الباحث القرآني

القِصَّةُ الرّابِعَةُ - قِصَّةُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿ثُمَّ أرْسَلْنا مُوسى وأخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ فاسْتَكْبَرُوا وكانُوا قَوْمًا عالِينَ﴾ ﴿فَقالُوا أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ﴾ ﴿فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ المُهْلَكِينَ﴾ ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ لَعَلَّهم يَهْتَدُونَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أرْسَلْنا مُوسى وأخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ فاسْتَكْبَرُوا وكانُوا قَوْمًا عالِينَ﴾ ﴿فَقالُوا أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ﴾ ﴿فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ المُهْلَكِينَ﴾ ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ لَعَلَّهم يَهْتَدُونَ﴾ . (p-٨٩)اخْتَلَفُوا في ”الآياتِ“ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: هي الآياتُ التِّسْعُ؛ وهي العَصا واليَدُ والجَرادُ والقُمَّلُ والضَّفادِعُ والدَّمُ وانْفِلاقُ البَحْرِ، والسُّنُونَ، والنَّقْصُ مِنَ الثَّمَراتِ، وقالَ الحَسَنُ قَوْلُهُ: ﴿بِآياتِنا﴾ أيْ: بِدِينِنا، واحْتَجَّ بِأنَّ المُرادَ بِالآياتِ لَوْ كانَتْ هي المُعْجِزاتِ، والسُّلْطانُ المُبِينُ أيْضًا هو المُعْجِزُ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلى نَفْسِهِ، والأقْرَبُ هو الأوَّلُ؛ لِأنَّ لَفْظَ الآياتِ إذا ذُكِرَ في الرُّسُلِ فالمُرادُ مِنها المُعْجِزاتُ. وأمّا الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فالجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ. أحَدُها: أنَّ المُرادَ بِالسُّلْطانِ المُبِينِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أشْرَفَ مُعْجِزاتِهِ وهو العَصا؛ لِأنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِها مُعْجِزاتٌ شَتّى مِنِ انْقِلابِها حَيَّةً، وتَلَقُّفِها ما أفَكَتْهُ السَّحَرَةُ، وانْفِلاقِ البَحْرِ، وانْفِجارِ العُيُونِ مِنَ الحَجَرِ بِضَرْبِهِ بِها، وكَوْنِها حارِسًا وشَمْعَةً وشَجَرَةً مُثْمِرَةً ودَلْوًا ورِشاءً، فَلِأجْلِ انْفِرادِ العَصا بِهَذِهِ الفَضائِلِ أُفْرِدَتْ بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ: ﴿وجِبْرِيلَ ومِيكالَ﴾ . وثانِيها: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالآياتِ نَفْسُ تِلْكَ المُعْجِزاتِ، وبِالسُّلْطانِ المُبِينِ كَيْفِيَّةُ دَلالَتِها عَلى الصِّدْقِ، وذَلِكَ لِأنَّها وإنْ شارَكَتْ سائِرَ آياتِ الأنْبِياءِ في كَوْنِها آياتٍ فَقَدْ فارَقَتْها في قُوَّةِ دَلالَتِها عَلى قُوَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. وثالِثُها: أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالسُّلْطانِ المُبِينِ اسْتِيلاءَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَيْهِمْ في الِاسْتِدْلالِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ وإثْباتِ النُّبُوَّةِ، وأنَّهُ ما كانَ يُقِيمُ لَهم قَدْرًا ولا وزْنًا. واعْلَمْ أنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ مُعْجِزاتِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَتْ مُعْجِزاتِ هارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ أيْضًا، وأنَّ النُّبُوَّةَ كَما أنَّها مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُما فَكَذَلِكَ المُعْجِزاتُ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ حَكى عَنْ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ صِفَتَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ شُبْهَتَهُمْ، أمّا صِفَتُهم فَأمْرانِ، أحَدُهُما: الِاسْتِكْبارُ والأنَفَةُ. والثّانِي: أنَّهم كانُوا قَوْمًا عالِينَ؛ أيْ: رَفِيعِي الحالِ في أُمُورِ الدُّنْيا، ويَحْتَمِلُ الِاقْتِدارَ بِالكَثْرَةِ والقُوَّةِ، وأمّا شُبْهَتُهم فَهي قَوْلُهُمْ: ﴿أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: لَمْ يَقُلْ (مِثْلَيْنا) كَما قالَ: ﴿إنَّكم إذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النِّساءِ: ١٤٠] ولَمْ يَقُلْ: (أمْثالَهُمْ، ) وقالَ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١١٠] ولَمْ يَقُلْ: أخْيارَ أُمَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ لِأنَّ الإيجازَ أحَبُّ إلى العَرَبِ مِنَ الإكْثارِ، والشُّبْهَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلى أمْرَيْنِ، أحَدُهُما: كَوْنُهُما مِنَ البَشَرِ وقَدْ تَقَدَّمَ الجَوابُ عَنْهُ. والثّانِي: أنَّ قَوْمَ مُوسى وهارُونَ كانُوا كالخَدَمِ والعَبِيدِ لَهُمْ، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: العَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مَن دانَ المَلِكَ: عابِدًا لَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ يَدَّعِي الإلَهِيَّةَ، فادَّعى أنَّ النّاسَ عِبادُهُ، وأنَّ طاعَتَهم لَهُ عِبادَةٌ عَلى الحَقِيقَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهُ لَمّا خَطَرَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ بِبالِهِمْ صَرَّحُوا بِالتَّكْذِيبِ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَكَذَّبُوهُما﴾ . ولَمّا كانَ ذَلِكَ التَّكْذِيبُ كالعِلَّةِ؛ لِكَوْنِهِمْ مِنَ المُهْلَكِينَ لا جَرَمَ رَتَّبَهُ عَلَيْهِ بِفاءِ التَّعْقِيبِ، فَقالَ: وكانُوا مِمَّنْ حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالغَرَقِ، فَإنَّ حُصُولَ الغَرَقِ لَمْ يَكُنْ حاصِلًا عَقِيبَ التَّكْذِيبِ، إنَّما الحاصِلُ عَقِيبَ التَّكْذِيبِ حُكْمُ اللَّهِ تَعالى بِكَوْنِهِمْ كَذَلِكَ في الوَقْتِ اللّائِقِ بِهِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ لَعَلَّهم يَهْتَدُونَ﴾ فَقالَ القاضِي: مَعْناهُ أنَّهُ سُبْحانَهُ خَصَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِالكِتابِ الَّذِي هو التَّوْراةُ لا لِذَلِكَ التَّكْذِيبِ، لَكِنْ لِكَيْ يَهْتَدُوا بِهِ، فَلَمّا أصَرُّوا عَلى الكُفْرِ مَعَ البَيانِ العَظِيمِ اسْتَحَقُّوا أنْ يُهْلَكُوا، واعْتَرَضَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ عَلَيْهِ فَقالَ: لا يَجُوزُ أنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ في (لَعَلَّهُمْ) إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ؛ لِأنَّ التَّوْراةَ إنَّما أُوتِيَها بَنُو إسْرائِيلَ بَعْدَ إغْراقِ فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ مِن بَعْدِ ما أهْلَكْنا القُرُونَ الأُولى﴾ [القَصَصِ: ٤٣] بَلِ المَعْنى الصَّحِيحُ: ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ لَعَلَّهم يَعْمَلُونَ بِشَرائِعِها ومَواعِظِها، فَذَكَرَ مُوسى، والمُرادُ آلَ مُوسى، كَما يُقالُ: هاشِمٌ وثَقِيفٌ، والمُرادُ قَوْمُهُما. (p-٩٠)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب