الباحث القرآني
(p-٦٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ورَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا﴾ ﴿ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلّا جِئْناكَ بِالحَقِّ وأحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكانًا وأضَلُّ سَبِيلًا﴾ .
اعْلَمْ أنَّ هَذا هو الشُّبْهَةُ الخامِسَةُ لِمُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وأنَّ أهْلَ مَكَّةَ قالُوا: تَزْعُمُ أنَّكَ رَسُولٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ، أفَلا تَأْتِينا بِالقُرْآنِ جُمْلَةً واحِدَةً كَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ جُمْلَةً عَلى مُوسى، والإنْجِيلُ عَلى عِيسى، والزَّبُورُ عَلى داوُدَ ؟ وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: بَيْنَ أوَّلِهِ وآخِرِهِ اثْنَتانِ أوْ ثَلاثٌ وعِشْرُونَ سَنَةً، وأجابَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ﴾ . وبَيانُ هَذا الجَوابِ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِ القِراءَةِ والكِتابَةِ، فَلَوْ نَزَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ جُمْلَةً واحِدَةً كانَ لا يَضْبِطُهُ، ولَجازَ عَلَيْهِ الغَلَطُ والسَّهْوُ، وإنَّما نَزَلَتِ التَّوْراةُ جُمْلَةً لِأنَّها مَكْتُوبَةٌ يَقْرَؤُها مُوسى.
وثانِيها: أنَّ مَن كانَ الكِتابُ عِنْدَهُ، فَرُبَّما اعْتَمَدَ عَلى الكِتابِ وتَساهَلَ في الحِفْظِ، فاللَّهُ تَعالى ما أعْطاهُ الكِتابَ دُفْعَةً واحِدَةً، بَلْ كانَ يُنْزِلُ عَلَيْهِ وظِيفَةً لِيَكُونَ حِفْظُهُ لَهُ أكْمَلَ، فَيَكُونُ أبْعَدَ لَهُ عَنِ المُساهَلَةِ وقِلَّةِ التَّحْصِيلِ.
وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى لَوْ أنْزَلَ الكِتابَ جُمْلَةً واحِدَةً عَلى الخَلْقِ لَنَزَلَتِ الشَّرائِعُ بِأسْرِها دُفْعَةً واحِدَةً عَلى الخَلْقِ، فَكانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، أمّا لَمّا نَزَلَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا، لا جَرَمَ نَزَلَتِ التَّكالِيفُ قَلِيلًا قَلِيلًا، فَكانَ تَحَمُّلُها أسْهَلَ.
ورابِعُها: أنَّهُ إذا شاهَدَ جِبْرِيلَ حالًا بَعْدَ حالٍ يَقْوى قَلْبُهُ بِمُشاهَدَتِهِ، فَكانَ أقْوى عَلى أداءِ ما حُمِّلَ، وعَلى الصَّبْرِ عَلى عَوارِضِ النُّبُوَّةِ وعَلى احْتِمالِهِ أذِيَّةَ قَوْمِهِ وعَلى الجِهادِ.
وخامِسُها: أنَّهُ لَمّا تَمَّ شَرْطُ الإعْجازِ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ مُنَجَّمًا، ثَبَتَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا؛ فَإنَّهُ لَوْ كانَ ذَلِكَ في مَقْدُورِ البَشَرِ لَوَجَبَ أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا.
وسادِسُها: كانَ القُرْآنُ يَنْزِلُ بِحَسَبِ أسْئِلَتِهِمْ والوَقائِعِ الواقِعَةِ لَهم، فَكانُوا يَزْدادُونَ بَصِيرَةً؛ لِأنَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ كانَ يَنْضَمُّ إلى الفَصاحَةِ الإخْبارُ عَنِ الغُيُوبِ.
وسابِعُها: أنَّ القُرْآنَ لَمّا نَزَلَ مَنَجَّمًا مُفَرَّقًا، وهو عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَتَحَدّاهم مِن أوَّلِ الأمْرِ، فَكَأنَّهُ تَحَدّاهم بِكُلِّ واحِدٍ مِن نُجُومِ القُرْآنِ، فَلَمّا عَجَزُوا عَنْهُ كانَ عَجْزُهم عَنْ مُعارَضَةِ الكُلِّ أوْلى، فَبِهَذا الطَّرِيقِ ثَبَتَ في فُؤادِهِ أنَّ القَوْمَ عاجِزُونَ عَنِ المُعارَضَةِ لا مَحالَةَ.
ثامِنُها: أنَّ السِّفارَةَ بَيْنَ اللَّهِ تَعالى وبَيْنَ أنْبِيائِهِ وتَبْلِيغَ كَلامِهِ إلى الخَلْقِ مَنصِبٌ عَظِيمٌ، فَيَحْتَمِلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى لَوْ أنْزَلَ القُرْآنَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ دُفْعَةً واحِدَةً لَبَطَلَ ذَلِكَ المَنصِبُ عَلى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمّا أنْزَلَهُ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا بَقِيَ ذَلِكَ المَنصِبُ العالِي عَلَيْهِ، فَلِأجْلِ ذَلِكَ جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا.
أمّا قَوْلُهُ: ”﴿كَذَلِكَ﴾“ فَفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ مِن تَمامِ كَلامِ المُشْرِكِينَ، أيْ: جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ، أيْ: كالتَّوْراةِ والإنْجِيلِ، وعَلى هَذا لا يَحْتاجُ إلى إضْمارٍ في الآيَةِ، وهو أنْ يَقُولَ: أنْزَلْناهُ مُفَرَّقًا لِتُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ.
الثّانِي: أنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعالى ذَكَرَهُ جَوابًا لَهم؛ أيْ: كَذَلِكَ أنْزَلْناهُ مُفَرَّقًا. فَإنْ قِيلَ: ذَلِكَ في ”﴿كَذَلِكَ﴾“ يَجِبُ أنْ يَكُونَ إشارَةً إلى شَيْءٍ تَقَدَّمَهُ، والَّذِي تَقَدَّمَ فَهو إنْزالُهُ جُمْلَةً واحِدَةً، فَكَيْفَ فَسَّرَ بِهِ كَذَلِكَ أنْزَلْناهُ مُفَرَّقًا ؟ قُلْنا: لِأنَّ قَوْلَهم لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ جُمْلَةً واحِدَةً مَعْناهُ: لِمَ نَزَلَ مُفَرَّقًا ؟ فَذَلِكَ إشارَةٌ إلَيْهِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ورَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا﴾ فَمَعْنى التَّرْتِيلِ في الكَلامِ أنْ يَأْتِيَ بَعْضُهُ عَلى أثَرِ بَعْضٍ عَلى تُؤَدَةٍ وتَمَهُّلٍ، وأصْلُ التَّرْتِيلِ في الأسْنانِ وهو تَفَلُّجُها، يُقالُ: ثَغْرٌ رَتْلٌ، وهو ضِدُّ المُتَراصِّ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا بَيَّنَ فَسادَ قَوْلِهِمْ بِالجَوابِ الواضِحِ قالَ: ﴿ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ﴾ مِنَ الجِنْسِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الشُّبُهاتِ إلّا جِئْناكَ بِالحَقِّ الَّذِي يَدْفَعُ قَوْلَهم، كَما قالَ تَعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذا هو زاهِقٌ﴾ [ الأنْبِياءِ: ١٨] (p-٧٠)وبَيَّنَ أنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ أحْسَنُ تَفْسِيرًا لِأجْلِ ما فِيهِ مِنَ المَزِيَّةِ في البَيانِ والظُّهُورِ، ولَمّا كانَ التَّفْسِيرُ هو الكَشْفَ عَمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الكَلامُ وُضِعَ مَوْضِعَ مَعْناهُ، فَقالُوا تَفْسِيرُ هَذا الكَلامِ كَيْتَ وكَيْتَ كَما قِيلَ: مَعْناهُ كَذا وكَذا.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المسألة الأُولى: عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «يُحْشَرُ النّاسُ عَلى ثَلاثَةِ أصْنافٍ: صِنْفٍ عَلى الدَّوابِّ، وصِنْفٍ عَلى الأقْدامِ، وصِنْفٍ عَلى الوُجُوهِ»، وعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إنَّ الَّذِي أمْشاهم عَلى أرْجُلِهِمْ قادِرٌ عَلى أنْ يُمْشِيَهم عَلى وُجُوهِهِمْ» .
المسألة الثّانِيَةُ: الأقْرَبُ أنَّهُ صِفَةٌ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ أوْرَدُوا هَذِهِ الأسْئِلَةَ عَلى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وإنْ كانَ غَيْرُهم مِن أهْلِ النّارِ يَدْخُلُ مَعَهم.
المسألة الثّالِثَةُ: حَمَلَهُ بَعْضُهم عَلى أنَّهم يَمْشُونَ في الآخِرَةِ مَقْلُوبِينَ، وُجُوهُهم إلى القَرارِ، وأرْجُلُهم إلى فَوْقُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ .
وقالَ آخَرُونَ: المُرادُ أنَّهم يُحْشَرُونَ ويُسْحَبُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ، وهَذا أيْضًا مَرْوِيٌّ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهو أوْلى، وقالَ الصُّوفِيَّةُ: الَّذِينَ تَعَلَّقَتْ قُلُوبُهم بِما سِوى اللَّهِ، فَإذا ماتُوا بَقِيَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ، فَعَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الحالَةِ بِأنَّهم يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهم شَرٌّ مَكانًا مِن أهْلِ الجَنَّةِ وأضَلُّ سَبِيلًا وطَرِيقًا، والمَقْصُودُ مِنهُ الزَّجْرُ عَنْ طَرِيقِهِمْ والسُّؤالِ عَلَيْهِ كَما ذَكَرْناهُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿أصْحابُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ [الفُرْقانِ: ٢٤] وقَدْ تَقَدَّمَ الجَوابُ عَنْهُ.
{"ayahs_start":32,"ayahs":["وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَیۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةࣰ وَ ٰحِدَةࣰۚ كَذَ ٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَـٰهُ تَرۡتِیلࣰا","وَلَا یَأۡتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئۡنَـٰكَ بِٱلۡحَقِّ وَأَحۡسَنَ تَفۡسِیرًا","ٱلَّذِینَ یُحۡشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ شَرࣱّ مَّكَانࣰا وَأَضَلُّ سَبِیلࣰا"],"ayah":"ٱلَّذِینَ یُحۡشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ شَرࣱّ مَّكَانࣰا وَأَضَلُّ سَبِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق