الباحث القرآني

القِصَّةُ الثّالِثَةُ: قِصَّةُ عادٍ وثَمُودَ وأصْحابِ الرَّسِّ. ﴿وعادًا وثَمُودَ وأصْحابَ الرَّسِّ وقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ ﴿وكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الأمْثالَ وكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيرًا﴾ (p-٧٢)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعادًا وثَمُودَ وأصْحابَ الرَّسِّ وقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ ﴿وكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الأمْثالَ وكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيرًا﴾ في الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: عَطَفَ ﴿وعادًا﴾ عَلى ”هُمْ“ في ﴿وجَعَلْناهُمْ﴾ أوْ عَلى ”الظّالِمِينَ“؛ لِأنَّ المَعْنى: ووَعَدْنا الظّالِمِينَ. المسألة الثّانِيَةُ: قُرِئَ: (وثَمُودَ) عَلى تَأْوِيلِ القَبِيلَةِ، وأمّا عَلى المُنْصَرِفِ فَعَلى تَأْوِيلِ الحَيِّ، أوْ لِأنَّهُ اسْمٌ لِلْأبِ الأكْبَرِ. المسألة الثّالِثَةُ: قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الرَّسُّ هو البِئْرُ غَيْرُ المَطْوِيَّةِ، قالَ أبُو مُسْلِمٍ: في البِلادِ مَوْضِعٌ يُقالُ لَهُ: الرَّسُّ، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الوادِي سَكَنًا لَهم، والرَّسُّ عِنْدَ العَرَبِ الدَّفْنُ، ويُسَمّى بِهِ الحَفْرُ، يُقالُ: رُسَّ المَيِّتُ إذا دُفِنَ وغُيِّبَ في الحُفْرَةِ، وفي التَّفْسِيرِ أنَّهُ البِئْرُ، وأيُّ شَيْءٍ كانَ فَقَدْ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْ أهْلِ الرَّسِّ بِالهَلاكِ. انْتَهى. المسألة الرّابِعَةُ: ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في أصْحابِ الرَّسِّ وُجُوهًا: أحَدُها: كانُوا قَوْمًا مِن عَبَدَةِ الأصْنامِ أصْحابَ آبارٍ ومَواشٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعالى إلَيْهِمْ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلامُ، فَدَعاهم إلى الإسْلامِ، فَتَمادَوْا في طُغْيانِهِمْ وفي إيذائِهِ، فَبَيْنَما هم حَوْلَ الرَّسِّ خَسَفَ اللَّهُ بِهِمْ وبِدارِهِمْ. وثانِيها: الرَّسُّ قَرْيَةٌ بِفَلَجِ اليَمامَةِ قَتَلُوا نَبِيَّهم فَهَلَكُوا وهم بَقِيَّةُ ثَمُودَ. وثالِثُها: أصْحابُ النَّبِيِّ كَحَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوانَ كانُوا مُبْتَلَيْنَ بِالعَنْقاءِ، وهي أعْظَمُ ما يَكُونُ مِنَ الطَّيْرِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِطُولِ عُنُقِها، وكانَتْ تَسْكُنُ جَبَلَهُمُ الَّذِي يُقالُ لَهُ: فَتْخٌ، وهي تَنْقَضُّ عَلى صِبْيانِهِمْ فَتَخْطَفُهم إنْ أعْوَزَها الصَّيْدُ، فَدَعا عَلَيْها حَنْظَلَةُ فَأصابَتْها الصّاعِقَةُ، ثُمَّ إنَّهم قَتَلُوا حَنْظَلَةَ فَأُهْلِكُوا. ورابِعُها: هم أصْحابُ الأُخْدُودِ، والرَّسُّ هو الأُخْدُودُ. وخامِسُها: الرَّسُّ أنْطاكِيَةُ قَتَلُوا فِيها حَبِيبًا النَّجّارَ، وقِيلَ: كَذَّبُوهُ ورَسُّوهُ في بِئْرٍ، أيْ: دَسُّوهُ فِيها. وسادِسُها: عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهم كانُوا قَوْمًا يَعْبُدُونَ شَجَرَةَ الصَّنَوْبَرِ، وإنَّما سُمُّوا بِأصْحابِ الرَّسِّ؛ لِأنَّهم رَسُّوا نَبِيَّهم في الأرْضِ. وسابِعُها: أصْحابُ الرَّسِّ قَوْمٌ كانَتْ لَهم قُرًى عَلى شاطِئِ نَهْرٍ يُقالُ لَهُ: الرَّسُّ مِن بِلادِ المَشْرِقِ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعالى إلَيْهِمْ نَبِيًّا مِن ولَدِ يَهُودَ بْنِ يَعْقُوبَ فَكَذَّبُوهُ، فَلَبِثَ فِيهِمْ زَمَنًا، فَشَكى إلى اللَّهِ تَعالى مِنهم، فَحَفَرُوا بِئْرًا ورَسُّوهُ فِيها. وقالُوا: نَرْجُو أنْ يَرْضى عَنّا إلَهُنا. وكانُوا عامَّةَ يَوْمِهِمْ يَسْمَعُونَ أنِينَ نَبِيِّهِمْ يَقُولُ: إلَهِي وسَيِّدِي تَرى ضِيقَ مَكانِي وشِدَّةَ كَرْبِي وضَعْفَ قَلْبِي وقِلَّةَ حِيلَتِي، فَعَجِّلْ قَبْضَ رُوحِي، حَتّى ماتَ، فَأرْسَلَ اللَّهُ تَعالى رِيحًا عاصِفَةً شَدِيدَةَ الحُمْرَةِ، فَصارَتِ الأرْضُ مِن تَحْتِهِمْ حَجَرَ كِبْرِيتٍ مُتَوَقِّدٍ، وأظَلَّتْهم سَحابَةٌ سَوْداءُ، فَذابَتْ أبْدانُهم كَما يَذُوبُ الرَّصاصُ. وثامِنُها: رَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، «أنَّ اللَّهَ بَعَثَ نَبِيًّا إلى أهْلِ قَرْيَةٍ، فَلَمْ يُؤْمِن بِهِ مِن أهْلِها أحَدٌ إلّا عَبْدٌ أسْوَدُ، ثُمَّ عَدَوْا عَلى الرَّسُولِ فَحَفَرُوا لَهُ بِئْرًا فَألْقَوْهُ فِيها، ثُمَّ أطْبَقُوا عَلَيْهِ حَجَرًا ضَخْمًا، وكانَ ذَلِكَ العَبْدُ يَحْتَطِبُ فَيَشْتَرِي لَهُ طَعامًا وشَرابًا ويَرْفَعُ الصَّخْرَةَ ويُدْلِيهِ إلَيْهِ، فَكانَ ذَلِكَ ما شاءَ اللَّهُ، فاحْتَطَبَ يَوْمًا، فَلَمّا أرادَ أنْ يَحْمِلَها وجَدَ نَوْمًا فاضْطَجَعَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلى أُذُنِهِ سَبْعَ سِنِينَ نائِمًا، ثُمَّ انْتَبَهَ وتَمَطّى وتَحَوَّلَ لِشِقِّهِ الآخَرِ، فَنامَ سَبْعَ سِنِينَ أُخْرى، ثُمَّ هَبَّ فَحَمَلَ حُزْمَتَهُ، فَظَنَّ أنَّهُ نامَ ساعَةً مِن نَهارٍ، فَجاءَ إلى القَرْيَةِ فَباعَ حُزْمَتَهُ واشْتَرى طَعامًا وشَرابًا وذَهَبَ إلى الحُفْرَةِ، فَلَمْ يَجِدْ أحَدًا، وكانَ قَوْمُهُ قَدِ اسْتَخْرَجُوهُ وآمَنُوا بِهِ وصَدَّقُوهُ، وكانَ ذَلِكَ النَّبِيُّ يَسْألُهم عَنِ الأسْوَدِ، فَيَقُولُونَ: لا نَدْرِي حالَهُ، حَتّى قَبَضَ اللَّهُ النَّبِيَّ وقَبَضَ ذَلِكَ الأسْوَدَ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”إنَّ ذَلِكَ الأسْوَدَ لَأوَّلُ مَن يَدْخُلُ (p-٧٣)الجَنَّةَ“» . واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ ما قالَهُ أبُو مُسْلِمٍ، وهو أنَّ شَيْئًا مِن هَذِهِ الرِّواياتِ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالقُرْآنِ، ولا بِخَبَرٍ قَوِيِّ الإسْنادِ، ولَكِنَّهم كَيْفَ كانُوا فَقَدْ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أنَّهم أُهْلِكُوا بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ. المسألة الخامِسَةُ: قالَ النَّخَعِيُّ: القَرْنُ أرْبَعُونَ سَنَةً. وقالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: بَلْ سَبْعُونَ سَنَةً، وقِيلَ: مِائَةٌ وعِشْرُونَ. المسألة السّادِسَةُ: قَوْلُهُ ”﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾“ أيْ: بَيْنَ ذَلِكَ المَذْكُورِ، وقَدْ يَذْكُرُ الذّاكِرُ أشْياءَ مُخْتَلِفَةً ثُمَّ يُشِيرُ إلَيْها بِذَلِكَ، ويَحْسِبُ الحاسِبُ أعْدادًا مُتَكاثِرَةً، ثُمَّ يَقُولُ: فَذَلِكَ كَيْتَ وكَيْتَ، عَلى مَعْنى فَذَلِكَ المَحْسُوبُ أوِ المَعْدُودُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الأمْثالَ﴾ فالمُرادُ بَيَّنّا لَهم وأزَحْنا عِلَلَهم، فَلَمّا كَذَّبُوا تَبَّرْناهم تَتْبِيرًا، ويَحْتَمِلُ ﴿وكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الأمْثالَ﴾ بِأنْ أجَبْناهم عَمّا أوْرَدُوهُ مِنَ الشُّبَهِ في تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، كَما أوْرَدَهُ قَوْمُكَ يا مُحَمَّدُ، فَلَمّا لَمْ يَنْجَعْ فِيهِ تَبَّرْناهم تَتْبِيرًا، فَحَذَّرَ تَعالى بِذَلِكَ قَوْمَ مُحَمَّدٍ ﷺ في الِاسْتِمْرارِ عَلى تَكْذِيبِهِ؛ لِئَلّا يَنْزِلَ بِهِمْ مِثْلُ الَّذِي نَزَلَ بِالقَوْمِ عاجِلًا وآجِلًا. المسألة السّابِعَةُ: ﴿وكُلًّا﴾ الأوَّلُ مَنصُوبٌ بِما دَلَّ عَلَيْهِ ”ضَرَبْنا لَهُ الأمْثالَ“، وهو أنْذَرْنا أوْ حَذَّرْنا، والثّانِي بِتَبَّرْنا لِأنَّهُ فارِغٌ لَهُ. المسألة الثّامِنَةُ: التَّتْبِيرُ التَّفْتِيتُ والتَّكْسِيرُ، ومِنهُ التِّبْرُ، وهو كُسارَةُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والزُّجاجِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب