الباحث القرآني

﷽ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾ ﴿رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصارُ﴾ ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحْسَنَ ما عَمِلُوا ويَزِيدَهم مِن فَضْلِهِ واللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ اعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ مَسائِلَ: المسألة الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ﴾ يَقْتَضِي مَحْذُوفًا يَكُونُ فِيها وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّ التَّقْدِيرَ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ في بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ، وهو اخْتِيارُ كَثِيرٍ مِنَ المُحَقِّقِينَ، اعْتَرَضَ أبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الأصْفَهانِيُّ عَلَيْهِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ المَقْصُودَ مِن ذِكْرِ المِصْباحِ المِثْلُ وكَوْنُ المِصْباحِ في بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ لا يَزِيدُ في هَذا المَقْصُودِ لِأنَّ ذَلِكَ لا يَزِيدُ المِصْباحَ إنارَةً وإضاءَةً. الثّانِي: أنَّ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيهِ وُجُوهٌ تَقْتَضِي كَوْنَهُ واحِدًا كَقَوْلِهِ: ﴿كَمِشْكاةٍ﴾ [النُّورِ: ٣٥] وقَوْلِهِ: ﴿فِيها مِصْباحٌ﴾ [النُّورِ: ٣٥] وقَوْلِهِ: ﴿فِي زُجاجَةٍ﴾ [النُّورِ: ٣٥] وقَوْلِهِ: ﴿كَأنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ [النُّورِ: ٣٥] ولَفْظُ البُيُوتِ جَمْعٌ ولا يَصِحُّ كَوْنُ هَذا الواحِدِ في كُلِّ البُيُوتِ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ المِصْباحَ المَوْضُوعَ في الزُّجاجَةِ الصّافِيَةِ إذا كانَ في المَساجِدِ كانَ أعْظَمَ وأضْخَمَ فَكانَ أضْوَأ، فَكانَ التَّمْثِيلُ بِهِ أتَمَّ وأكْمَلَ. وعَنِ الثّانِي: أنَّهُ لَمّا كانَ القَصْدُ بِالمِثْلِ هو الَّذِي لَهُ هَذا الوَصْفُ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلٌّ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ في زُجاجَةٍ تَتَوَقَّدُ مِنَ الزَّيْتِ، وتَكُونُ الفائِدَةُ في ذَلِكَ أنَّ ضَوْأها يَظْهَرُ في هَذِهِ البُيُوتِ بِاللَّيالِي عِنْدَ الحاجَةِ إلى عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، ولَوْ أنَّ رَجُلًا قالَ: الَّذِي يَصْلُحُ لِخِدْمَتِي رَجُلٌ يَرْجِعُ إلى عِلْمٍ وكِفايَةٍ وقَناعَةٍ يَلْتَزِمُ بَيْتَهُ لَكانَ. وإنْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الواحِدِ فالمُرادُ النوع، فَكَذا ما ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ في هَذِهِ الآيَةِ. وثانِيها: التَّقْدِيرُ تُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ في بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ. وثالِثُها: وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ أنَّهُ (p-٤)راجِعٌ إلى قَوْلِهِ: ﴿ومَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ﴾ [النُّورِ: ٣٤] أيْ ومَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكم في بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ، ويَكُونُ المُرادُ بِالَّذِينِ خَلَوُا الأنْبِياءَ والمُؤْمِنِينَ، والبُيُوتُ المَساجِدُ، وقَدِ اقْتَصَّ اللَّهُ أخْبارَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ وذَكَرَ أماكِنَهم فَسَمّاها مَحارِيبَ بِقَوْلِهِ: ﴿إذْ تَسَوَّرُوا المِحْرابَ﴾ [ص: ٢١] و﴿كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّا المِحْرابَ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٣٧] فَيَقُولُ: ﴿ولَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكم آياتٍ مُبَيِّناتٍ﴾ [النُّورِ: ٣٤]، ”وأنْزَلْنا أقاصِيصَ مَن بُعِثَ قَبْلَكم مِنَ الأنْبِياءِ والمُؤْمِنِينَ“ ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ﴾ [النُّورِ: ٣٦] . ورابِعُها: قَوْلُ الجُبّائِيِّ إنَّهُ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِما تَقَدَّمَ، والتَّقْدِيرُ: صَلُّوا في بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ. وخامِسُها: وهو قَوْلُ الفَرّاءِ والزَّجّاجِ إنَّهُ لا حَذْفَ في الآيَةِ بَلْ فِيهِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ كَأنَّهُ قالَ يُسَبِّحُ في بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ رِجالٌ صِفَتُهم كَيْتَ وكَيْتَ، وأمّا قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ فَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ القاضِي مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ﴾ المُرادُ مِنهُ مَن خَلا مِنَ المُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ لِتَعَلُّقِهِ بِما تَقَدَّمَ مِنَ الإكْراهِ عَلى الزِّنا ابْتِغاءً لِلدُّنْيا، فَلا يَلِيقُ ذَلِكَ بِوَصْفِ هَذِهِ البُيُوتِ لِأنَّها بُيُوتٌ أذِنَ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ. الثّانِي: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ صارَتْ مُنْقَطِعَةً عَنْ تِلْكَ الآيَةِ بِما تَخَلَّلَ بَيْنَهُما مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [النُّورِ: ٣٥] وأمّا قَوْلُ الجُبّائِيِّ فَقِيلَ الإضْمارُ لا يَجُوزُ المَصِيرُ إلَيْهِ إلّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وعَلى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ لا حاجَةَ إلَيْهِ فَلا يَجُوزُ المَصِيرُ إلَيْهِ، فَإنْ قِيلَ عَلى قَوْلِ الزَّجّاجِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ إشْكالٌ أيْضًا لِأنَّ عَلى قَوْلِهِ يَصِيرُ المَعْنى في بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِيها تَكْرارًا مِن غَيْرِ فائِدَةٍ، فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ تَحَمُّلَ هَذِهِ الزِّيادَةِ أوْلى مِن تَحَمُّلِ ذَلِكَ النُّقْصانِ ؟ قُلْنا الزِّيادَةُ لِأجْلِ التَّأْكِيدِ كَثِيرَةٌ فَكانَ المَصِيرُ إلَيْها أوْلى. المسألة الثّانِيَةُ: أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ قالُوا: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فِي بُيُوتٍ﴾ المَساجِدُ، وعَنْ عِكْرِمَةَ ﴿فِي بُيُوتٍ﴾ قالَ: هي البُيُوتُ كُلُّها والأوَّلُ أوْلى لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ في البُيُوتِ ما لا يُمْكِنُ أنْ يُوصَفَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أذِنَ أنْ تُرْفَعَ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى وصَفَها بِالذِّكْرِ والتَّسْبِيحِ والصَّلاةِ وذَلِكَ لا يَلِيقُ إلّا بِالمَساجِدِ، ثُمَّ لِلْقائِلِينَ بِأنَّ المُرادَ هو المَساجِدُ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّ المُرادَ أرْبَعُ مَساجِدَ: الكَعْبَةُ بَناها إبْراهِيمُ وإسْماعِيلُ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبَيْتُ المَقْدِسِ بَناهُ داوُدُ وسُلَيْمانُ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومَسْجِدُ المَدِينَةِ بَناهُ النَّبِيُّ ﷺ، ومَسْجِدُ قُباءَ الَّذِي أُسِّسَ عَلى التَّقْوى بَناهُ النَّبِيُّ ﷺ، وعَنِ الحَسَنِ هو بَيْتُ المَقْدِسِ يُسْرَجُ فِيهِ عَشَرَةُ آلافِ قِنْدِيلٍ. والثّانِي: أنَّ المُرادَ هو جَمِيعُ المَساجِدِ، والأوَّلُ ضَعِيفٌ لِأنَّهُ تَخْصِيصٌ بِلا دَلِيلٍ فالأوْلى حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى جَمِيعِ المَساجِدِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: المَساجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ في الأرْضِ وهي تُضِيءُ لِأهْلِ السَّماءِ كَما تُضِيءُ النُّجُومُ لِأهْلِ الأرْضِ. * * * المسألة الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في المُرادِ مِن قَوْلِهِ: ﴿أنْ تُرْفَعَ﴾ عَلى أقْوالٍ: أحَدُها: المُرادُ مِن رَفْعِها بِناؤُها لِقَوْلِهِ: ﴿بَناها﴾ ﴿رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها﴾ [النّازِعاتِ: ٢٧، ٢٨] وقَوْلِهِ: ﴿وإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ﴾ [البَقَرَةِ: ١٢٧] وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: هي المَساجِدُ أمَرَ اللَّهُ أنْ تُبْنى. وثانِيها: تُرْفَعُ أيْ تُعَظَّمُ وتُطَهَّرُ عَنِ الأنْجاسِ وعَنِ اللَّغْوِ مِنَ الأقْوالِ عَنِ الزَّجّاجِ. وثالِثُها: المُرادُ مَجْمُوعُ الأمْرَيْنِ. (p-٥)والقَوْلُ الثّانِي أوْلى لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ﴾ ظاهِرُهُ أنَّها كانَتْ بُيُوتًا قَبْلَ الرَّفْعِ فَأذِنَ اللَّهُ أنْ تُرْفَعَ. * * * المسألة الرّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا في المُرادِ مِن قَوْلِهِ: ﴿ويُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ﴾: فالقَوْلُ الأوَّلُ: أنَّهُ عامٌّ في كُلِّ ذِكْرٍ. والثّانِي: أنْ يُتْلى فِيها كِتابُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: لا يُتَكَلَّمُ فِيها بِما لا يَنْبَغِي والأوَّلُ أوْلى لِعُمُومِ اللَّفْظِ. المسألة الخامِسَةُ: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ ”يُسَبَّحُ“ بِفَتْحِ الباءِ والباقُونَ بِكَسْرِها، فَعَلى القِراءَةِ الأُولى يَكُونُ القَوْلُ مُمْتَدًّا إلى آخِرِ الظُّرُوفِ الثَّلاثَةِ، أعْنِي لَهُ فِيها بِالغُدُوِّ والآصالِ، ثم قال الزَّجّاجُ: ﴿رِجالٌ﴾ مَرْفُوعٌ لِأنَّهُ لَمّا قالَ ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيها﴾ فَكَأنَّهُ قِيلَ مَن يُسَبِّحُ ؟ فَقِيلَ يُسَبِّحُ رِجالٌ. * * * المسألة السّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا في هَذا التَّسْبِيحِ فالأكْثَرُونَ حَمَلُوهُ عَلى نَفْسِ الصَّلاةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنهم مَن حَمَلَهُ عَلى كُلِّ الصَّلَواتِ الخَمْسِ ومِنهم مَن حَمَلَهُ عَلى صَلاتَيِ الصُّبْحِ والعَصْرِ فَقالَ: كانَتا واجِبَتَيْنِ في ابْتِداءِ الحالِ ثُمَّ زِيدَ فِيهِما، ومِنهم مَن حَمَلَهُ عَلى التَّسْبِيحِ الَّذِي هو تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعالى عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ في ذاتِهِ وفِعْلِهِ، واحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأنَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ قَدْ عَطَفَهُما عَلى ذَلِكَ مِن حَيْثُ قالَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وهَذا الوجه أظْهَرُ. * * * المسألة السّابِعَةُ: الآصالُ جَمْعُ أُصُلٍ والأُصُلُ جَمْعُ أصِيلٍ وهو العَشِيُّ، وإنَّما وُجِدَ الغُدُوُّ لِأنَّهُ في الأصْلِ مَصْدَرٌ لا يُجْمَعُ والأصِيلُ اسْمُ جَمْعٍ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ ”بِالغُدُوِّ“ أيْ بِأوْقاتِ الغُدُوِّ أيْ بِالغَدَواتِ وقُرِئَ ”والإيصالِ“ وهو الدُّخُولُ في الأصِيلِ، يُقالُ آصَلَ كَأعْتَمَ وأظْهَرَ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَحِمَهُما اللَّهُ -: إنَّ صَلاةَ الضُّحى لَفي كِتابِ اللَّهِ تَعالى مَذْكُورَةٌ، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ، ورَوى أبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «ما مِن أحَدٍ يَغْدُو ويَرُوحُ إلى المَسْجِدِ يُؤْثِرُهُ عَلى ما سِواهُ إلّا ولَهُ عِنْدَ اللَّهِ نُزُلٌ يَعْدِلُهُ في الجَنَّةِ» وفي رِوايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مَرْفُوعًا ”«مَن غَدا إلى المَسْجِدِ وراحَ لِيُعَلِّمَ خَيْرًا أوْ لِيَتَعَلَّمَهُ كانَ كَمَثَلِ المُجاهِدِ في سَبِيلِ اللَّهِ يَرْجِعُ غانِمًا» “ . * * * المسألة الثّامِنَةُ: اخْتَلَفُوا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ﴾ فَقالَ بَعْضُهم نَفى كَوْنَهم تُجّارًا وباعَةً أصْلًا، وقالَ بَعْضُهم بَلْ أثْبَتَهم تُجّارًا وباعَةً وبَيَّنَ أنَّهم مَعَ ذَلِكَ لا يَشْغَلُهم عَنْها شاغِلٌ مِن ضُرُوبِ مَنافِعِ التِّجاراتِ، وهَذا قَوْلُ الأكْثَرِينَ. قالَ الحَسَنُ أما واللَّهِ إنْ كانُوا لَيَتَّجِرُونَ، ولَكِنْ إذا جاءَتْ فَرائِضُ اللَّهِ لَمْ يُلْهِهِمْ عَنْها شَيْءٌ فَقامُوا بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ. وعَنْ سالِمٍ نَظَرَ إلى قَوْمٍ مِن أهْلِ السُّوقِ تَرَكُوا بِياعاتِهِمْ وذَهَبُوا إلى الصَّلاةِ فَقالَ: هُمُ الَّذِينَ قالَ تَعالى فِيهِمْ: ﴿لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ﴾، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ، واعْلَمْ أنَّ هَذا القَوْلَ أوْلى مِنَ الأوَّلِ، لِأنَّهُ لا يُقالُ إنَّ فُلانًا لا تُلْهِيهِ التِّجارَةُ عَنْ كَيْتَ وكَيْتَ إلّا وهو تاجِرٌ، وإنِ احْتَمَلَ الوجه الأوَّلَ. وهَهُنا سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: لَمّا قالَ: ﴿لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ﴾ دَخَلَ فِيهِ البَيْعُ فَلِمَ أعادَ ذِكْرَ البَيْعِ ؟ قُلْنا الجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ التِّجارَةَ جِنْسٌ يَدْخُلُ تَحْتَهُ أنْواعُ الشِّراءِ والبَيْعِ إلّا أنَّهُ سُبْحانَهُ خَصَّ البَيْعَ بِالذِّكْرِ لِأنَّهُ في الإلْهاءِ أدْخَلَ، لِأنَّ الرِّبْحَ الحاصِلَ في البَيْعِ يَقِينٌ ناجِزٌ، والرِّبْحَ الحاصِلَ في الشِّراءِ شَكٌّ مُسْتَقْبَلٌ. الثّانِي: أنَّ البَيْعَ يَقْتَضِي تَبْدِيلَ العَرْضِ بِالنَّقْدِ، والشِّراءِ بِالعَكْسِ والرَّغْبَةِ في تَحْصِيلِ النَّقْدِ أكْثَرَ مِنَ العَكْسِ. الثّالِثُ: قالَ الفَرّاءُ: التِّجارَةُ لِأهْلِ الجَلَبِ، يُقالُ: اتَّجَرَ فُلانٌ في كَذا إذا جَلَبَهُ مِن غَيْرِ بَلَدِهِ، والبَيْعُ ما باعَهُ عَلى يَدَيْهِ. (p-٦)السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ خَصَّ الرِّجالَ بِالذِّكْرِ ؟ والجَوابُ: لِأنَّ النِّساءَ لَسْنَ مِن أهْلِ التِّجاراتِ أوِ الجَماعاتِ. * * * المسألة التّاسِعَةُ: اخْتَلَفُوا في المُرادِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، فَقالَ قَوْمٌ: المُرادُ الثَّناءُ عَلى اللَّهِ تَعالى والدَّعَواتُ، وقالَ آخَرُونَ: المُرادُ الصَّلَواتُ، فَإنْ قِيلَ فَما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وإقامِ الصَّلاةِ﴾ ؟ قُلْنا عَنْهُ جَوابانِ: أحَدُهُما: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: المُرادُ بِإقامِ الصَّلاةِ إقامَتُها لِمَواقِيتِها. والثّانِي: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿وإقامِ الصَّلاةِ﴾ تَفْسِيرًا لِذِكْرِ اللَّهِ فَهم يَذْكُرُونَ اللَّهَ قَبْلَ الصَّلاةِ وفي الصَّلاةِ. المسألة العاشِرَةُ: قَدْ ذَكَرْنا في أوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في قَوْلِهِ: ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ أنَّ إقامَ الصَّلاةِ هو القِيامُ بِحَقِّها عَلى شُرُوطِها، والوجه في حَذْفِ الهاءِ ما قالَهُ الزَّجّاجُ، يُقالُ أقَمْتُ الصَّلاةَ إقامَةً وكانَ الأصْلُ إقْوامًا، ولَكِنْ قُلِبَتِ الواوُ ألِفًا فاجْتَمَعَ ألِفانِ فَحُذِفَتْ إحْداهُما لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ فَبَقِيَ: أقَمْتُ الصَّلاةَ إقامًا، فَأُدْخِلَتِ الهاءُ عِوَضًا مِنَ المَحْذُوفِ، وقامَتِ الإضافَةُ هَهُنا في التَّعْوِيضِ مَقامَ الهاءِ المَحْذُوفَةِ، قالَ: وهَذا إجْماعٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. المسألة الحادِيَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفُوا في الصَّلاةِ فَمِنهم مَن قالَ: هي الفَرائِضُ، ومِنهم مَن أدْخَلَ فِيهِ النَّقْلَ عَلى ما حَكَيْناهُ في صَلاةِ الضُّحى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والأوَّلُ أقْرَبُ لِأنَّهُ إلى التَّعْرِيفِ أقْرَبَ وكَذَلِكَ القَوْلُ في الزَّكاةِ أنَّ المُرادَ المَفْرُوضُ لِأنَّهُ المَعْرُوفُ في الشَّرْعِ المُسَمّى بِذَلِكَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: المُرادُ مِنَ الزَّكاةِ طاعَةُ اللَّهِ تَعالى والإخْلاصُ، وكَذا في قَوْلِهِ: ﴿وكانَ يَأْمُرُ أهْلَهُ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ﴾ [مَرْيَمَ: ٥٥] وقَوْلِهِ: ﴿ما زَكا مِنكم مِن أحَدٍ﴾ [النُّورِ: ٢١] وقَوْلِهِ: ﴿تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ [التَّوْبَةِ: ١٠٣] وهَذا ضَعِيفٌ لِما تَقَدَّمَ، ولِأنَّهُ تَعالى عَلَّقَ الزَّكاةَ بِالإيتاءِ، وهَذا لا يُحْمَلُ إلّا عَلى ما يُعْطى مِن حُقُوقِ المالِ. المسألة الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّهُ سُبْحانَهُ بَيَّنَ أنَّ هَؤُلاءِ الرِّجالَ وإنْ تَعَبَّدُوا بِذِكْرِ اللَّهِ والطّاعاتِ فَإنَّهم مَعَ ذَلِكَ مَوْصُوفُونَ بِالوَجَلِ والخَوْفِ فَقالَ: ﴿يَخافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصارُ﴾ وذَلِكَ الخَوْفُ إنَّما كانَ لِعِلْمِهِمْ بِأنَّهم ما عَبَدُوا اللَّهَ حَقَّ عِبادَتِهِ. واخْتَلَفُوا في المُرادِ بِتَقَلُّبِ القُلُوبِ والأبْصارِ عَلى أقْوالٍ: فالقَوْلُ الأوَّلُ أنَّ القُلُوبَ تَضْطَرِبُ مِنَ الهَوْلِ والفَزَعِ وتَشْخَصُ الأبْصارُ لِقَوْلِهِ: ﴿وإذْ زاغَتِ الأبْصارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ﴾ [الأحْزابِ: ١٠] . الثّانِي: أنَّها تَتَغَيَّرُ أحْوالُها فَتَفْقَهُ القُلُوبُ بَعْدَ أنْ كانَتْ مَطْبُوعًا عَلَيْها لا تَفْقَهُ، وتُبْصِرُ الأبْصارُ بَعْدَ أنْ كانَتْ لا تُبْصِرُ، فَكَأنَّهُمُ انْقَلَبُوا مِنَ الشَّكِّ إلى الظَّنِّ، ومِنَ الظَّنِّ إلى اليَقِينِ، ومِنَ اليَقِينِ إلى المُعايَنَةِ، لِقَوْلِهِ: ﴿وبَدا لَهم مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزُّمَرِ: ٤٧] وقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ مِن هَذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ﴾ [ق: ٢٢] . الثّالِثُ: أنَّ القُلُوبَ تَتَقَلَّبُ في ذَلِكَ اليَوْمِ طَمَعًا في النَّجاةِ وحَذَرًا مِنَ الهَلاكِ، والأبْصارَ تَنْقَلِبُ مِن أيِّ ناحِيَةٍ يُؤْمَرُ بِهِمْ، أمِن ناحِيَةِ اليَمِينِ أمْ مِن ناحِيَةِ الشَّمالِ ؟ ومِن أيِّ ناحِيَةٍ يُعْطُونَ كِتابَهم أمِن قِبَلِ الأيْمانِ أمْ مِن قِبَلِ الشَّمائِلِ ؟ والمُعْتَزِلَةُ لا يَرْضَوْنَ بِهَذا التَّأْوِيلِ، فَإنَّهم قالُوا: إنَّ أهْلَ الثَّوابِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمُ البَتَّةَ في ذَلِكَ اليَوْمِ، وأهْلَ العِقابِ لا يَرْجُونَ العَفْوَ، لَكِنّا بَيَّنّا فَسادَ هَذا المَذْهَبِ غَيْرَ مَرَّةٍ. الرّابِعُ: أنَّ القُلُوبَ تَزُولُ عَنْ أماكِنِها فَتَبْلُغُ الحَناجِرَ، والأبْصارُ تَصِيرُ زُرْقًا، قالَ الضَّحّاكُ: يُحْشَرُ الكافِرُ وبَصَرُهُ حَدِيدٌ وتَزْرَقُّ عَيْناهُ ثُمَّ يَعْمى، ويَتَقَلَّبُ القَلْبُ مِنَ الخَوْفِ حَيْثُ لا يَجِدُ مُخَلِّصًا حَتّى يَقَعَ في الحَنْجَرَةِ فَهو قَوْلُهُ: ﴿إذِ القُلُوبُ لَدى الحَناجِرِ كاظِمِينَ﴾ [غافِرٍ: ١٨] . الخامِسُ: قالَ الجُبّائِيُّ: المُرادُ بِتَقَلُّبِ القُلُوبِ والأبْصارِ تَغَيُّرُ هَيْئاتِها بِسَبَبِ (p-٧)ما يَنالُها مِنَ العَذابِ، فَتَكُونُ مَرَّةً بِهَيْئَةِ ما أُنْضِجَ بِالنّارِ، ومَرَّةً بِهَيْئَةِ ما احْتَرَقَ، قالَ: ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِهِ تَقَلُّبَها عَلى جَمْرِ جَهَنَّمَ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنْعامِ: ١١٠] . * * * المسألة الثّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحْسَنَ ما عَمِلُوا﴾ أيْ يَفْعَلُونَ هَذِهِ القُرُباتِ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ ويُثِيبَهم عَلى أحْسَنِ ما عَمِلُوا، وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: المُرادُ بِالأحْسَنِ الحَسَناتُ أجْمَعُ، وهي الطّاعاتُ فَرْضُها ونَفْلُها، قالَ مُقاتِلٌ: إنَّما ذَكَرَ الأحْسَنَ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ لا يُجازِيهِمْ عَلى مَساوِئِ أعْمالِهِمْ بَلْ يَغْفِرُها لَهم. الثّانِي: أنَّهُ سُبْحانَهُ يَجْزِيهِمْ جَزاءَ أحْسَنِ ما عَمِلُوا عَلى الواحِدِ عَشْرًا إلى سَبْعِمِائَةٍ. الثّالِثُ: قالَ القاضِي: المُرادُ بِذَلِكَ أنْ تَكُونَ الطّاعاتُ مِنهم مُكَفِّرَةً لِمَعاصِيهِمْ وإنَّما يَجْزِيهِمُ اللَّهُ تَعالى بِأحْسَنِ الأعْمالِ، وهَذا مُسْتَقِيمٌ عَلى مَذْهَبِهِ في الإحْباطِ والمُوازَنَةِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَزِيدَهم مِن فَضْلِهِ﴾ فالمَعْنى أنَّهُ تَعالى يَجْزِيهِمْ بِأحْسَنِ الأعْمالِ ولا يَقْتَصِرُ عَلى قَدْرِ اسْتِحْقاقِهِمْ بَلْ يَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ عَلى ما ذَكَرَهُ تَعالى في سائِرِ الآياتِ مِنَ التَّضْعِيفِ، فَإنْ قِيلَ: فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ لِفِعْلِ الطّاعَةِ أثَرًا في اسْتِحْقاقِ الثَّوابِ، لِأنَّهُ تَعالى مَيَّزَ الجَزاءَ عَنِ الفَضْلِ وأنْتُمْ لا تَقُولُونَ بِذَلِكَ، فَإنَّ عِنْدَكُمُ العَبْدَ لا يَسْتَحِقُّ عَلى رَبِّهِ شَيْئًا، قُلْنا نَحْنُ نُثْبِتُ الِاسْتِحْقاقَ لَكِنْ بِالوَعْدِ فَذاكَ القَدْرُ هو المُسْتَحَقُّ والزّائِدُ عَلَيْهِ هو الفَضْلُ، ثم قال: ﴿واللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ نَبَّهَ بِهِ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ وكَمالِ جُودِهِ ونَفاذِ مَشِيئَتِهِ وسَعَةِ إحْسانِهِ، فَكانَ سُبْحانَهُ لَمّا وصَفَهم بِالجِدِّ والِاجْتِهادِ في الطّاعَةِ، ومَعَ ذَلِكَ يَكُونُونَ في نِهايَةِ الخَوْفِ، فالحَقُّ سُبْحانَهُ يُعْطِيهِمُ الثَّوابَ العَظِيمَ عَلى طاعاتِهِمْ، ويَزِيدُهُمُ الفَضْلَ الَّذِي لا حَدَّ لَهُ في مُقابَلَةِ خَوْفِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب