الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهم ولا يَضُرُّهم وكانَ الكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيرًا﴾ ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا مُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ ﴿قُلْ ما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إلّا مَن شاءَ أنْ يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ ﴿وتَوَكَّلْ عَلى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا﴾ .
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا شَرَحَ دَلائِلَ التَّوْحِيدِ عادَ إلى تَهْجِينِ سِيرَتِهِمْ في عِبادَةِ الأوْثانِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: قِيلَ: المُرادُ بِالكافِرِ أبُو جَهْلٍ؛ لِأنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ، والأوْلى حَمْلُهُ عَلى العُمُومِ؛ لِأنَّ (p-٨٩)خُصُوصَ السَّبَبِ لا يَقْدَحُ في عُمُومِ اللَّفْظِ، ولِأنَّهُ أوْفَقُ بِظاهِرِ قَوْلِهِ: ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ .
المسألة الثّانِيَةُ: ذَكَرُوا في الظَّهِيرِ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنَّ الظَّهِيرَ بِمَعْنى المُظاهِرِ، كالعَوِينِ بِمَعْنى المُعاوِنِ، وفَعِيلٌ بِمَعْنى مُفاعِلٍ غَيْرُ غَرِيبٍ، والمَعْنى أنَّ الكافِرَ يُظاهِرُ الشَّيْطانَ عَلى رَبِّهِ بِالعَداوَةِ. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ في الكافِرِ أنْ يَكُونَ مُعاوِنًا لِلشَّيْطانِ عَلى رَبِّهِ بِالعَداوَةِ ؟ قُلْنا: إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ نَفْسَهُ وأرادَ رَسُولَهُ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾ [ الأحْزابِ: ٥٧] .
وثانِيها: يَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِالظَّهِيرِ الجَماعَةَ، كَقَوْلِهِ: ﴿والمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التَّحْرِيمِ: ٤] كَما جاءَ الصَّدِيقُ والخَلِيطُ، وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ يَكُونُ المُرادُ بِالكافِرِ الجِنْسَ، وأنَّ بَعْضَهم مُظاهِرٌ لِبَعْضٍ عَلى إطْفاءِ نُورِ دِينِ اللَّهِ تَعالى، قالَ تَعالى: ﴿وإخْوانُهم يَمُدُّونَهم في الغَيِّ﴾ [الأعْرافِ: ٢٠٢] .
وثالِثُها: قالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: الظَّهِيرُ مِن قَوْلِهِمْ: ظَهَرَ فُلانٌ بِحاجَتِي إذا نَبَذَها وراءَ ظَهْرِهِ، وهو مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّخَذْتُمُوهُ وراءَكم ظِهْرِيًّا﴾ [هُودٍ: ٩٢] ويُقالُ فِيمَن يَسْتَهِينُ بِالشَّيْءِ: نَبَذَهُ وراءَ ظَهْرِهِ، وقِياسُ العَرَبِيَّةِ أنْ يُقالَ: مَظْهُورٌ، أيْ: مُسْتَخَفٌّ بِهِ مَتْرُوكٌ وراءَ الظَّهْرِ، فَقِيلَ فِيهِ: ظَهِيرٌ في مَعْنى مَظْهُورٍ، ومَعْناهُ هَيِّنٌ عَلى اللَّهِ أنْ يَكْفُرَ الكافِرُ، وهو تَعالى مُسْتَهِينٌ بِكُفْرِهِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلّا مُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ فَتَعَلُّقُ ذَلِكَ بِما تَقَدَّمَ هو أنَّ الكُفّارَ يَطْلُبُونَ العَوْنَ عَلى اللَّهِ تَعالى وعَلى رَسُولِهِ، واللَّهُ تَعالى بَعَثَ رَسُولَهُ لِنَفْعِهِمْ؛ لِأنَّهُ بَعَثَهُ لِيُبَشِّرَهم عَلى الطّاعَةِ، ويُنْذِرَهم عَلى المَعْصِيَةِ، فَيَسْتَحِقُّوا الثَّوابَ ويَحْتَرِزُوا عَنِ العِقابِ، فَلا جَهْلَ أعْظَمُ مِن جَهْلِ مَنِ اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ في إيذاءِ شَخْصٍ اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ في إصْلاحِ مُهِمّاتِهِ دِينًا ودُنْيا، ولا يَسْألُهم عَلى ذَلِكَ البَتَّةَ أجْرًا.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿إلّا مَن شاءَ﴾ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا مُتَقارِبَةً:
أحَدُها: لا يَسْألُهم عَلى الأداءِ والدُّعاءِ أجْرًا، إلّا أنْ يَشاءُوا أنْ يَتَقَرَّبُوا بِالإنْفاقِ في الجِهادِ وغَيْرِهِ، فَيَتَّخِذُوا بِهِ سَبِيلًا إلى رَحْمَةِ رَبِّهِمْ ونَيْلِ ثَوابِهِ.
وثانِيها: قالَ القاضِي: مَعْناهُ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا لِنَفْسِي وأسْألُكم أنْ تَطْلُبُوا الأجْرَ لِأنْفُسِكم بِاتِّخاذِ السَّبِيلِ إلى رَبِّكم.
وثالِثُها: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: مِثالُ قَوْلِهِ: ﴿إلّا مَن شاءَ﴾، والمُرادُ إلّا فِعْلَ مَن شاءَ، واسْتِثْناؤُهُ عَنِ الأجْرِ قَوْلُ ذِي شَفَقَةٍ عَلَيْكَ قَدْ سَعى لَكَ في تَحْصِيلِ مالٍ ما أطْلُبُ مِنكَ ثَوابًا عَلى ما سَعَيْتُ، إلّا أنْ تَحْفَظَ هَذا المالَ ولا تُضَيِّعَهُ، فَلَيْسَ حِفْظُكَ المالَ لِنَفْسِكِ مِن جِنْسِ الثَّوابِ، ولَكِنْ صَوَّرَهُ هو بِصُورَةِ الثَّوابِ وسَمّاهُ بِاسْمِهِ فَأفادَ فائِدَتَيْنِ:
إحْداهُما: قَلْعُ شُبْهَةِ الطَّمَعِ في الثَّوابِ مِن أصْلِهِ، كَأنَّهُ يَقُولُ لَكَ: إنْ كانَ حِفْظُكَ لِمالِكَ ثَوابًا، فَإنِّي أطْلُبُ الثَّوابَ.
والثّانِيَةُ إظْهارُ الشَّفَقَةِ البالِغَةِ، وأنَّ حِفْظَكَ لِمالِكَ يَجْرِي مَجْرى الثَّوابِ العَظِيمِ الَّذِي تُوصِلُهُ إلَيَّ، ومَعْنى اتِّخاذِهِمْ إلى اللَّهِ سَبِيلًا، تَقَرُّبُهم إلَيْهِ وطَلَبُهم عِنْدَهُ الزُّلْفى بِالإيمانِ والطّاعَةِ، وقِيلَ: المُرادُ التَّقَرُّبُ بِالصَّدَقَةِ والنَّفَقَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وتَوَكَّلْ عَلى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ فالمَعْنى أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا بَيَّنَ أنَّ الكُفّارَ مُتَظاهِرُونَ عَلى إيذائِهِ، فَأمَرَهُ بِأنْ لا يَطْلُبَ مِنهم أجْرًا البَتَّةَ، أمَرَهُ بِأنْ يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ في دَفْعِ جَمِيعِ المَضارِّ، وفي جَلْبِ جَمِيعِ المَنافِعِ، وإنَّما قالَ: ﴿عَلى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ لِأنَّ مَن تَوَكَّلَ عَلى الحَيِّ الَّذِي يَمُوتُ، فَإذا ماتَ المُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ صارَ المُتَوَكِّلُ ضائِعًا، أمّا هو سُبْحانَهُ وتَعالى فَإنَّهُ حَيٌّ لا يَمُوتُ، فَلا يَضِيعُ المُتَوَكِّلُ عَلَيْهِ البَتَّةَ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وسَبِّحْ بِحَمْدِهِ﴾ فَمِنهم مَن حَمَلَهُ عَلى نَفْسِ التَّسْبِيحِ بِالقَوْلِ، ومِنهم مَن حَمَلَهُ عَلى الصَّلاةِ، ومِنهم مَن حَمَلَهُ عَلى التَّنْزِيهِ لِلَّهِ تَعالى عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ في تَوْحِيدِهِ وعَدْلِهِ، وهَذا هو الظّاهِرُ، ثم قال: ﴿وكَفى بِهِ﴾ (p-٩٠)﴿بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا﴾ وهَذِهِ كَلِمَةٌ يُرادُ بِها المُبالَغَةُ، يُقالُ: كَفى بِالعِلْمِ جَمالًا، وكَفى بِالأدَبِ مالًا. وهو بِمَعْنى حَسْبُكَ، أيْ: لا تَحْتاجُ مَعَهُ إلى غَيْرِهِ؛ لِأنَّهُ خَبِيرٌ بِأحْوالِهِمْ، قادِرٌ عَلى مُكافَأتِهِمْ، وذَلِكَ وعِيدٌ شَدِيدٌ، كَأنَّهُ قالَ: إنْ أقْدَمْتُمْ عَلى مُخالَفَةِ أمْرِهِ كَفاكم عِلْمُهُ في مُجازاتِكم بِما تَسْتَحِقُّونَ مِنَ العُقُوبَةِ.
{"ayahs_start":55,"ayahs":["وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَنفَعُهُمۡ وَلَا یَضُرُّهُمۡۗ وَكَانَ ٱلۡكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِۦ ظَهِیرࣰا","وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا مُبَشِّرࣰا وَنَذِیرࣰا","قُلۡ مَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مِنۡ أَجۡرٍ إِلَّا مَن شَاۤءَ أَن یَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِیلࣰا","وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱلۡحَیِّ ٱلَّذِی لَا یَمُوتُ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِهِۦۚ وَكَفَىٰ بِهِۦ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِیرًا"],"ayah":"وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱلۡحَیِّ ٱلَّذِی لَا یَمُوتُ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِهِۦۚ وَكَفَىٰ بِهِۦ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِیرًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق