الباحث القرآني

(p-٥٨)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في السَّماءِ والأرْضِ إنَّ ذَلِكَ في كِتابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وما لَيْسَ لَهم بِهِ عِلْمٌ وما لِلظّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ﴾ ﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا المُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أفَأُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن ذَلِكُمُ النّارُ وعَدَها اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وبِئْسَ المَصِيرُ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ مِن قَبْلُ: ﴿اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكم يَوْمَ القِيامَةِ﴾ أتْبَعَهُ بِما بِهِ يُعْلَمُ أنَّهُ سُبْحانَهُ عالِمٌ بِما يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ أحَدٍ مِنهم، فَيَقَعُ الحُكْمُ مِنهُ بَيْنَهم بِالعَدْلِ لا بِالجَوْرِ فَقالَ لِرَسُولِهِ: ﴿ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في السَّماءِ والأرْضِ﴾ وهاهُنا مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿ألَمْ تَعْلَمْ﴾ هو عَلى لَفْظِ الِاسْتِفْهامِ لَكِنَّ مَعْناهُ تَقْوِيَةُ قَلْبِ الرَّسُولِ ﷺ والوَعْدُ لَهُ وإيعادُ الكافِرِينَ بِأنَّ كُلَّ فِعْلِهِمْ مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ لا يَضِلُّ عَنْهُ ولا يَنْسى. المسألة الثّانِيَةُ: الخِطابُ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ والمُرادُ سائِرُ العِبادِ ولِأنَّ الرِّسالَةَ لا تَثْبُتُ إلّا بَعْدَ العِلْمِ بِكَوْنِهِ تَعالى عالِمًا بِكُلِّ المَعْلُوماتِ إذْ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لَجازَ أنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الكاذِبُ بِالصّادِقِ، فَحِينَئِذٍ لا يَكُونُ إظْهارُ المُعْجِزِ دَلِيلًا عَلى الصِّدْقِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ اسْتَحالَ أنْ لا يَكُونَ الرَّسُولُ عالِمًا بِذَلِكَ. فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ أنْ يَكُونَ خِطابًا مَعَ الغَيْرِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنَّ ذَلِكَ في كِتابٍ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ أنَّ مَعْنى الكِتابِ الحِفْظُ والضَّبْطُ والشَّدُّ يُقالُ: كَتَبْتُ المَزادَةَ أكْتُبُها إذا خَرَزْتُها فَحَفِظْتُ بِذَلِكَ ما فِيها، ومَعْناهُ ومَعْنى الكِتابِ بَيْنَ النّاسِ: حِفْظُ ما يَتَعامَلُونَ بِهِ، فالمُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّ ذَلِكَ في كِتابٍ﴾ أنَّهُ مَحْفُوظٌ عِنْدَهُ. والتّالِي: وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ أنَّ كُلَّ ما يُحْدِثُهُ اللَّهُ في السَّماواتِ والأرْضِ فَقَدْ كَتَبَهُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، قالُوا: وهَذا أوْلى؛ لِأنَّ القَوْلَ الأوَّلَ وإنْ كانَ صَحِيحًا نَظَرًا إلى الِاشْتِقاقِ لَكِنَّ الواجِبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى المُتَعارَفِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الكِتابَ هو ما تُكْتَبُ فِيهِ الأُمُورُ فَكانَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ أوْلى. فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ يُوهِمُ ذَلِكَ أنَّ عِلْمَهُ مُسْتَفادٌ مِنَ الكِتابِ وأيْضًا فَأيُّ فائِدَةٍ في ذَلِكَ الكِتابِ ؟ والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ كَتْبَهُ تِلْكَ الأشْياءَ في ذَلِكَ الكِتابِ مَعَ كَوْنِها مُطابِقَةً لِلْمَوْجُوداتِ مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ غَنِيٌّ في عِلْمِهِ عَنْ ذَلِكَ الكِتابِ وعَنِ الثّانِي: أنَّ المَلائِكَةَ يَنْظُرُونَ فِيهِ ثُمَّ يَرَوْنَ الحَوادِثَ داخِلَةً في الوُجُودِ عَلى وفْقِهِ فَصارَ ذَلِكَ دَلِيلًا لَهم زائِدًا عَلى كَوْنِهِ سُبْحانَهُ عالِمًا بِكُلِّ المَعْلُوماتِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنَّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ فَمَعْناهُ أنَّ كَتْبَهُ جُمْلَةَ الحَوادِثِ مَعَ أنَّها مِنَ الغَيْبِ مِمّا يَتَعَذَّرُ عَلى الخَلْقِ لَكِنَّها بِحَيْثُ مَتى أرادَها اللَّهُ تَعالى كانَتْ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأنَّهُ يَسِيرٌ، وإنْ كانَ هَذا الوَصْفُ لا يُسْتَعْمَلُ إلّا فِينا مِن حَيْثُ تَسْهُلُ وتَصْعُبُ عَلَيْنا الأُمُورُ، وتَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ ما يُقْدِمُ الكُفّارُ عَلَيْهِ مَعَ عَظِيمِ نِعَمِهِ، ووُضُوحِ دَلائِلِهِ. فَقالَ: ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وما لَيْسَ لَهم بِهِ عِلْمٌ﴾ فَبَيَّنَ أنَّ عِبادَتَهم لِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى لَيْسَتْ مَأْخُوذَةً عَنْ دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا﴾ ولا عَنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وما لَيْسَ لَهم بِهِ عِلْمٌ﴾ وإذا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهو عَنْ تَقْلِيدٍ أوْ جَهْلٍ أوْ شُبْهَةٍ، فَوَجَبَ في كُلِّ قَوْلٍ - هَذا شَأْنُهُ - أنْ يَكُونَ باطِلًا، فَمِن هَذا الوجه يَدُلُّ عَلى أنَّ الكافِرَ قَدْ يَكُونُ كافِرًا، وإنْ لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ كافِرًا، ويَدُلُّ أيْضًا عَلى فَسادِ التَّقْلِيدِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وما لِلظّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهم لَيْسَ لَهم أحَدٌ يَنْتَصِرُ لَهم مِنَ اللَّهِ كَما (p-٥٩)قَدْ تَتَّفِقُ النُّصْرَةُ في الدُّنْيا. والثّانِي: ما لَهم في كُفْرِهِمْ ناصِرٌ بِالحجة، فَإنَّ الحجة لَيْسَتْ إلّا لِلْحَقِّ، واحْتَجَّتِ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ في نَفْيِ الشَّفاعَةِ، والكَلامُ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ﴾ يَعْنِي مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وهَذِهِ الآياتُ هي القُرْآنُ، ووَصَفَها بِأنَّها بَيِّناتٌ لِكَوْنِها مُتَضَمِّنَةً لِلدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ وبَيانِ الأحْكامِ، فَبَيَّنَ أنَّهم مَعَ جَهْلِهِمْ إذا نُبِّهُوا عَلى الأدِلَّةِ وعُرِضَتْ عَلَيْهِمُ المُعْجِزَةُ ظَهَرَ في وُجُوهِهِمُ المُنْكَرُ، والمُرادُ دَلالَةُ الغَيْظِ والغَضَبِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: المُنْكَرُ الفَظِيعُ مِنَ التَّهَجُّمِ والفُجُورِ والنُّشُوزِ والإنْكارِ، كالمُكْرَمِ بِمَعْنى الإكْرامِ وقُرِئَ ”تُعْرَفُ“ عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، ولِلْمُفَسِّرِينَ في المُنْكَرِ عِباراتٌ: أحَدُها: قالَ الكَلْبِيُّ: تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمُ الكَراهِيَةَ لِلْقُرْآنِ. ثانِيها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: التَّجَبُّرَ والتَّرَفُّعَ. وثالِثُها: قالَ مُقاتِلٌ: أنْكَرُوا أنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَعالى. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَكادُونَ يَسْطُونَ﴾ فَقالَ الخَلِيلُ والفَرّاءُ والزَّجّاجُ: السَّطْوُ شِدَّةُ البَطْشِ والوُثُوبِ، والمَعْنى يَهُمُّونَ بِالبَطْشِ والوُثُوبِ تَعْظِيمًا لِإنْكارِ ما خُوطِبُوا بِهِ، فَحَكى تَعالى عَظِيمَ تَمَرُّدِهِمْ عَلى الأنْبِياءِ والمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أمَرَ رَسُولَهُ بِأنْ يُقابِلَهم بِالوَعِيدِ فَقالَ: ﴿قُلْ أفَأُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن ذَلِكُمُ النّارُ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قَوْلُهُ: ﴿مِن ذَلِكُمُ﴾ أيْ مِن غَيْظِكم عَلى النّاسِ وسَطْوِكم عَلَيْهِمْ أوْ مِمّا أصابَكم مِنَ الكَراهَةِ والضَّجَرِ بِسَبَبِ ما تُلِيَ عَلَيْكم، فَقَوْلُهُ: (﴿مِن ذَلِكُمُ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: المُرادُ أنَّ الَّذِي يَنالُكم مِنَ النّارِ الَّتِي تَكادُونَ تَقْتَحِمُونَها بِسُوءِ فِعالِكم أعْظَمُ مِمّا يَنالُكم عِنْدَ تِلاوَةِ هَذِهِ الآياتِ مِنَ الغَضَبِ ومِن هَذا الغَمِّ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ ﴿بِشَرٍّ مِن ذَلِكُمُ﴾ ما تَهُمُّونَ بِهِ فِيمَن يُحاجُّكم، فَإنَّ أكْبَرَ ما يُمْكِنُكم فِيهِ الإهْلاكُ ثُمَّ بَعْدَهُ مَصِيرُهم إلى الجَنَّةِ وأنْتُمْ تَصِيرُونَ إلى النّارِ الدّائِمَةِ الَّتِي لا فَرَجَ لَكم عَنْها، وأمّا ﴿النّارُ﴾ فَقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ ”النّارُ“ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَأنَّ قائِلًا يَقُولُ: ما شَرٌّ مِن ذَلِكَ ؟ فَقِيلَ: النّارُ. أيْ هو النّارُ. وبِالنَّصْبِ عَلى الِاخْتِصاصِ، وبِالجَرِّ عَلى البَدَلِ مِن شَرٍّ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهُ وعَدَها الَّذِينَ كَفَرُوا إذا ماتُوا عَلى كُفْرِهِمْ وهو بِئْسَ المَصِيرُ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ﴿وعَدَها اللَّهُ﴾ اسْتِئْنافُ كَلامٍ ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ النّارُ مُبْتَدَأً و﴿وعَدَها﴾ خَبَرًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب