الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكم فَكُنْتُمْ عَلى أعْقابِكم تَنْكِصُونَ﴾ ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرًا تَهْجُرُونَ﴾ ﴿أفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أمْ جاءَهم ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿أمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهم فَهم لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ ﴿أمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهم بِالحَقِّ وأكْثَرُهم لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾ ﴿ولَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أهْواءَهم لَفَسَدَتِ السَّماواتُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ بَلْ أتَيْناهم بِذِكْرِهِمْ فَهم عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ ﴿أمْ تَسْألُهم خَرْجًا فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وهو خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا بَيَّنَ فِيما قَبْلُ أنَّهُ لا يَنْصُرُ أُولَئِكَ الكُفّارَ أتْبَعَهُ بِعِلَّةِ ذَلِكَ، وهي أنَّهُ مَتى تُلِيَتْ آياتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أتَوْا بِأُمُورٍ ثَلاثَةٍ. أحَدُها: أنَّهم كانُوا عَلى أعْقابِهِمْ يَنْكِصُونَ، وهَذا مَثَلٌ يُضْرَبُ فِيمَن تَباعَدَ عَنِ الحَقِّ كُلَّ (p-٩٧)التَّباعُدِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَكُنْتُمْ عَلى أعْقابِكم تَنْكِصُونَ﴾ أيْ: تَنْفِرُونَ عَنْ تِلْكَ الآياتِ وعَمَّنْ يَتْلُوها، كَما يَذْهَبُ النّاكِصُ عَلى عَقِبَيْهِ بِالرُّجُوعِ إلى ورائِهِ. وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ﴾ والهاءُ في (بِهِ) إلى ماذا تَعُودُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ. أوَّلُها: إلى البَيْتِ العَتِيقِ أوِ الحَرَمِ، كانُوا يَقُولُونَ: لا يَظْهَرُ عَلَيْنا أحَدٌ؛ لِأنّا أهْلُ الحَرَمِ. والَّذِي يُسَوِّغُ هَذا الإضْمارَ شُهْرَتُهم بِالِاسْتِكْبارِ بِالبَيْتِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهم مَفْخَرَةٌ إلّا أنَّهم وُلاتُهُ والقائِمُونَ بِهِ. وثانِيها: المُرادُ مُسْتَكْبِرِينَ بِهَذا التَّراجُعِ والتَّباعُدِ. وثالِثُها: أنْ تَتَعَلَّقَ الباءُ بِـ (سامِرًا) أيْ يَسْمُرُونَ بِذِكْرِ القُرْآنِ وبِالطَّعْنِ فِيهِ، وهَذا هو الأمْرُ الثّالِثُ الَّذِي يَأْتُونَ بِهِ عِنْدَ تِلاوَةِ القُرْآنِ عَلَيْهِمْ، وكانُوا يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ البَيْتِ بِاللَّيْلِ يَسْمُرُونَ، وكانَتْ عامَّةُ سَمَرِهِمْ ذِكْرَ القُرْآنِ وتَسْمِيَتَهُ سِحْرًا وشِعْرًا، وسَبَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ويَهْجُرُونَ، والسّامِرُ نَحْوُ الحاضِرِ في الإطْلاقِ عَلى الجَمْعِ، وقُرِئَ (سَمَرًا) و(سامِرًا يَهْجُرُونَ) مِن أهْجَرَ في مَنطِقِهِ: إذا أفْحَشَ، والهَجْرُ بِالفَتْحِ: الهَذَيانُ، والهُجْرُ بِالضَّمِّ الفُحْشُ، أوْ مِن هَجَّرَ الَّذِي هو مُبالَغَةٌ في هَجَرَ: إذا هَذى. ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا وصَفَ حالَهم رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأنْ بَيَّنَ أنَّ إقْدامَهم عَلى هَذِهِ الأُمُورِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لِأحَدِ أُمُورٍ أرْبَعَةٍ. أحَدُها: أنْ لا يَتَأمَّلُوا في دَلِيلِ ثُبُوتِهِ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ﴾ [النِّساءِ: ٨٢] فَبَيَّنَ أنَّ القَوْلَ الَّذِي هو القُرْآنُ كانَ مَعْرُوفًا لَهُمْ، وقَدْ مُكِّنُوا مِنَ التَّأمُّلِ فِيهِ مِن حَيْثُ كانَ مُبايِنًا لِكَلامِ العَرَبِ في الفَصاحَةِ، ومُبَرَّأً عَنِ التَّناقُضِ في طُولِ عُمْرِهِ، ومِن حَيْثُ يُنَبِّهُ عَلى ما يَلْزَمُهم مِن مَعْرِفَةِ الصّانِعِ ومَعْرِفَةِ الوَحْدانِيَّةِ، فَلِمَ لا يَتَدَبَّرُونَ فِيهِ لِيَتْرُكُوا الباطِلَ ويَرْجِعُوا إلى الحَقِّ؟ وثانِيها: أنْ يَعْتَقِدُوا أنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ أمْرٌ عَلى خِلافِ العادَةِ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أمْ جاءَهم ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الأوَّلِينَ﴾ وذَلِكَ لِأنَّهم عَرَفُوا بِالتَّواتُرِ أنَّ الرُّسُلَ كانَتْ تَتَواتَرُ عَلى الأُمَمِ وتَظْهَرُ المُعْجِزاتُ عَلَيْها، وكانَتِ الأُمَمُ بَيْنَ مُصَدِّقٍ ناجٍ، وبَيْنَ مُكَذِّبٍ هالِكٍ بِعَذابِ الِاسْتِئْصالِ، أفَما دَعاهم ذَلِكَ إلى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ؟ وثالِثُها: أنْ لا يَكُونُوا عالِمِينَ بِدِيانَتِهِ وحُسْنِ خِصالِهِ قَبْلَ ادِّعائِهِ لِلنُّبُوَّةِ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهم فَهم لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ نَبَّهَ سُبْحانَهُ بِذَلِكَ عَلى أنَّهم عَرَفُوا مِنهُ قَبْلَ ادِّعائِهِ الرِّسالَةَ كَوْنَهُ في نِهايَةِ الأمانَةِ والصِّدْقِ، وغايَةِ الفِرارِ مِنَ الكَذِبِ والأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ فَكَيْفَ كَذَّبُوهُ بَعْدَ أنِ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهم عَلى تَسْمِيَتِهِ بِالأمِينِ؟ ورابِعُها: أنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ الجُنُونَ فَيَقُولُونَ: إنَّما حَمَلَهُ عَلى ادِّعائِهِ الرِّسالَةَ جُنُونُهُ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾ وهَذا أيْضًا ظاهِرُ الفَسادِ؛ لِأنَّهم كانُوا يَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أنَّهُ أعْقَلُ النّاسِ، والمَجْنُونُ كَيْفَ يُمْكِنُهُ أنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ ما أتى بِهِ مِنَ الدَّلائِلِ القاطِعَةِ والشَّرائِعِ الكامِلَةِ، ولَقَدْ كانَ مِنَ المُبْغِضِينَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَن سَمّاهُ بِذَلِكَ. وفِيهِ وجْهانِ. أحَدُهُما: أنَّهم نَسَبُوهُ إلى ذَلِكَ مِن حَيْثُ كانَ يَطْمَعُ في انْقِيادِهِمْ لَهُ، وكانَ ذَلِكَ مِن أبْعَدِ الأُمُورِ عِنْدَهم فَنَسَبُوهُ إلى الجُنُونِ لِذَلِكَ. والثّانِي: أنَّهم قالُوا ذَلِكَ إيهامًا لِعَوامِّهِمْ لِكَيْ لا يَنْقادُوا لَهُ، فَأوْرَدُوا ذَلِكَ مَوْرِدَ الِاسْتِحْقارِ لَهُ. ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ بَعْدَ أنْ عَدَّ هَذِهِ الوُجُوهَ، ونَبَّهَ عَلى فَسادِها قالَ: ﴿بَلْ جاءَهم بِالحَقِّ وأكْثَرُهم لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾ مِن حَيْثُ تَمَسَّكُوا بِالتَّقْلِيدِ ومِن حَيْثُ عَلِمُوا أنَّهم لَوْ أقَرُّوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ لَزالَتْ مَناصِبُهم ولاخْتَلَّتْ رِياساتُهم، فَلِذَلِكَ كَرِهُوهُ، فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿وأكْثَرُهُمْ﴾ فِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ أقَلَّهم لا يَكْرَهُونَ الحَقَّ، قُلْنا: كانَ فِيهِمْ مَن يَتْرُكُ الإيمانَ أنَفَةً مِن تَوْبِيخِ قَوْمِهِ، وأنْ يَقُولُوا: تَرَكَ دِينَ آبائِهِ، لا كَراهَةً لِلْحَقِّ كَما حُكِيَ عَنْ أبِي طالِبٍ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّ الحَقَّ لا يَتَّبِعُ الهَوى، بَلِ الواجِبُ عَلى المُكَلَّفِ أنْ يَطْرَحَ الهَوى ويَتَّبِعَ الحَقَّ، فَبَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّ اتِّباعَ الهَوى يُؤَدِّي إلى الفَسادِ العَظِيمِ فَقالَ: ﴿ولَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أهْواءَهم لَفَسَدَتِ السَّماواتُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ﴾ وفي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ. الأوَّلُ: أنَّ القَوْمَ كانُوا يَرَوْنَ أنَّ الحَقَّ في اتِّخاذِ آلِهَةٍ مَعَ اللَّهِ تَعالى، لَكِنْ لَوْ (p-٩٨)صَحَّ ذَلِكَ لَوَقَعَ الفَسادُ في السَّماواتِ والأرْضِ عَلى ما قَرَّرْناهُ في دَلِيلِ التَّمانُعِ في قَوْلِهِ: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنْبِياءِ: ٢٢]. والثّانِي: أنَّ أهْواءَهم في عِبادَةِ الأوْثانِ وتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ ﷺ وهُما مَنشَأُ المَفْسَدَةِ، والحَقُّ هو الإسْلامُ، فَلَوِ اتَّبَعَ الإسْلامُ قَوْلَهم لَعَلِمَ اللَّهُ حُصُولَ المَفاسِدِ عِنْدَ بَقاءِ هَذا العالَمِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي تَخْرِيبَ العالَمِ وإفْناءَهُ. والثّالِثُ: أنَّ آراءَهم كانَتْ مُتَناقِضَةً، فَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أهْواءَهم لَوَقَعَ التَّناقُضُ ولاخْتَلَّ نِظامُ العالَمِ. عَنِ القَفّالِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿بَلْ أتَيْناهم بِذِكْرِهِمْ﴾ فَقِيلَ: إنَّهُ القُرْآنُ والأدِلَّةُ، وقِيلَ: بَلْ شَرَفُهم وفَخْرُهم بِالرَّسُولِ، وكِلا القَوْلَيْنِ مُتَقارِبٌ؛ لِأنَّ في مَجِيءِ الرَّسُولِ بَيانَ الأدِلَّةِ، وفي مَجِيءِ الأدِلَّةِ بَيانُ الرَّسُولِ، فَأحَدُهُما مَقْرُونٌ بِالآخَرِ، وقِيلَ: الذِّكْرُ هو الوَعْظُ والتَّحْذِيرُ، وقِيلَ: هو الَّذِي كانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ ويَقُولُونَ: ﴿لَوْ أنَّ عِنْدَنا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ﴾ ﴿لَكُنّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ [الصّافّاتِ: ١٦٨، ١٦٩] وقُرِئَ: (بِذِكْراهُمْ) ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لا يَطْمَعُ فِيهِمْ حَتّى يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلنُّفْرَةِ فَقالَ: ﴿أمْ تَسْألُهم خَرْجًا فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾ وقُرِئَ (خَراجًا) قالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: الخَرْجُ ما تَبَرَّعْتَ بِهِ، والخَراجُ ما لَزِمَكَ أداؤُهُ، والوجه أنَّ الخَرْجَ أخَصُّ مِنَ الخَراجِ، كَقَوْلِكَ: خَراجُ القَرْيَةِ، وخَرْجُ الكُرْدَةِ، زِيادَةُ اللَّفْظِ لِزِيادَةِ المَعْنى؛ ولِذَلِكَ حَسُنَتْ قِراءَةُ مَن قَرَأ ﴿خَرْجًا فَخَراجُ رَبِّكَ﴾ يَعْنِي أمْ تَسْألُهم عَلى هِدايَتِهِمْ قَلِيلًا مِن عَطاءِ الخَلْقِ، فالكَثِيرُ مِن عَطاءِ الخَلْقِ خَيْرٌ. فَنَبَّهَ سُبْحانَهُ بِذَلِكَ عَلى أنَّ هَذِهِ التُّهْمَةَ بَعِيدَةٌ عَنْهُ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَنْفِرُوا عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِ لِأجْلِها. فَنَبَّهَ سُبْحانَهُ بِهَذِهِ الآياتِ عَلى أنَّهم غَيْرُ مَعْذُورِينَ البَتَّةَ وأنَّهم مَحْجُوجُونَ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ. قالَ الجُبّائِيُّ: دَلَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ عَلى أنَّ أحَدًا مِنَ العِبادِ لا يَقْدِرُ عَلى مِثْلِ نِعَمِهِ ورِزْقِهِ، ولا يُساوِيهِ في الإفْضالِ عَلى عِبادِهِ، ودَلَّ أيْضًا عَلى أنَّ العِبادَ قَدْ يَرْزُقُ بَعْضُهم بَعْضًا، ولَوْلا ذَلِكَ لَما جازَ أنْ يَقُولَ: ﴿وهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب