الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ﴾ ﴿ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا بَيَّنَ مِن قَبْلُ أنَّهم يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا حُجَّةَ لَهم فِيهِ ولا عِلْمَ، ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى إبْطالِ قَوْلِهِمْ. (p-٦٠)أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ضُرِبَ مَثَلٌ﴾ فَفِيهِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: الَّذِي جاءَ بِهِ لَيْسَ بِمَثَلٍ فَكَيْفَ سَمّاهُ مَثَلًا ؟ والجَوابُ: لَمّا كانَ المَثَلُ في الأكْثَرِ نُكْتَةً عَجِيبَةً غَرِيبَةً جازَ أنْ يُسَمّى كُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ مَثَلًا. السُّؤالُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿ضُرِبَ﴾ يُفِيدُ فِيما مَضى واللَّهُ تَعالى هو المُتَكَلِّمُ بِهَذا الكَلامِ ابْتِداءً ؟ الجَوابُ: إذا كانَ ما يُورِدُ مِنَ الوَصْفِ مَعْلُومًا مِن قَبْلُ جازَ ذَلِكَ فِيهِ، ويَكُونُ ذِكْرُهُ بِمَنزِلَةِ إعادَةِ أمْرٍ قَدْ تَقَدَّمَ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ أيْ تَدَبَّرُوهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ؛ لِأنَّ نَفْسَ السَّماعِ لا يَنْفَعُ، وإنَّما يَنْفَعُ التَّدَبُّرُ. واعْلَمْ أنَّ الذُّبابَ لَمّا كانَ في غايَةِ الضَّعْفِ احْتَجَّ اللَّهُ تَعالى بِهِ عَلى إبْطالِ قَوْلِهِمْ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ قُرِئَ ”يَدْعُونَ“ بِالياءِ والتّاءِ، ويُدْعَوْنَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ”ولَنْ“ أصْلٌ في نَفْيِ المُسْتَقْبَلِ إلّا أنَّهُ يَنْفِيهِ نَفْيًا مُؤَكَّدًا، فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: إنَّ هَذِهِ الأصْنامَ وإنِ اجْتَمَعَتْ لَنْ تَقْدِرَ عَلى خَلْقِ ذُبابَةٍ عَلى ضَعْفِها، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالعاقِلِ جَعْلُها مَعْبُودًا، فَقَوْلُهُ: ﴿ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ نُصِبَ عَلى الحالِ كَأنَّهُ قالَ: يَسْتَحِيلُ أنْ يَخْلُقُوا الذُّبابَ حالَ اجْتِماعِهِمْ فَكَيْفَ حالُ انْفِرادِهِمْ ؟ والثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنهُ﴾ كَأنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: أتْرُكُ أمْرَ الخَلْقِ والإيجادِ وأتَكَلَّمُ فِيما هو أسْهَلُ مِنهُ، فَإنَّ الذُّبابَ إنْ سَلَبَ مِنها شَيْئًا، فَهي لا تَقْدِرُ عَلى اسْتِنْقاذِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الذُّبابِ، واعْلَمْ أنَّ الدَّلالَةَ الأُولى صالِحَةٌ لِأنْ يُتَمَسَّكَ بِها في نَفْيِ كَوْنِ المَسِيحِ والمَلائِكَةِ آلِهَةً، أمّا الثّانِيَةُ فَلا، فَإنْ قِيلَ: هَذا الِاسْتِدْلالُ إمّا أنْ يَكُونَ لِنَفْيِ كَوْنِ الأوْثانِ خالِقَةً عالِمَةً حَيَّةً مُدَبِّرَةً، أوْ لِنَفْيِ كَوْنِها مُسْتَحِقَّةً لِلتَّعْظِيمِ، والأوَّلُ فاسِدٌ؛ لِأنَّ نَفْيَ كَوْنِها كَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَأيُّ فائِدَةٍ في إقامَةِ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ ؟ وأمّا الثّانِي: فَهَذِهِ الدَّلالَةُ لا تُفِيدُهُ؛ لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن نَفْيِ كَوْنِها حَيَّةً أنْ لا تَكُونَ مُعَظَّمَةً، فَإنَّ جِهاتِ التَّعْظِيمِ مُخْتَلِفَةٌ، فالقَوْمُ كانُوا يَعْتَقِدُونَ فِيها أنَّها طَلْسَماتٌ مَوْضُوعَةٌ عَلى صُورَةِ الكَواكِبِ، أوْ أنَّها تَماثِيلُ المَلائِكَةِ والأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ، وكانُوا يُعَظِّمُونَها عَلى أنَّ تَعْظِيمَها يُوجِبُ تَعْظِيمَ المَلائِكَةِ وأُولَئِكَ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ. والجَوابُ: أمّا كَوْنُها طَلْسَماتٍ مَوْضُوعَةً عَلى الكَواكِبِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ مِنها الإضْرارُ والِانْتِفاعُ، فَهو يَبْطُلُ بِهَذِهِ الدَّلالَةِ، فَإنَّها لَمّا لَمْ تَنْفَعْ نَفْسَها في هَذا القَدْرِ وهو تَخْلِيصُ النَّفْسِ عَنِ الذُّبابَةِ فَلِأنْ لا تَنْفَعَ غَيْرَها أوْلى، وأمّا أنَّها تَماثِيلُ المَلائِكَةِ والأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ، فَقَدْ تَقَرَّرَ في العَقْلِ أنَّ تَعْظِيمَ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ أقَلَّ مِن تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعالى، والقَوْمُ كانُوا يُعَظِّمُونَها غايَةَ التَّعْظِيمِ، وحِينَئِذٍ كانَ يَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَها وبَيْنَ الخالِقِ سُبْحانَهُ في التَّعْظِيمِ، فَمِن هاهُنا صارُوا مُسْتَوْجِبِينَ لِلذَّمِّ والمَلامِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: المُرادُ مِنهُ الصَّنَمُ والذُّبابُ فالصَّنَمُ كالطّالِبِ مِن حَيْثُ إنَّهُ لَوْ طَلَبَ أنْ يَخْلُقَهُ ويَسْتَنْقِذَ مِنهُ ما اسْتَلَبَهُ لَعَجَزَ عَنْهُ والذُّبابُ بِمَنزِلَةِ المَطْلُوبِ. الثّانِي: أنَّ الطّالِبَ مَن عَبَدَ الصَّنَمَ، والمَطْلُوبَ نَفْسُ الصَّنَمِ أوْ عِبادَتُها. وهَذا أقْرَبُ؛ لِأنَّ كَوْنَ الصَّنَمِ طالِبًا لَيْسَ حَقِيقَةً بَلْ هو عَلى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ، أمّا هاهُنا فَعَلى سَبِيلِ التَّحْقِيقِ لَكِنَّ المَجازَ فِيهِ حاصِلٌ؛ لِأنَّ الوَثَنَ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ ضَعِيفًا؛ لِأنَّ الضَّعْفَ لا يَجُوزُ إلّا عَلى مَن يَصِحُّ أنْ يَقْوى، وهاهُنا وجْهٌ ثالِثٌ: وهو أنْ يَكُونَ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ضَعُفَ﴾ لا مِن حَيْثُ القُوَّةِ ولَكِنْ لِظُهُورِ قُبْحِ هَذا المَذْهَبِ، كَما يُقالُ لِلْمَرْءِ عِنْدَ المُناظَرَةِ: ما أضْعَفَ هَذا المَذْهَبَ وما أضْعَفَ هَذا الوجه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب