الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ هم مِن خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ هم بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ هم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ أنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ وهم لَها سابِقُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَمَّ مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أيَحْسَبُونَ أنَّما نُمِدُّهم بِهِ مِن مالٍ وبَنِينَ﴾ ﴿نُسارِعُ لَهم في الخَيْراتِ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿بَل لا يَشْعُرُونَ﴾ بَيَّنَ بَعْدَهُ صِفاتِ مَن يُسارِعُ في الخَيْراتِ ويَشْعُرُ بِذَلِكَ، وهي أرْبَعَةٌ:
الصِّفَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ هم مِن خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ والإشْفاقُ يَتَضَمَّنُ الخَشْيَةَ مَعَ زِيادَةِ رِقَّةٍ وضَعْفٍ، فَمِنهم مَن قالَ: جَمَعَ بَيْنَهُما لِلتَّأْكِيدِ، ومِنهم مَن حَمَلَ الخَشْيَةَ عَلى العَذابِ، والمَعْنى الَّذِينَ هم مِن عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وهو قَوْلُ الكَلْبِيِّ ومُقاتِلٍ، ومِنهم مَن حَمَلَ الإشْفاقَ عَلى أثَرِهِ، وهو الدَّوامُ في الطّاعَةِ، والمَعْنى الَّذِينَ هم مِن خَشْيَةِ رَبِّهِمْ دائِمُونَ في طاعَتِهِ، جادُّونَ في طَلَبِ مَرْضاتِهِ. والتَّحْقِيقُ أنَّ مَن بَلَغَ في الخَشْيَةِ إلى حَدِّ الإشْفاقِ وهو كَمالُ الخَشْيَةِ، كانَ في نِهايَةِ الخَوْفِ مِن سُخْطِ اللَّهِ عاجِلًا، ومِن عِقابِهِ آجِلًا، فَكانَ في نِهايَةِ الِاحْتِرازِ عَنِ المَعاصِي.
الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ هم بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ واعْلَمْ أنَّ آياتِ اللَّهِ تَعالى هي المَخْلُوقاتُ الدّالَّةُ عَلى وُجُودِهِ، والإيمانُ بِها هو التَّصْدِيقُ بِها، والتَّصْدِيقُ بِها إنْ كانَ بِوُجُودِها فَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وصاحِبُ هَذا التَّصْدِيقِ لا يَسْتَحِقُّ المَدْحَ، وإنْ كانَ بِكَوْنِها آياتٍ ودَلائِلَ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، فَذَلِكَ مِمّا لا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلّا بِالنَّظَرِ والفِكْرِ، وصاحِبُهُ لا بُدَّ وأنْ يَصِيرَ عارِفًا بِوُجُودِ الصّانِعِ وصِفاتِهِ، وإذا حَصَلَتِ المَعْرِفَةُ بِالقَلْبِ حَصَلَ الإقْرارُ بِاللِّسانِ ظاهِرًا وذَلِكَ هو الإيمانُ.
الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ هم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ﴾ ولَيْسَ المُرادُ مِنهُ الإيمانَ بِالتَّوْحِيدِ ونَفْيَ الشَّرِيكِ لِلَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ ذَلِكَ داخِلٌ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ هم بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ بَلِ المُرادُ مِنهُ نَفْيُ الشِّرْكِ الخَفِيِّ، وهو أنْ يَكُونَ مُخْلِصًا في العِبادَةِ لا يَقْدُمُ عَلَيْها إلّا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعالى وطَلَبِ رِضْوانِهِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
الصِّفَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ مَعْناهُ يُعْطُونَ ما أعْطَوْا، فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ حَقٍّ يَلْزَمُ إيتاؤُهُ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ مِن حَقِّ اللَّهِ تَعالى: كالزَّكاةِ والكَفّارَةِ وغَيْرِهِما، أوْ مِن حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ: كالوَدائِعِ والدُّيُونِ وأصْنافِ الإنْصافِ والعَدْلِ، وبَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ إنَّما يَنْفَعُ إذا فَعَلُوهُ وقُلُوبُهم وجِلَةٌ؛ لِأنَّ مَن يَقْدُمُ عَلى العِبادَةِ وهو وجِلٌ مِن تَقْصِيرِهِ وإخْلالِهِ بِنُقْصانٍ أوْ غَيْرِهِ، فَإنَّهُ يَكُونُ لِأجْلِ ذَلِكَ الوَجِلِ مُجْتَهِدًا في أنْ يُوَفِّيَها حَقَّها في الأداءِ. «وسَألَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ أهُوَ الَّذِي يَزْنِي ويَشْرَبُ الخَمْرَ ويَسْرِقُ وهو عَلى ذَلِكَ يَخافُ اللَّهَ تَعالى ؟ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”لا يا ابْنَةَ (p-٩٤)الصِّدِّيقِ، ولَكِنْ هو الرَّجُلُ يُصَلِّي ويَصُومُ ويَتَصَدَّقُ، وهو عَلى ذَلِكَ يَخافُ اللَّهَ تَعالى“».
واعْلَمْ أنَّ تَرْتِيبَ هَذِهِ الصِّفاتِ في نِهايَةِ الحُسْنِ؛ لِأنَّ الصِّفَةَ الأُولى دَلَّتْ عَلى حُصُولِ الخَوْفِ الشَّدِيدِ المُوجِبِ لِلِاحْتِرازِ عَمّا لا يَنْبَغِي.
والصِّفَةُ الثّانِيَةُ: دَلَّتْ عَلى تَرْكِ الرِّياءِ في الطّاعاتِ.
والصِّفَةُ الثّالِثَةُ: دَلَّتْ عَلى أنَّ المُسْتَجْمِعَ لِتِلْكَ الصِّفاتِ الثَّلاثَةِ يَأْتِي بِالطّاعاتِ مَعَ الوَجَلِ والخَوْفِ مِنَ التَّقْصِيرِ، وذَلِكَ هو نِهايَةُ مَقاماتِ الصَّدِّيقِينَ، رَزَقَنا اللَّهُ سُبْحانَهُ الوُصُولَ إلَيْها.
فَإنْ قِيلَ: أفَتَقُولُونَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ يَرْجِعُ إلى ”يُؤْتُونَ“، أوْ يَرْجِعُ إلى كُلِّ ما تَقَدَّمَ مِنَ الخِصالِ؟ قُلْنا: بَلِ الأوْلى أنْ يَرْجِعَ إلى الكُلِّ؛ لِأنَّ العَطِيَّةَ لَيْسَتْ بِذَلِكَ أوْلى مِن سائِرِ الأعْمالِ، إذِ المُرادُ أنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ عَلى وجَلٍ مِن تَقْصِيرِهِ، فَيَكُونُ مُبالِغًا في تَوْفِيَتِهِ حَقَّهُ، فَأمّا إذا قُرِئَ (والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما أتَوْا) فالقَوْلُ فِيهِ أظْهَرُ؛ إذِ المُرادُ بِذَلِكَ: أيُّ شَيْءٍ أتَوْهُ وفَعَلُوهُ مِن تَحَرُّزٍ عَنْ مَعْصِيَةٍ وإقْدامٍ عَلى إيمانٍ وعَمَلٍ، فَإنَّهم يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مَعَ الوَجَلِ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ بَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ الوَجَلِ، وهي عِلْمُهم بِأنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ، أيْ: لِلْمُجازاةِ والمُساءَلَةِ ونَشْرِ الصُّحُفِ وتَتَبُّعِ الأعْمالِ، وأنَّ هُناكَ لا تَنْفَعُ النَّدامَةُ، فَلَيْسَ إلّا الحُكْمُ القاطِعُ مِن جِهَةِ مالِكِ المُلْكِ. ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا ذَكَرَ هَذِهِ الصِّفاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ قالَ بَعْدَهُ: ﴿أُولَئِكَ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ﴾ وفِيهِ وجْهانِ.
أحَدُهُما: أنَّ المُرادَ يَرْغَبُونَ في الطّاعاتِ أشَدَّ الرَّغْبَةِ فَيُبادِرُونَها لِئَلّا تَفُوتَ عَنْ وقْتِها، ولِكَيْلا تَفُوتَهم دُونَ الِاخْتِرامِ.
والثّانِي: أنَّهم يَتَعَجَّلُونَ في الدُّنْيا أنْواعَ النَّفْعِ ووُجُوهَ الإكْرامِ، كَما قالَ: ﴿فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٤٨]. ﴿وآتَيْناهُ أجْرَهُ في الدُّنْيا وإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ﴾ [العَنْكَبُوتِ: ٢٧] لِأنَّهم إذا سُورِعَ لَهم بِها فَقَدْ سارَعُوا في نَيْلِها وتَعَجَّلُوها، وهَذا الوجه أحْسَنُ طِباقًا لِلْآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ؛ لِأنَّ فِيهِ إثْباتَ ما نُفِيَ عَنِ الكُفّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وقُرِئَ ”يُسْرِعُونَ في الخَيْراتِ“.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وهم لَها سابِقُونَ﴾ فالمَعْنى فاعِلُونَ السَّبْقَ لِأجْلِها، أوْ سابِقُونَ النّاسَ لِأجْلِها، أوْ وهم لَها سابِقُونَ؛ أيْ: يَنالُونَها قَبْلَ الآخِرَةِ حَيْثُ عُجِّلَتْ لَهم في الدُّنْيا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. والمَعْنى: وهم لَها، كَما يُقالُ: أنْتَ لَها وهي لَكَ، ثُمَّ قالَ: (سابِقُونَ) أيْ: وهم سابِقُونَ.
{"ayahs_start":57,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ هُم مِّنۡ خَشۡیَةِ رَبِّهِم مُّشۡفِقُونَ","وَٱلَّذِینَ هُم بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ یُؤۡمِنُونَ","وَٱلَّذِینَ هُم بِرَبِّهِمۡ لَا یُشۡرِكُونَ","وَٱلَّذِینَ یُؤۡتُونَ مَاۤ ءَاتَوا۟ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَ ٰجِعُونَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یُسَـٰرِعُونَ فِی ٱلۡخَیۡرَ ٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَـٰبِقُونَ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ یُؤۡتُونَ مَاۤ ءَاتَوا۟ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَ ٰجِعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق