الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وإنَّ اللَّهَ لَهو خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ ﴿لَيُدْخِلَنَّهم مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وإنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ ﴿ذَلِكَ ومَن عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ ويُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ وأنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ وأنَّ ما يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هو الباطِلُ وأنَّ اللَّهَ هو العَلِيُّ الكَبِيرُ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنَّ المُلْكَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ وأنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهم ويُدْخِلُ المُؤْمِنِينَ الجَنّاتِ، أتْبَعَهُ بِذِكْرِ وعْدِهِ الكَرِيمِ لِلْمُهاجِرِينَ، وأفْرَدَهم بِالذِّكْرِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِمْ، فَقالَ عَزَّ مِن قائِلٍ: ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا﴾ واخْتَلَفُوا فِيمَن أُرِيدَ بِذَلِكَ، فَقالَ بَعْضُهم: مَن هاجَرَ إلى المَدِينَةِ طالِبًا لِنُصْرَةِ الرَّسُولِ ﷺ وتَقَرُّبًا إلى اللَّهِ تَعالى. وقالَ آخَرُونَ: بَلِ المُرادُ مَن جاهَدَ فَخَرَجَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ أوْ في سَراياهُ لِنُصْرَةِ الدِّينِ، ولِذَلِكَ ذَكَرَ القَتْلَ بَعْدَهُ. ومِنهم مَن حَمَلَهُ عَلى الأمْرَيْنِ. واخْتَلَفُوا مِن وجْهٍ آخَرَ فَقالَ قَوْمٌ: المُرادُ قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ، رَوى مُجاهِدٌ أنَّها نَزَلَتْ في طَوائِفَ خَرَجُوا مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ لِلْهِجْرَةِ فَتَبِعَهُمُ المُشْرِكُونَ فَقاتَلُوهم، وظاهِرُ الكَلامِ لِلْعُمُومِ. ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى وصَفَهم بِرِزْقِهِمْ ومَسْكَنِهِمْ. أمّا الرِّزْقُ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وإنَّ اللَّهَ لَهو خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: لا شُبْهَةَ في أنَّ الرِّزْقَ الحَسَنَ هو نَعِيمُ الجَنَّةِ، وقالَ الأصَمُّ: إنَّهُ العِلْمُ والفَهْمُ كَقَوْلِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿ورَزَقَنِي مِنهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾ [هود: ٨٨] فَهَذا في الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ الجَنَّةُ، وقالَ الكَلْبِيُّ: رِزْقًا حَسَنًا حَلالًا وهو الغَنِيمَةُ. وهَذانَ الوَجْهانِ ضَعِيفانِ؛ لِأنَّهُ تَعالى جَعَلَهُ جَزاءً عَلى هِجْرَتِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ بَعْدَ القَتْلِ والمَوْتِ وبَعْدَهُما لا يَكُونُ إلّا نَعِيمُ الجَنَّةِ. * * * (p-٥١)المسألة الثّانِيَةُ: لا بُدَّ مِن شَرْطِ اجْتِنابِ الكَبائِرِ في كُلِّ وعْدٍ في القُرْآنِ؛ لِأنَّ هَذا المُهاجِرَ لَوِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً لَكانَ حُكْمُهُ في المَشِيئَةِ عَلى قَوْلِنا، ولَخَرَجَ عَنْ أنْ يَكُونَ أهْلًا لِلْجَنَّةِ قَطْعًا عَلى قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ. فَإنْ قِيلَ: فَما فَضْلُهُ عَلى سائِرِ المُؤْمِنِينَ في الوَعْدِ إنْ كانَ كَما قُلْتُمْ ؟ قُلْنا: فَضْلُهم يَظْهَرُ لِأنَّ ثَوابَهم أعْظَمُ وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿لا يَسْتَوِي مِنكم مَن أنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقاتَلَ﴾ [الحديد: ١٠] فَمَعْلُومٌ أنَّ مَن هاجَرَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ وفارَقَ دِيارَهُ وأهْلَهُ لِتَقْوِيَتِهِ ونُصْرَةِ دِينِهِ مَعَ شِدَّةِ قُوَّةِ الكُفّارِ وظُهُورِ صَوْلَتِهِمْ صارَ فِعْلُهُ كالسَّبَبِ لِقُوَّةِ الدِّينِ، وعَلى هَذا الوجه عَظُمَ مَحَلُّ الأنْصارِ حَتّى صارَ ذِكْرُهم والثَّناءُ عَلَيْهِمْ تالِيًا لِذِكْرِ المُهاجِرِينَ لَمّا آوَوْهُ ونَصَرُوهُ. * * * المسألة الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وإنَّ اللَّهَ لَهو خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ مَعَ العِلْمِ بِأنَّ كُلَّ الرِّزْقِ مِن عِنْدِهِ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: التَّفاوُتُ إنَّما كانَ بِسَبَبِ أنَّهُ سُبْحانَهُ مُخْتَصٌّ بِأنْ يَرْزُقَ ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وثانِيها: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ الأصْلُ في الرِّزْقِ، وغَيْرُهُ إنَّما يَرْزُقُ بِما تَقَدَّمَ مِنَ الرِّزْقِ مِن جِهَةِ اللَّهِ تَعالى. وثالِثُها: أنَّ غَيْرَهُ يَنْقُلُ الرِّزْقَ مِن يَدِهِ إلى يَدِ غَيْرِهِ لا أنَّهُ يَفْعَلُ نَفْسَ الرِّزْقِ. ورابِعُها: أنَّ غَيْرَهُ إذا رَزَقَ فَإنَّما يَرْزُقُ لِانْتِفاعِهِ بِهِ، إمّا لِأجْلِ أنْ يَخْرُجَ عَنِ الواجِبِ، وإمّا لِأجْلِ أنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ حَمْدًا أوْ ثَناءً، وإمّا لِأجْلِ دَفْعِ الرِّقَّةِ الجِنْسِيَّةِ. فَكانَ الواحِدُ مِنّا إذا رَزَقَ فَقَدْ طَلَبَ العِوَضَ، أمّا الحَقُّ سُبْحانَهُ فَإنَّ كَمالَهُ صِفَةٌ ذاتِيَّةٌ لَهُ، فَلا يَسْتَفِيدُ مِن شَيْءٍ كَمالًا زائِدًا، فَكانَ الرِّزْقُ الصّادِرُ مِنهُ لِمَحْضِ الإحْسانِ. وخامِسُها: أنَّ غَيْرَهُ إنَّما يَرْزُقُ لَوْ حَصَلَ في قَلْبِهِ إرادَةُ ذَلِكَ الفِعْلِ، وتِلْكَ الإرادَةُ مِنَ اللَّهِ، فالرّازِقُ في الحَقِيقَةِ هو اللَّهُ تَعالى. وسادِسُها: أنَّ المَرْزُوقَ يَكُونُ تَحْتَ مِنَّةِ الرّازِقِ، ومِنَّةُ اللَّهِ تَعالى أسْهَلُ تَحَمُّلًا مِن مِنَّةِ الغَيْرِ، فَكانَ هو: ﴿خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ . وسابِعُها: أنَّ الغَيْرَ إذا رُزِقَ فَلَوْلا أنَّ اللَّهَ تَعالى أعْطى ذَلِكَ الإنْسانَ أنْواعَ الحَواسِّ وأعْطاهُ السَّلامَةَ والصِّحَّةَ والقُدْرَةَ عَلى الِانْتِفاعِ بِذَلِكَ الرِّزْقِ لَما أمْكَنَهُ الِانْتِفاعُ بِهِ، ورِزْقُ الغَيْرِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِرِزْقِ اللَّهِ ومَلْحُوقًا بِهِ حَتّى يَحْصُلَ الِانْتِفاعُ. وأمّا رِزْقُ اللَّهِ تَعالى فَإنَّهُ لا حاجَةَ بِهِ إلى رِزْقِ غَيْرِهِ، فَثَبَتَ أنَّهُ سُبْحانَهُ ﴿خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ . * * * المسألة الرّابِعَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أُمُورٍ ثَلاثَةٍ: أحَدُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى قادِرٌ. وثانِيها: أنَّ غَيْرَ اللَّهِ يَصِحُّ مِنهُ أنْ يَرْزُقَ ويَمْلِكَ، ولَوْلا كَوْنُهُ قادِرًا فاعِلًا لَما صَحَّ ذَلِكَ. وثالِثُها: أنَّ الرِّزْقَ لا يَكُونُ إلّا حَلالًا؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾ دَلالَةٌ عَلى كَوْنِهِمْ مَمْدُوحِينَ، والجَوابُ: لا نِزاعَ في كَوْنِ العَبْدِ قادِرًا، فَإنَّ عِنْدَنا القُدْرَةَ مَعَ الدّاعِي مُؤَثِّرَةٌ في الفِعْلِ بِمَعْنى الِاسْتِلْزامِ. وأمّا الثّالِثُ فَبَحْثٌ لَفْظِيٌّ وقَدْ سَبَقَ الكَلامُ فِيهِ. المسألة الخامِسَةُ: لَمّا قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ قُتِلُوا أوْ ماتُوا﴾ فَسَوّى بَيْنَهُما في الوَعْدِ، ظَنَّ قَوْمٌ أنَّ حالَ المَقْتُولِ في الجِهادِ والمَيِّتِ عَلى فِراشِهِ سَواءٌ، وهَذا إنْ أخَذُوهُ مِنَ الظّاهِرِ فَلا دَلالَةَ فِيهِ؛ لِأنَّ الجَمْعَ بَيْنَهُما في الوَعْدِ لا يَدُلُّ عَلى تَفْضِيلٍ ولا تَسْوِيَةٍ، كَما أنَّ الجَمْعَ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ لا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ. وإنْ أخَذُوهُ مِن دَلِيلٍ آخَرَ فَهو حَقٌّ، فَإنَّهُ رَوى أنَسٌ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «المَقْتُولُ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى، والمُتَوَفّى في سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ قَتْلٍ، هُما في الخَيْرِ والأجْرِ شَرِيكانِ» ولَفْظُ الشَّرِكَةِ مُشْعِرٌ بِالتَّسْوِيَةِ، وإلّا فَلا يَبْقى لِتَخْصِيصِهِما بِالذِّكْرِ فائِدَةٌ. ورُوِيَ أيْضًا: «أنَّ طَوائِفَ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا قَدْ عَلِمْنا ما أعْطاهُمُ اللَّهُ مِنَ الخَيْرِ، ونَحْنُ نُجاهِدُ مَعَكَ كَما جاهَدُوا، فَما لَنا إنْ مِتْنا مَعَكَ ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ» . وهَذا يَدُلُّ عَلى التَّسْوِيَةِ؛ لِأنَّهم لَمّا طَلَبُوا مِقْدارَ الأجْرِ، فَلَوْلا التَّسْوِيَةُ لَمْ يَكُنِ الجَوابُ مُفِيدًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب