الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ ﴿والَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وقِيامًا﴾ ﴿والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا اصْرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا﴾ ﴿إنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقامًا﴾ ﴿والَّذِينَ إذا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوامًا﴾ . اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وعِبادُ الرَّحْمَنِ﴾ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ في آخِرِ السُّورَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: وعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفاتُهم أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرُهُ ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ﴾، واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ خَصَّ اسْمَ العُبُودِيَّةِ بِالمُشْتَغِلِينَ بِالعُبُودِيَّةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مِن أشْرَفِ صِفاتِ المَخْلُوفاتِ، وقُرِئَ: ﴿وعِبادُ الرَّحْمَنِ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وصَفَهم بِتِسْعَةِ أنْواعٍ مِنَ الصِّفاتِ: الصِّفَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا﴾، وهَذا وصْفُ سِيرَتِهِمْ بِالنَّهارِ، وقُرِئَ: ”يَمْشُونَ هَوْنًا“ حالٌ أوْ صِفَةٌ لِلْمَشْيِ، بِمَعْنى هَيِّنِينَ، أوْ بِمَعْنى مَشْيًا هَيِّنًا، إلّا أنَّ في وضْعِ المَصْدَرِ مَوْضِعَ الصِّفَةِ مُبالَغَةً، (p-٩٤)والهَوْنُ: الرِّفْقُ واللِّينُ، ومِنهُ الحَدِيثُ: «أحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا ما»، وقَوْلُهُ: «المُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ»، والمَعْنى أنَّ مَشْيَهم يَكُونُ في لِينٍ وسَكِينَةٍ ووَقارٍ وتَواضُعٍ، ولا يَضْرِبُونَ بِأقْدامِهِمْ، ولا يَخْفُقُونَ بِنِعالِهِمْ أشَرًا وبَطَرًا، ولا يَتَبَخْتَرُونَ لِأجْلِ الخُيَلاءِ، كَما قالَ: ﴿ولا تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحًا﴾ [ الإسْراءِ: ٣٧]، وعَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ؛ التَمَسْتُ تَفْسِيرَ ”هَوْنًا“ فَلَمْ أجِدْ، فَرَأيْتُ في النَّوْمِ فَقِيلَ لِي: هُمُ الَّذِينَ لا يُرِيدُونَ الفَسادَ في الأرْضِ، وعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: لا يَتَكَبَّرُونَ ولا يَتَجَبَّرُونَ، ولا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرْضِ. * * * الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ مَعْناهُ: لا نُجاهِلُكم، ولا خَيْرَ بَيْنَنا ولا شَرَّ، أيْ: نُسَلِّمُ مِنكم تَسْلِيمًا، فَأُقِيمَ السَّلامُ مَقامَ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مُرادُهم طَلَبَ السَّلامَةِ والسُّكُوتِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ التَّنْبِيهَ عَلى سُوءِ طَرِيقَتِهِمْ لِكَيْ يَمْتَنِعُوا، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مُرادُهُمُ العُدُولَ عَنْ طَرِيقِ المُعامَلَةِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ إظْهارَ الحِلْمِ في مُقابَلَةِ الجَهْلِ، قالَ الأصَمُّ: ﴿قالُوا سَلامًا﴾ أيْ سَلامَ تَوْدِيعٍ لا تَحِيَّةٍ، كَقَوْلِ إبْراهِيمَ لِأبِيهِ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكَ﴾ [مَرْيَمَ: ٤٧] ثم قال الكَلْبِيُّ وأبُو العالِيَةِ: نَسَخَتْها آيَةُ القِتالِ، ولا حاجَةَ إلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ الإغْضاءَ عَنِ السُّفَهاءِ وتَرْكَ المُقابَلَةِ مُسْتَحْسَنٌ في العَقْلِ والشَّرْعِ، وسَبَبٌ لِسَلامَةِ العِرْضِ والوَرَعِ. * * * الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وقِيامًا﴾، واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ سِيرَتَهم في النَّهارِ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: تَرْكُ الإيذاءِ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا﴾، والآخَرُ تَحَمُّلُ التَّأذِّي، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾، فَكَأنَّهُ شَرَحَ سِيرَتَهم مَعَ الخَلْقِ في النَّهارِ، فَبَيَّنَ في هَذِهِ الآياتِ سِيرَتَهم في اللَّيالِي عِنْدَ الِاشْتِغالِ بِخِدْمَةِ الخالِقِ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿تَتَجافى جُنُوبُهم عَنِ المَضاجِعِ﴾ [السَّجْدَةِ: ١٦]، ثم قال الزَّجّاجُ: كُلُّ مَن أدْرَكَهُ اللَّيْلُ قِيلَ: باتَ، وإنْ لَمْ يَنَمْ، كَما يُقالُ: باتَ فُلانٌ قَلِقًا، ومَعْنى ﴿يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ﴾ أنْ يَكُونُوا في لَيالِيهِمْ مُصَلِّينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقالَ بَعْضُهم: مَن قَرَأ شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ في صَلاةٍ وإنْ قَلَّ، فَقَدْ باتَ ساجِدًا وقائِمًا، وقِيلَ: رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ وأرْبَعًا بَعْدَ العِشاءِ الأخِيرَةِ، والأوْلى أنَّهُ وصْفٌ لَهم بِإحْياءِ اللَّيْلِ أوْ أكْثَرِهِ، يُقالُ: فُلانٌ يَظَلُّ صائِمًا ويَبِيتُ قائِمًا، قالَ الحَسَنُ: يَبِيتُونَ لِلَّهِ عَلى أقْدامِهِمْ ويَفْرِشُونَ لَهُ وُجُوهَهم تَجْرِي دُمُوعُهم عَلى خُدُودِهِمْ خَوْفًا مِن رَبِّهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب