ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ إلّا كَلامَ العالِمِ بِكُلِّ المَعْلُوماتِ، لا جَرَمَ اكْتَفى في جَوابِ شُبَهِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ أنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ﴾ . البَحْثُ الثّانِي: اخْتَلَفُوا في المُرادِ بِالسِّرِّ، فَمِنهم مَن قالَ: المَعْنى أنَّ العالِمَ بِكُلِّ سِرٍّ في السَّماواتِ والأرْضِ هو الَّذِي يُمْكِنُهُ إنْزالُ مِثْلِ هَذا الكِتابِ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: المَعْنى أنَّهُ أنْزَلَهُ مَن يَعْلَمُ السِّرَّ، فَلَوْ كَذَبَ عَلَيْهِ لانْتَقَمَ مِنهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ﴾ ﴿لَأخَذْنا مِنهُ بِاليَمِينِ﴾ [الحاقَّةِ: ٤٤] وقالَ آخَرُونَ: المَعْنى (p-٤٦)أنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ سِرٍّ خَفِيَ في السَّماواتِ والأرْضِ، ومِن جُمْلَتِهِ ما تُسِرُّونَهُ أنْتُمْ مِنَ الكَيْدِ لِرَسُولِهِ، مَعَ عِلْمِكم بِأنَّ ما يَقُولُهُ حَقٌّ ضَرُورَةً، وكَذَلِكَ باطِنُ أمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبَراءَتُهُ مِمّا تَتَّهِمُونَهُ بِهِ، وهو سُبْحانَهُ مُجازِيكم ومُجازِيهِ عَلى ما عَلِمَ مِنكم وعَلِمَ مِنهُ. البَحْثُ الثّالِثُ: إنَّما ذَكَرَ الغَفُورَ الرَّحِيمَ في هَذا المَوْضِعِ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: المَعْنى أنَّهُ إنَّما أنْزَلَهُ لِأجْلِ الإنْذارِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ غَفُورًا رَحِيمًا غَيْرَ مُسْتَعْجِلٍ في العُقُوبَةِ. الثّانِي: أنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا بِمُكايَدَتِهِمْ هَذِهِ أنْ يَصُبَّ عَلَيْهِمُ العَذابَ صَبًّا، ولَكِنْ صَرَفَ ذَلِكَ عَنْهم كَوْنُهُ غَفُورًا رَحِيمًا يُمْهِلُ ولا يُعَجِّلُ. الشُّبْهَةُ الثّالِثَةُ: وهي في نِهايَةِ الرَّكاكَةِ، ذَكَرُوا لَهُ صِفاتٍ خَمْسَةً فَزَعَمُوا أنَّها تُخِلُّ بِالرِّسالَةِ: إحْداها: قَوْلُهم: ﴿مالِ هَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ﴾ . وثانِيَتُها: قَوْلُهم: ﴿ويَمْشِي في الأسْواقِ﴾ يَعْنِي أنَّهُ لَمّا كانَ كَذَلِكَ فَمِن أيْنَ لَهُ الفَضْلُ عَلَيْنا وهو مِثْلُنا في هَذِهِ الأُمُورِ. وثالِثَتُها: قَوْلُهم: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ يُصَدِّقُهُ أوْ يَشْهَدُ لَهُ ويَرُدُّ عَلى مَن خالَفَهُ. ورابِعَتُها: قَوْلُهم: ﴿أوْ يُلْقى إلَيْهِ كَنْزٌ﴾ أيْ مِنَ السَّماءِ فَيُنْفِقُهُ فَلا يَحْتاجُ إلى التَّرَدُّدِ لِطَلَبِ المَعاشِ. وخامِسَتُها: قَوْلُهم: ﴿أوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنها﴾ قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: ”نَأْكُلُ مِنها“ بِالنُّونِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالياءِ، والمَعْنى: إنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ كَنْزٌ فَلا أقَلَّ مِن أنْ تَكُونَ كَواحِدٍ مِنَ الدَّهاقِينَ، فَيَكُونَ لَكَ بُسْتانٌ تَأْكُلُ مِنهُ. وسادِسَتُها: قَوْلُهم: ﴿إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾، وقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ القِصَّةُ في آخِرِ سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ، فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: قَوْلُهُ: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ وفِيهِ أبْحاثٌ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا كَيْفَ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ جَوابًا عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ ؟ وبَيانُهُ أنَّ الَّذِي يَتَمَيَّزُ الرَّسُولُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ هو المُعْجِزَةُ، وهَذِهِ الأشْياءُ الَّتِي ذَكَرُوها لا يَقْدَحُ شَيْءٌ مِنها في المُعْجِزَةِ، فَلا يَكُونُ شَيْءٌ مِنها قادِحًا في النُّبُوَّةِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: انْظُرْ كَيْفَ اشْتَغَلَ القَوْمُ بِضَرْبِ هَذِهِ الأمْثالِ الَّتِي لا فائِدَةَ فِيها لِأجْلِ أنَّهم لَمّا ضَلُّوا وأرادُوا القَدْحَ في نُبُوَّتِكَ لَمْ يَجِدُوا إلى القَدْحِ فِيهِ سَبِيلًا البَتَّةَ؛ إذِ الطَّعْنُ عَلَيْهِ إنَّما يَكُونُ بِما يَقْدَحُ في المُعْجِزاتِ الَّتِي ادَّعاها، لا بِهَذا الجِنْسِ مِنَ القَوْلِ. وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ، وهو أنَّهم لَمّا ضَلُّوا لَمْ يَبْقَ فِيهِمُ اسْتِطاعَةُ قَبُولِ الحَقِّ، وهَذا إنَّما يَصِحُّ عَلى مَذْهَبِنا، وتَقْرِيرُهُ بِالعَقْلِ ظاهِرٌ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ إمّا أنْ يَكُونَ مُسْتَوِيَ الدّاعِي إلى الحَقِّ والباطِلِ، وإمّا أنْ يَكُونَ داعِيَتُهُ إلى أحَدِهِما أرْجَحَ مِن داعِيَتِهِ إلى الثّانِي، فَإنْ كانَ الأوَّلُ فَحالُ الِاسْتِواءِ مُمْتَنِعُ الرُّجْحانِ، فَيَمْتَنِعُ الفِعْلُ، وإنْ كانَ الثّانِي فَحالُ رُجْحانِ أحَدِ الطَّرَفَيْنِ يَكُونُ حُصُولُ الطَّرَفِ الآخَرِ مُمْتَنِعًا، فَثَبَتَ أنَّ حالَ رُجْحانِ الضَّلالَةِ في قَلْبِهِ اسْتَحالَ مِنهُ قَبُولُ الحَقِّ، وما كانَ مُحالًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ، فَثَبَتَ أنَّهم لَمّا ضَلُّوا ما كانُوا مُسْتَطِيعِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب