الباحث القرآني

القِصَّةُ الثّانِيَةُ قِصَّةُ هُودٍ أوْ صالِحٍ عَلَيْهِما السَّلامُ ﴿ثُمَّ أنْشَأْنا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ ﴿فَأرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنهم أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ ﴿وقالَ المَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِلِقاءِ الآخِرَةِ وأتْرَفْناهم في الحَياةِ الدُّنْيا ما هَذا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكم يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنهُ ويَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ﴾ ﴿ولَئِنْ أطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكم إنَّكم إذًا لَخاسِرُونَ﴾ ﴿أيَعِدُكم أنَّكم إذا مِتُّمْ وكُنْتُمْ تُرابًا وعِظامًا أنَّكم مُخْرَجُونَ﴾ ﴿هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ﴾ ﴿إنْ هي إلّا حَياتُنا الدُّنْيا نَمُوتُ ونَحْيا وما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ ﴿إنْ هو إلّا رَجُلٌ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا وما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ﴾ ﴿قالَ عَمّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ﴾ ﴿فَأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالحَقِّ فَجَعَلْناهم غُثاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ﴾(p-٨٥) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أنْشَأْنا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ ﴿فَأرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنهم أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ ﴿وقالَ المَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِلِقاءِ الآخِرَةِ وأتْرَفْناهم في الحَياةِ الدُّنْيا ما هَذا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكم يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنهُ ويَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ﴾ ﴿ولَئِنْ أطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكم إنَّكم إذًا لَخاسِرُونَ﴾ ﴿أيَعِدُكم أنَّكم إذا مِتُّمْ وكُنْتُمْ تُرابًا وعِظامًا أنَّكم مُخْرَجُونَ﴾ ﴿هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ﴾ ﴿إنْ هي إلّا حَياتُنا الدُّنْيا نَمُوتُ ونَحْيا وما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ ﴿إنْ هو إلّا رَجُلٌ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا وما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ﴾ ﴿قالَ عَمّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ﴾ ﴿فَأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالحَقِّ فَجَعَلْناهم غُثاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ هي قِصَّةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وأكْثَرِ المُفَسِّرِينَ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِحِكايَةِ اللَّهِ تَعالى قَوْلَ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ [الأعْرافِ: ٦٩] ومَجِيءُ قِصَّةِ هُودٍ عَقِيبَ قِصَّةِ نُوحٍ في سُورَةِ الأعْرافِ وسُورَةِ هُودٍ والشُّعَراءِ. وقالَ بَعْضُهُمْ: المُرادُ بِهِمْ صالِحٌ وثَمُودُ؛ لِأنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ هُمُ الَّذِينَ هَلَكُوا بِالصَّيْحَةِ، أمّا كَيْفِيَّةُ الدَّعْوى فَكَما تَقَدَّمَ في قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهاهُنا سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: حَقُّ (أرْسَلَ) أنْ يَتَعَدّى بِـ (إلى) كَأخَواتِهِ الَّتِي هي: وجَّهَ وأنْفَذَ وبَعَثَ، فَلِمَ -عُدِّيَ في القُرْآنِ بِـ (إلى) تارَةً وبِـ (فِي) أُخْرى كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ أرْسَلْناكَ في أُمَّةٍ﴾ [الرَّعْدِ: ٣٠] ﴿وما أرْسَلْنا في قَرْيَةٍ﴾ [الأعْرافِ: ٩٤] ﴿فَأرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٣٢] أيْ: في عادٍ، وفي مَوْضِعٍ آخَرَ ﴿وإلى عادٍ أخاهم هُودًا﴾ [الأعْرافِ: ٦٥]؟ الجَوابُ: لَمْ يُعَدَّ بِـ (فِي) كَما عُدِّيَ بِـ (إلى) ولَكِنَّ الأُمَّةَ أوِ القَرْيَةَ جُعِلَتْ مَوْضِعًا لِلْإرْسالِ، وعَلى هَذا المَعْنى جاءَ (بَعَثَ) في قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا﴾ [الفُرْقانِ: ٥١]. السُّؤالُ الثّانِي: هَلْ يَصِحُّ ما قالَهُ بَعْضُهم أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أفَلا تَتَّقُونَ﴾ غَيْرُ مَوْصُولٍ بِالأوَّلِ، وإنَّما قالَهُ لَهم بَعْدَ أنْ كَذَّبُوهُ، ورَدُّوا عَلَيْهِ بَعْدَ إقامَةِ الحجة عَلَيْهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ لَهم مُخَوِّفًا مِمّا هم عَلَيْهِ: ﴿أفَلا تَتَّقُونَ﴾ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مَخافَةَ العَذابِ الَّذِي أنْذَرْتُكم بِهِ؟ الجَوابُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَوْصُولًا بِالكَلامِ الأوَّلِ بِأنْ رَآهم مُعْرِضِينَ عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ مُشْتَغِلِينَ بِعِبادَةِ الأوْثانِ، فَدَعاهم إلى عِبادَةِ اللَّهِ وحَذَّرَهم مِنَ العِقابِ بِسَبَبِ إقْبالِهِمْ عَلى عِبادَةِ الأوْثانِ. ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى حَكى صِفاتِ أُولَئِكَ القَوْمِ وحَكى كَلامَهُمْ، أمّا الصِّفاتُ فَثَلاثٌ هي شَرُّ الصِّفاتِ، أوَّلُها: الكُفْرُ بِالخالِقِ سُبْحانَهُ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿كَفَرُوا﴾ وثانِيها: الكُفْرُ بِيَوْمِ القِيامَةِ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وكَذَّبُوا بِلِقاءِ الآخِرَةِ﴾ وثالِثُها: الِانْغِماسُ في حُبِّ الدُّنْيا وشَهَواتِها، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وأتْرَفْناهم في الحَياةِ الدُّنْيا﴾ أيْ: نَعَّمْناهُمْ، فَإنْ قِيلَ: ذَكَرَ اللَّهُ مَقالَةَ قَوْمِ هُودٍ في جَوابِهِ في سُورَةِ الأعْرافِ وسُورَةِ هُودٍ بِغَيْرِ واوٍ ﴿قالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إنّا لَنَراكَ في سَفاهَةٍ﴾ [الأعْرافِ: ٦٦]، قالُوا: ﴿ما نَراكَ إلّا بَشَرًا مِثْلَنا﴾ [هُودٍ: ٢٧] وهاهُنا مَعَ الواوِ، فَأيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُما؟ قُلْنا: الَّذِي بِغَيْرِ واوٍ عَلى تَقْدِيرِ سُؤالِ سائِلٍ قالَ: فَما قالَ قَوْمُهُ؟ فَقِيلَ لَهُ: كَيْتَ وكَيْتَ، وأمّا الَّذِي مَعَ الواوِ فَعَطْفٌ لِما قالُوهُ عَلى ما قالَهُ، ومَعْناهُ أنَّهُ اجْتَمَعَ في هَذِهِ الواقِعَةِ هَذا الكَلامُ الحَقُّ وهَذا الكَلامُ الباطِلُ. وأمّا شُبُهاتُ القَوْمِ فَشَيْئانِ: أوَّلُهُما: قَوْلُهُمْ: ﴿ما هَذا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكم يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنهُ ويَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ﴾، وقَدْ مَرَّ شَرْحُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ في القِصَّةِ الأُولى. وقَوْلُهُ: ﴿مِمّا تَشْرَبُونَ﴾ أيْ: مِن مَشْرُوبِكم، أوْ حُذِفَ مِنهُ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ وهو قَوْلُهُ: ﴿ولَئِنْ أطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكم إنَّكم إذًا لَخاسِرُونَ﴾ فَجَعَلُوا اتِّباعَ الرَّسُولِ خُسْرانًا، ولَمْ يَجْعَلُوا عِبادَةَ الأصْنامِ خُسْرانًا، أيْ: لَئِنْ كُنْتُمْ أعْطَيْتُمُوهُ الطّاعَةَ مِن غَيْرِ أنْ (p-٨٦)يَكُونَ لَكم بِإزائِها مَنفَعَةٌ فَذَلِكَ هو الخُسْرانُ. وثانِيهِما: أنَّهم طَعَنُوا في صِحَّةِ الحَشْرِ والنَّشْرِ، ثُمَّ طَعَنُوا في نُبُوَّتِهِ بِسَبَبِ إتْيانِهِ بِذَلِكَ. أمّا الطَّعْنُ في صِحَّةِ الحَشْرِ فَهو قَوْلُهُمْ: ﴿أيَعِدُكم أنَّكم إذا مِتُّمْ وكُنْتُمْ تُرابًا وعِظامًا أنَّكم مُخْرَجُونَ﴾ مُعادُونَ أحْياءً لِلْمُجازاةِ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلى هَذا القَدْرِ حَتّى قَرَنُوا بِهِ الِاسْتِبْعادَ العَظِيمَ وهو قَوْلُهُمْ: ﴿هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ﴾ ثُمَّ أكَّدُوا الشُّبْهَةَ بِقَوْلِهِمْ: ﴿إنْ هي إلّا حَياتُنا الدُّنْيا نَمُوتُ ونَحْيا﴾ ولَمْ يُرِيدُوا بِقَوْلِهِمْ (نَمُوتُ ونَحْيا) الشَّخْصَ الواحِدَ، بَلْ أرادُوا أنَّ البَعْضَ يَمُوتُ والبَعْضَ يَحْيا، وأنَّهُ لا إعادَةَ ولا حَشْرَ. فَلِذَلِكَ قالُوا: ﴿وما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ ولَمّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعْنِ في صِحَّةِ الحَشْرِ بَنَوْا عَلَيْهِ الطَّعْنَ في نُبُوَّتِهِ، فَقالُوا: لَمّا أتى بِهَذا الباطِلِ فَقَدَ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا، ثُمَّ لَمّا قَرَّرُوا الشُّبْهَةَ الطّاعِنَةَ في نُبُوَّتِهِ قالُوا: وما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّ القَوْمَ كالتَّبَعِ لَهم. واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى ما أجابَ عَنْ هاتَيْنِ الشُّبْهَتَيْنِ لِظُهُورِ فَسادِهِما. أمّا الشُّبْهَةُ الأُولى: فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ ضَعْفِها. وأمّا الثّانِيَةُ: فَلِأنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا الحَشْرَ، ولا يُسْتَبْعَدُ الحَشْرُ لِوَجْهَيْنِ. الأوَّلُ: أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا كانَ قادِرًا عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ عالِمًا بِكُلِّ المَعْلُوماتِ وجَبَ أنْ يَكُونَ قادِرًا عَلى الحَشْرِ والنَّشْرِ. والثّانِي: وهو أنَّهُ لَوْلا الإعادَةُ لَكانَ تَسْلِيطُ القَوِيِّ عَلى الضَّعِيفِ في الدُّنْيا ظُلْمًا. وهو غَيْرُ لائِقٍ بِالحَكِيمِ، عَلى ما قَرَّرَهُ سُبْحانَهُ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى﴾ [طه: ١٥] وهاهُنا مَسائِلُ: المسألة الأُولى: ثَنّى (إنَّكُمْ) لِلتَّوْكِيدِ، وحَسُنَ ذَلِكَ الفَصْلُ ما بَيْنَ الأوَّلِ والثّانِي بِالظَّرْفِ، و(مُخْرَجُونَ) خَبَرٌ عَنِ الأوَّلِ. وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ”وكُنْتُمْ تُرابًا وعِظامًا مُخْرَجُونَ“. المسألة الثّانِيَةُ: قُرِئَ ”هَيْهاتَ“ بِالفَتْحِ والكَسْرِ، كُلُّها بِتَنْوِينٍ وبِلا تَنْوِينٍ، وبِالسُّكُونِ عَلى لَفْظِ الوَقْفِ. المسألة الثّالِثَةُ: هي في قَوْلِهِ: ﴿إنْ هي إلّا حَياتُنا الدُّنْيا﴾ ضَمِيرٌ لا يُعْلَمُ ما يُعْنى بِهِ إلّا بِما يَتْلُوهُ مِن بَيانِهِ، وأصْلُهُ: إنِ الحَياةُ إلّا حَياتُنا الدُّنْيا، ثُمَّ وضَعَ (هِيَ) مَوْضِعَ الحَياةِ؛ لِأنَّ الخَبَرَ يَدُلُّ عَلَيْهِ ومِنهُ [قُوْلُ الشّاعِرِ]: ؎هِيَ النَّفْسُ ما حَمَّلْتَها تَتَحَمَّلُ والمَعْنى لا حَياةَ إلّا هَذِهِ الحَياةُ، ولِأنَّ ”إنْ“ النّافِيَةَ دَخَلَتْ عَلى (هِيَ) الَّتِي في مَعْنى الحَياةِ الدّالَّةِ عَلى الجِنْسِ فَنَفَتْها، فَوازَنَتْ (لا) الَّتِي نَفَتْ ما بَعْدَها نَفْيَ الجِنْسِ. واعْلَمْ أنَّ ذَلِكَ الرَّسُولَ لَمّا يَئِسَ مِن قَبُولِ الأكابِرِ والأصاغِرِ فَزِعَ إلى رَبِّهِ وقالَ: ﴿رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ﴾ وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، فَأجابَهُ اللَّهُ تَعالى فِيما سَألَ وقالَ: ﴿عَمّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ﴾ والأقْرَبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِأنْ يَظْهَرَ لَهم عَلاماتُ الهَلاكِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ مِنهُمُ الحَسْرَةُ والنَّدامَةُ عَلى تَرْكِ القَبُولِ، ويَكُونُ الوَقْتُ وقْتَ إيمانِ اليَأْسِ فَلا يَنْتَفِعُونَ بِالنَّدامَةِ، وبَيَّنَ تَعالى الهَلاكَ الَّذِي أنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالحَقِّ﴾ وذَكَرُوا في الصَّيْحَةِ وُجُوهًا. أحَدُها: أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ صاحَ بِهِمْ، وكانَتِ الصَّيْحَةُ عَظِيمَةً فَماتُوا عِنْدَها. وثانِيها: الصَّيْحَةُ هي الرَّجْفَةُ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. وثالِثُها: الصَّيْحَةُ هي نَفْسُ العَذابِ والمَوْتِ، كَما يُقالُ فِيمَن يَمُوتُ: دُعِيَ فَأجابَ، عَنِ الحَسَنِ. ورابِعُها: أنَّهُ العَذابُ المُصْطَلِمُ. قالَ الشّاعِرُ: (p-٨٧) ؎صاحَ الزَّمانُ بِآلِ بَرْمَكٍ صَيْحَةً ∗∗∗ خَرُّوا لِشِدَّتِها عَلى الأذْقانِ والأوَّلُ أوْلى لِأنَّهُ هو الحَقِيقَةُ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿بِالحَقِّ﴾ فَمَعْناهُ أنَّهُ دَمَّرَهم بِالعَدْلِ، مِن قَوْلِكَ: فُلانٌ يَقْضِي بِالحَقِّ: إذا كانَ عادِلًا في قَضاياهُ. وقالَ المُفَضَّلُ: بِالحَقِّ؛ أيْ: بِما لا يُدْفَعُ، كَقَوْلِهِ: ﴿وجاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ﴾ [ق: ١٩]. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَجَعَلْناهم غُثاءً﴾ فالغُثاءُ حَمِيلِ السَّيْلِ مِمّا بَلِيَ واسْوَدَّ مِنَ الوَرَقِ والعِيدانِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَجَعَلَهُ غُثاءً أحْوى﴾ [الأعْلى:٥]. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المسألة الأُولى: قَوْلُهُ: بُعْدًا وسُحْقًا ودُمْرًا، ونَحْوُها، مَصادِرُ مَوْضُوعَةٌ مَواضِعَ أفْعالِها، وهي مِن جُمْلَةِ المَصادِرِ الَّتِي قالَ سِيبَوَيْهَ: نُصِبَتْ بِأفْعالٍ لا يُسْتَعْمَلُ إظْهارُها. ومَعْنى بُعْدًا بَعُدُوا، أيْ: هَلَكُوا، يُقالُ: بَعُدَ بُعْدًا وبَعَدًا، بِفَتْحِ العَيْنِ، نَحْوَ رَشَدَ رُشْدًا ورَشَدًا، بِفَتْحِ الشِّينِ. واللَّهُ أعْلَمُ. المسألة الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فَبُعْدًا﴾ بِمَنزِلَةِ اللَّعْنِ الَّذِي هو التَّبْعِيدُ مِنَ الخَيْرِ، واللَّهُ تَعالى ذَكَرَ ذَلِكَ عَلى وجْهِ الِاسْتِخْفافِ والإهانَةِ لَهُمْ، وقَدْ نَزَلَ بِهِمُ العَذابُ دالًّا بِذَلِكَ عَلى أنَّ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِمْ في الآخِرَةِ مِنَ البُعْدِ مِنَ النَّعِيمِ والثَّوابِ أعْظَمُ مِمّا حَلَّ بِهِمْ حالًا؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِبْرَةً لِمَن يَجِيءُ بَعْدَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب