الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ﴾ ﴿قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْألِ العادِّينَ﴾ ﴿قالَ إنْ لَبِثْتُمْ إلّا قَلِيلًا لَوْ أنَّكم كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا وأنَّكم إلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾ ﴿فَتَعالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إلَهَ إلّا هو رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ﴾ اعْلَمْ أنَّ في هَذِهِ الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ في مَصاحِفِ أهْلِ الكُوفَةِ: ”قالَ“ وهو ضَمِيرُ (اللَّهِ) أوِ المَأْمُورِ بِسُؤالِهِمْ مِنَ المَلائِكَةِ، و”قُلْ“ في مَصاحِفِ أهْلِ الحَرَمَيْنِ والبَصْرَةِ والشّامِ، وهو ضَمِيرُ المَلَكِ أوْ بَعْضِ رُؤَساءِ أهْلِ النّارِ. المسألة الثّانِيَةُ: الغَرَضُ مِن هَذا السُّؤالِ التَّبْكِيتُ والتَّوْبِيخُ، فَقَدْ كانُوا يُنْكِرُونَ اللُّبْثَ في الآخِرَةِ أصْلًا ولا يَعُدُّونَ اللُّبْثَ إلّا في دارِ الدُّنْيا، ويَظُنُّونَ أنَّ بَعْدَ المَوْتِ يَدُومُ الفَناءُ ولا إعادَةَ، فَلَمّا حَصَلُوا في النّارِ وأيْقَنُوا أنَّها دائِمَةٌ وهم فِيها مُخَلَّدُونَ سَألَهم ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرْضِ﴾ تَنْبِيهًا لَهم عَلى أنَّ ما ظَنُّوهُ دائِمًا طَوِيلًا فَهو يَسِيرٌ بِالإضافَةِ إلى ما أنْكَرُوهُ، فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ لَهُمُ الحَسْرَةُ عَلى ما كانُوا يَعْتَقِدُونَهُ في الدُّنْيا مِن حَيْثُ أيْقَنُوا خِلافَهُ، فَلَيْسَ الغَرَضُ السُّؤالُ بَلِ الغَرَضُ ما ذَكَرْنا. فَإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ في جَوابِهِمْ أنْ يَقُولُوا: ﴿لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ ولا يَقَعُ مِن أهْلِ النّارِ الكَذِبُ؟ قُلْنا: لَعَلَّهم نَسُوا ذَلِكَ لِكَثْرَةِ ما هم فِيهِ مِنَ الأهْوالِ، وقَدِ اعْتَرَفُوا بِهَذا النِّسْيانِ حَيْثُ قالُوا: ﴿فاسْألِ العادِّينَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أنْساهم ما كانُوا فِيهِ مِنَ العَذابِ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وقِيلَ: مُرادُهم بِقَوْلِهِمْ: ﴿لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ تَصْغِيرُ لُبْثِهِمْ وتَحْقِيرُهُ بِالإضافَةِ إلى ما وقَعُوا فِيهِ وعَرَفُوهُ مِن ألِيمِ العَذابِ. واللَّهُ أعْلَمُ. المسألة الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ السُّؤالَ عَنْ أيِّ لُبْثٍ وقَعَ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: لُبْثُهم: إحْياؤُهم في الدُّنْيا، ويَكُونُ المُرادُ أنَّهم أُمْهِلُوا حَتّى تَمْكَّنُوا مِنَ العِلْمِ والعَمَلِ، فَأجابُوا بِأنَّ قَدْرَ لُبْثِهِمْ كانَ يَسِيرًا بِناءً عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى أعْلَمَهم أنَّ الدُّنْيا مَتاعٌ قَلِيلٌ، وأنَّ الآخِرَةَ هي دارُ القَرارِ، وهَذا القائِلُ احْتَجَّ عَلى قَوْلِهِ بِأنَّهم كانُوا يَزْعُمُونَ أنْ لا حَياةَ سِواها، فَلَمّا أحْياهُمُ اللَّهُ تَعالى في النّارِ وعُذِّبُوا سُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا؛ لِأنَّهُ إلى التَّوْبِيخِ أقْرَبُ، وقالَ آخَرُونَ: بَلِ المُرادُ اللُّبْثُ في حالِ المَوْتِ، واحْتَجُّوا عَلى قَوْلِهِمْ بِأمْرَيْنِ، الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ في الأرْضِ يُفِيدُ الكَوْنَ في القَبْرِ، ومَن كانَ حَيًّا فالأقْرَبُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ عَلى الأرْضِ، وهَذا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ: ﴿ولا تُفْسِدُوا في الأرْضِ﴾ [الأعْرافِ: ٥٦]. الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ﴾ [الرُّومِ: ٥٥] ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهم كَذَبُوا في ذَلِكَ، وأخْبَرَ عَنِ المُؤْمِنِينَ قَوْلَهُمْ: ﴿لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كِتابِ اللَّهِ إلى يَوْمِ البَعْثِ﴾ [الرُّومِ: ٥٦]. (p-١١١) المسألة الرّابِعَةُ: احْتَجَّ مَن أنْكَرَ عَذابَ القَبْرِ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: قَوْلُهُ: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرْضِ﴾ يَتَناوَلُ زَمانَ كَوْنِهِمْ أحْياءً فَوْقَ الأرْضِ، وزَمانَ كَوْنِهِمْ أمْواتًا في بَطْنِ الأرْضِ، فَلَوْ كانُوا مُعَذَّبِينَ في القَبْرِ لَعَلِمُوا أنَّ مُدَّةَ مُكْثِهِمْ في الأرْضِ طَوِيلَةٌ، فَما كانُوا يَقُولُونَ: ﴿لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ. أحَدُهُما: أنَّ الجَوابَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بِحَسَبِ السُّؤالِ، وإنَّما سُئلُوا عَنْ مَوْتٍ لا حَياةَ بَعْدَهُ إلّا في الآخِرَةِ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ عَذابِ القَبْرِ. والثّانِي: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونُوا سُئلُوا عَنْ قَدْرِ اللُّبْثِ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِيهِ، فَلا يَدْخُلُ في ذَلِكَ تَقَدُّمُ مَوْتِ بَعْضِهِمْ عَلى البَعْضِ، فَيَصِحُّ أنْ يَكُونَ جَوابُهم ﴿لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ عِنْدَ أنْفُسِنا. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فاسْألِ العادِّينَ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أحَدُها: المُرادُ بِهِمُ الحَفَظَةُ، وأنَّهم كانُوا يُحْصُونَ الأعْمالَ وأوْقاتَ الحَياةِ، ويَحْسِبُونَ أوْقاتَ مَوْتِهِمْ وتَقَدُّمَ مَن تَقَدَّمَ وتَأخُّرَ مَن تَأخَّرَ، وهو مَعْنى قَوْلِ عِكْرِمَةَ: فاسْألِ العادِّينَ؛ أيْ: الَّذِينَ يَحْسِبُونَ. وثانِيها: فاسْألِ المَلائِكَةَ الَّذِينَ يَعُدُّونَ أيّامَ الدُّنْيا وساعاتِها. وثالِثُها: أنْ يَكُونَ المَعْنى سَلْ مَن يَعْرِفُ عَدَدَ ذَلِكَ فَإنّا قَدْ نَسِيناهُ. ورابِعُها: قُرِئَ ”العادِينَ“ بِالتَّخْفِيفِ؛ أيْ: الظَّلَمَةَ فَإنَّهم يَقُولُونَ مِثْلَ ما قُلْنا. وخامِسُها: قُرِئَ ”العادِيِّينَ“ أيْ: القُدَماءِ المُعَمِّرِينَ، فَإنَّهم يَسْتَقْصِرُونَها فَكَيْفَ بِمَن دُونَهُمْ؟ أمّا قَوْلُهُ: ﴿لَبِثْتُمْ إلّا قَلِيلًا﴾ فالمَعْنى أنَّهم قالُوا: ﴿لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ عَلى مَعْنى أنّا لَبِثْنا في الدُّنْيا قَلِيلًا، فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: صَدَقْتُمْ ما لَبِثْتُمْ فِيها إلّا قَلِيلًا إلّا أنَّها انْقَضَتْ ومَضَتْ، فَظَهَرَ أنَّ الغَرَضَ مِن هَذا السُّؤالِ تَعْرِيفُ قِلَّةِ أيّامِ الدُّنْيا في مُقابَلَةِ أيّامِ الآخِرَةِ. فَأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ أنَّكم كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فَبَيَّنَ في هَذا الوجه أنَّهُ أرادَ أنَّهُ قَلِيلٌ لَوْ عَلِمْتُمُ البَعْثَ والحَشْرَ، لَكِنَّكم لَمّا أنْكَرْتُمْ ذَلِكَ كُنْتُمْ تُعِدُّونَهُ طَوِيلًا. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى ما هو في التَّوْبِيخِ أعْظَمُ بِقَوْلِهِ: ﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا وأنَّكم إلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المسألة الأُولى: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ﴿عَبَثًا﴾ حالٌ؛ أيْ: عابِثِينَ، كَقَوْلِهِ: ﴿لاعِبِينَ﴾ [الأنْبِياءِ: ١٦] أوْ مَفْعُولٌ بِهِ؛ أيْ: ما خَلَقْناكم لِلْعَبَثِ. المسألة الثّانِيَةُ: أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا شَرَحَ صِفاتِ القِيامَةِ خَتَمَ الكَلامَ فِيها بِإقامَةِ الدَّلالَةِ عَلى وُجُودِها، وهي أنَّهُ لَوْلا القِيامَةُ لَما تَمَيَّزَ المُطِيعُ مِنَ العاصِي والصِّدِّيقُ مِنَ الزِّنْدِيقِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ خَلْقُ هَذا العالَمِ عَبَثًا، وأمّا الرُّجُوعُ إلى اللَّهِ تَعالى فالمُرادُ إلى حَيْثُ لا مالِكَ ولا حاكِمَ سِواهُ، لا أنَّهُ رُجُوعٌ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ؛ لِاسْتِحالَةِ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ العَبَثِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَتَعالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ﴾ والمَلِكُ هو المالِكُ لِلْأشْياءِ الَّذِي لا يَبِيدُ ولا يَزُولُ مُلْكُهُ وقُدْرَتُهُ، وأمّا الحَقُّ فَهو الَّذِي يَحِقُّ لَهُ المُلْكُ؛ لِأنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنهُ وإلَيْهِ، وهو الثّابِتُ الَّذِي لا يَزُولُ ولا يَزُولُ مُلْكُهُ، وبَيَّنَ أنَّهُ لا إلَهَ سِواهُ وأنَّ ما عَداهُ فَمَصِيرُهُ إلى الفَناءِ، وما يَفْنى لا يَكُونُ إلَهًا، وبَيَّنَ أنَّهُ تَعالى: ﴿رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ﴾ . قالَ أبُو مُسْلِمٍ: والعَرْشُ هاهُنا السَّماواتُ بِما فِيها مِنَ العَرْشِ الَّذِي تَطُوفُ بِهِ المَلائِكَةُ، ويَجُوزُ أنْ يَعْنِيَ بِهِ المُلْكَ العَظِيمَ، وقالَ الأكْثَرُونَ: المُرادُ هو العَرْشُ حَقِيقَةً، وإنَّما وصَفَهُ بِالكَرِيمِ؛ لِأنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ مِنهُ، والخَيْرُ والبَرَكَةُ، ولِنِسْبَتِهِ إلى أكْرَمَ الأكْرَمِينَ، كَما يُقالُ: بَيْتٌ كَرِيمٌ: إذا كانَ ساكِنُوهُ كِرامًا، وقُرِئَ ”الكَرِيمُ“ بِالرَّفْعِ، ونَحْوُهُ (ذُو العَرْشِ المَجِيدُ).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب