الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنِيرٍ﴾ ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ﴾ (p-١١)﴿سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ في الدُّنْيا خِزْيٌ ونُذِيقُهُ يَوْمَ القِيامَةِ عَذابَ الحَرِيقِ﴾ ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ القِراءَةُ: ”ثانِيَ عِطْفِهِ“ بِكَسْرِ العَيْنِ، الحَسَنُ وحْدَهُ بِفَتْحِ العَيْنِ، ”لِيُضِلَّ“ قُرِئَ بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِها. القِراءَةُ المَعْرُوفَةُ: ”ونُذِيقُهُ“ بِالنُّونِ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ”أُذِيقُهُ“، المَعانِي. * * * فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: اخْتَلَفُوا في أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ﴾ [الحج: ٣] مَن هم ؟ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: الآيَةُ الأُولى وهي قَوْلُهُ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ﴾ وارِدَةٌ في الأتْباعِ المُقَلِّدِينَ وهَذِهِ الآيَةُ وارِدَةٌ في المَتْبُوعِينَ المُقَلِّدِينَ، فَإنَّ كِلا المُجادِلَيْنِ جادَلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وإنْ كانَ أحَدُهُما تَبَعًا والآخَرُ مَتْبُوعًا وبَيَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنِيرٍ﴾ فَإنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لا يُقالُ في المُقَلِّدِ، وإنَّما يُقالُ فِيمَن يُخاصِمُ بِناءً عَلى شُبْهَةٍ، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ ما قُلْتُمْ والمُقَلِّدُ لا يَكُونُ مُجادِلًا ؟ قُلْنا: قَدْ يُجادِلُ تَصْوِيبًا لِتَقْلِيدِهِ وقَدْ يُورِدُ الشُّبْهَةَ الظّاهِرَةَ إذا تَمَكَّنَ مِنها وإنْ كانَ مُعْتَمَدُهُ الأصْلِيُّ هو التَّقْلِيدَ. وثانِيها: أنَّ الآيَةَ الأُولى نَزَلَتْ في النَّضْرِ بْنِ الحارِثِ، وهَذِهِ الآيَةُ في أبِي جَهْلٍ. وثالِثُها: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ أيْضًا في النَّضْرِ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وفائِدَةُ التَّكْرِيرِ المُبالَغَةُ في الذَّمِّ، وأيْضًا ذَكَرَ في الآيَةِ الأُولى اتِّباعَهُ لِلشَّيْطانِ تَقْلِيدًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وفي الثّانِيَةِ مُجادَلَتَهُ في الدِّينِ وإضْلالَهُ غَيْرَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، والوجه الأوَّلُ أقْرَبُ لِما تَقَدَّمَ. المسألة الثّانِيَةُ: الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ الجِدالَ مَعَ العِلْمِ والهُدى والكِتابِ المُنِيرِ حَقٌّ حَسَنٌ عَلى ما مَرَّ تَقْرِيرُهُ. المسألة الثّالِثَةُ: المُرادُ بِالعِلْمِ العِلْمُ الضَّرُورِيُّ، وبِالهُدى الِاسْتِدْلالُ والنَّظَرُ لِأنَّهُ يَهْدِي إلى المَعْرِفَةِ، وبِالكِتابِ المُنِيرِ الوَحْيُ، والمَعْنى أنَّهُ يُجادِلُ مِن غَيْرِ مُقَدِّمَةٍ ضَرُورِيَّةٍ ولا نَظَرِيَّةٍ ولا سَمْعِيَّةٍ وهو كَقَوْلِهِ: ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وما لَيْسَ لَهم بِهِ عِلْمٌ﴾ [الحج: ٧١] وقَوْلِهِ: ﴿اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِن قَبْلِ هَذا﴾ [الأحقاف: ٤] أمّا قَوْلُهُ: ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فاعْلَمْ أنَّ ثَنْيَ العِطْفِ عِبارَةٌ عَنِ الكِبْرِ والخُيَلاءِ كَتَصْعِيرِ الخَدِّ ولَيِّ الجِيدِ، وقَوْلُهُ: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فَأمّا القِراءَةُ بِضَمِّ الياءِ فَدَلالَةٌ عَلى أنَّ هَذا المُجادِلَ فَعَلَ الجِدالَ وأظْهَرَ التَّكَبُّرَ لِكَيْ يَتَّبِعَهُ غَيْرُهُ فَيُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ فَجَمَعَ بَيْنَ الضَّلالِ والكُفْرِ وإضْلالِ الغَيْرِ. وأمّا القِراءَةُ بِفَتْحِ الياءِ فالمَعْنى أنَّهُ لَمّا أدّى جِدالُهُ إلى الضَّلالِ جُعِلَ كَأنَّهُ غَرَضُهُ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى شَرَحَ حالَهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. أمّا في الدُّنْيا فَيَوْمُ بَدْرٍ، رُوِّينا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّها نَزَلَتْ في النَّضْرِ بْنِ الحارِثِ وأنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وأمّا الَّذِينَ لَمْ يُخَصِّصُوا هَذِهِ الآيَةَ بِواحِدٍ مُعَيَّنٍ قالُوا: المُرادُ بِالخِزْيِ في الدُّنْيا ما أُمِرَ المُؤْمِنُونَ بِذَمِّهِ ولَعْنِهِ ومُجاهَدَتِهِ، وأمّا في الآخِرَةِ فَقَوْلُهُ: ﴿ونُذِيقُهُ يَوْمَ القِيامَةِ عَذابَ الحَرِيقِ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ هَذا الخِزْيَ المُعَجَّلَ وذَلِكَ العِقابَ المُؤَجَّلَ لِأجْلِ ما قَدَّمَتْ يَداهُ، قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى مَطالِبَ: الأوَّلُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ إنَّما وقَعَ في ذَلِكَ العِقابِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ وفِعْلِهِ فَلَوْ كانَ فِعْلُهُ خَلْقًا لِلَّهِ تَعالى لَكانَ حِينَما خَلَقَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى اسْتَحالَ مِنهُ أنْ يَنْفَكَّ عَنْهُ، وحِينَما لا يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعالى اسْتَحالَ مِنهُ أنْ (p-١٢)يَتَّصِفَ بِهِ، فَلا يَكُونُ ذَلِكَ العِقابُ بِسَبَبِ فِعْلِهِ فَإذا عاقَبَهُ عَلَيْهِ كانَ ذَلِكَ مَحْضَ الظُّلْمِ وذَلِكَ عَلى خِلافِ النَّصِّ. الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما لَمْ يَكُنْ ظالِمًا بِفِعْلِ ذَلِكَ العَذابِ لِأجْلِ أنَّ المُكَلَّفَ فَعَلَ فِعْلًا اسْتَحَقَّ بِهِ ذَلِكَ العِقابَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَوْ عاقَبَهُ لا بِسَبَبِ فِعْلٍ يَصْدُرُ مِن جِهَتِهِ لَكانَ ظالِمًا، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ تَعْذِيبُ الأطْفالِ بِكُفْرِ آبائِهِمْ. الثّالِثُ: أنَّهُ سُبْحانَهُ تَمَدَّحَ بِأنَّهُ لا يَفْعَلُ الظُّلْمَ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ قادِرًا عَلَيْهِ خِلافَ ما يَقُولُهُ النَّظّامُ، وأنْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنهُ خِلافَ ما يَقُولُهُ أهْلُ السُّنَّةِ. الرّابِعُ: وهو أنْ لا يَجُوزَ الِاسْتِدْلالُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ تَعالى لا يَظْلِمُ؛ لِأنَّ عِنْدَهم صِحَّةَ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ مَوْقُوفَةٌ عَلى نَفْيِ الظُّلْمِ، فَلَوْ أثْبَتْنا ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ لَزِمَ الدَّوْرُ، والجَوابُ عَنِ الكُلِّ: المُعارَضَةُ بِالعِلْمِ والدّاعِي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب