الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ ومَن يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهو خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعامُ إلّا ما يُتْلى عَلَيْكم فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثانِ واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ ﴿حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ في مَكانٍ سَحِيقٍ﴾ ﴿ذَلِكَ ومَن يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإنَّها مِن تَقْوى القُلُوبِ﴾ . قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ ”ذَلِكَ“ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيِ الأمْرُ والشَّأْنُ ذَلِكَ، كَما يُقَدِّمُ الكاتِبُ جُمْلَةً مِن كَلامِهِ في بَعْضِ المَعانِي، فَإذا أرادَ الخَوْضَ في مَعْنًى آخَرَ قالَ: هَذا وقَدْ كانَ كَذا، والحُرْمَةُ ما لا يَحِلُّ هَتْكُهُ، وجَمِيعُ ما كَلَّفَهُ اللَّهُ تَعالى بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِن مَناسِكِ الحَجِّ وغَيْرِها يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عامًّا في جَمِيعِ تَكالِيفِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خاصًّا فِيما يَتَعَلَّقُ بِالحَجِّ، وعَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ: الحُرُماتُ خَمْسٌ: الكَعْبَةُ الحَرامُ والمَسْجِدُ الحَرامُ والبَلَدُ الحَرامُ والشَّهْرُ الحَرامُ والمَشْعَرُ الحَرامُ، وقالَ المُتَكَلِّمُونَ: ولا تَدْخُلُ النَّوافِلُ في حُرُماتِ اللَّهِ تَعالى: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ أيْ فالتَّعْظِيمُ خَيْرٌ لَهُ لِلْعِلْمِ بِأنَّهُ يَجِبُ القِيامُ بِمُراعاتِها وحِفْظِها، وقَوْلُهُ: ﴿عِنْدَ رَبِّهِ﴾ يَدُلُّ عَلى الثَّوابِ المُدَّخَرِ؛ لِأنَّهُ لا يُقالُ عِنْدَ رَبِّهِ فِيما قَدْ حَصَلَ مِنَ الخَيْراتِ، قالَ الأصَمُّ: فَهو خَيْرٌ لَهُ مِنَ التَّهاوُنِ بِذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عادَ إلى بَيانِ حُكْمِ الحَجِّ فَقالَ: ﴿وأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعامُ﴾ فَقَدْ كانَ يَجُوزُ أنْ يُظَنَّ أنَّ الإحْرامَ إذا حَرَّمَ الصَّيْدَ وغَيْرَهُ فالأنْعامُ أيْضًا تُحَرَّمُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّ الإحْرامَ لا يُؤَثِّرُ فِيها فَهي مُحَلَّلَةٌ، واسْتَثْنى مِنهُ ما يُتْلى في كِتابِ اللَّهِ مِنَ المُحَرَّماتِ مِنَ النَّعَمِ وهو المَذْكُورُ في سُورَةِ المائِدَةِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ١] وقَوْلُهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١]، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا حَثَّ عَلى تَعْظِيمِ حُرُماتِهِ وحَمِدَ مَن يُعَظِّمُها أتْبَعَهُ بِالأمْرِ بِاجْتِنابِ الأوْثانِ وقَوْلِ الزُّورِ؛ لِأنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ تَعالى وصِدْقَ القَوْلِ أعْظَمُ الخَيْراتِ، وإنَّما جَمَعَ الشِّرْكَ وقَوْلَ الزُّورِ في سِلْكٍ واحِدٍ لِأنَّ الشِّرْكَ مِن بابِ الزُّورِ، لِأنَّ المُشْرِكَ زاعِمٌ أنَّ الوَثَنَ تَحِقُّ لَهُ العِبادَةُ فَكَأنَّهُ قالَ: فاجْتَنِبُوا عِبادَةَ الأوْثانِ الَّتِي هي رَأْسُ الزُّورِ، واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ كُلَّهُ، ولا تَقْرَبُوا مِنهُ شَيْئًا لِتَمادِيهِ في القُبْحِ والسَّماجَةِ، وما ظَنُّكَ بِشَيْءٍ مِن قَبِيلِهِ عِبادَةُ الأوْثانِ ؟ وسَمّى الأوْثانَ رِجْسًا لا لِلنَّجاسَةِ، لَكِنْ لِأنَّ وُجُوبَ تَجَنُّبِها أوْكَدُ مِن وُجُوبِ تَجَنُّبِ الرِّجْسِ، ولِأنَّ عِبادَتَها أعْظَمُ مِنَ التَّلَوُّثِ بِالنَّجاساتِ. ثم قال الأصَمُّ: إنَّما وصَفَها بِذَلِكَ لِأنَّ عادَتَهم في المُتَقَرَّباتِ أنْ يَتَعَمَّدُوا سُقُوطَ الدِّماءِ عَلَيْها، وهَذا بَعِيدٌ، وقِيلَ: إنَّهُ إنَّما وصَفَها بِذَلِكَ اسْتِحْقارًا واسْتِخْفافًا وهَذا أقْرَبُ، وقَوْلُهُ: ﴿مِنَ الأوْثانِ﴾ بَيانٌ لِلرِّجْسِ وتَمْيِيزٌ لَهُ كَقَوْلِهِ: عِنْدِي عِشْرُونَ مِنَ الدَّراهِمِ، لِأنَّ الرِّجْسَ لِما فِيهِ مِنَ الإيهامِ يَتَناوَلُ كُلَّ شَيْءٍ، فَكَأنَّهُ قالَ: فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هو الأوْثانُ، ولَيْسَ المُرادُ أنَّ بَعْضَها لَيْسَ كَذَلِكَ، والزُّورُ مِنَ الزُّورِ والِازْوِرارِ وهو الِانْحِرافُ، كَما أنَّ الإفْكَ مِن أفِكَهُ إذا صَرَفَهُ، والمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا في قَوْلِ (p-٢٩)الزُّورِ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّهُ قَوْلُهم: هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ وما أشْبَهَ ذَلِكَ مِنِ افْتِرائِهِمْ، وثانِيها: شَهادَةُ الزُّورِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أنَّهُ صَلّى الصُّبْحَ فَلَمّا سَلَّمَ قامَ قائِمًا واسْتَقْبَلَ النّاسَ بِوَجْهِهِ، وقالَ: عَدَلَتْ شَهادَةُ الزُّورِ الإشْراكَ بِاللَّهِ، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ»، وثالِثُها: الكَذِبُ والبُهْتانُ. ورابِعُها: قَوْلُ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ في تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ إلّا شَرِيكٌ هو لَكَ تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حُنَفاءَ لِلَّهِ﴾ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ تَفْسِيرِ ذَلِكَ وأنَّهُ الِاسْتِقامَةُ عَلى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، والمَيْلُ إلى الحَقِّ عَلى قَوْلِ البَعْضِ، والمُرادُ في هَذا المَوْضِعِ ما قِيلَ مِن أنَّهُ الإخْلاصُ، فَكَأنَّهُ قالَ: تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الأُمُورِ الَّتِي أمَرْتُ ونَهَيْتُ عَلى وجْهِ العِبادَةِ لِلَّهِ وحْدَهُ لا عَلى وجْهِ إشْراكِ غَيْرِ اللَّهِ بِهِ. ولِذَلِكَ قالَ: غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الواجِبَ عَلى المُكَلَّفِ أنْ يَنْوِيَ بِما يَأْتِيهِ مِنَ العِبادَةِ الإخْلاصَ، فَبَيَّنَ تَعالى مَثَلَيْنِ لِلْكُفْرِ لا مَزِيدَ عَلَيْهِما في بَيانِ أنَّ الكافِرَ ضارٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُنْتَفِعٍ بِها. وهو قَوْلُهُ: ﴿ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ في مَكانٍ سَحِيقٍ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: إنْ كانَ هَذا تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا، فَكَأنَّهُ قِيلَ: مَن أشْرَكَ بِاللَّهِ فَقَدْ أهْلَكَ نَفْسَهُ إهْلاكًا لَيْسَ وراءَهُ هَلاكٌ، بِأنْ صَوَّرَ حالَهُ بِصُورَةِ حالِ مَن خَرَّ مِنَ السَّماءِ فاخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ، فَتَفَرَّقَتْ أجْزاؤُهُ في حَواصِلِها أوْ عَصَفَتْ بِهِ الرِّيحُ حَتّى هَوَتْ بِهِ في بَعْضِ المَهالِكِ البَعِيدَةِ. وإنْ كانَ تَشْبِيهًا مُفَرَّقًا فَقَدْ شَبَّهَ الإيمانَ في عُلُوِّهِ بِالسَّماءِ، والَّذِي تَرَكَ الإيمانَ وأشْرَكَ بِاللَّهِ كالسّاقِطِ مِنَ السَّماءِ، والأهْواءَ الَّتِي تَتَوَزَّعُ أفْكارُهُ بِالطَّيْرِ المُخْتَطِفَةِ، والشَّيْطانَ الَّذِي يَطْرَحُهُ في وادِي الضَّلالَةِ بِالرِّيحِ الَّتِي تَهْوِي بِما عَصَفَتْ بِهِ في بَعْضِ المَهاوِي المُخْتَلِفَةِ. وقُرِئَ بِكَسْرِ الخاءِ والطّاءِ وبِكَسْرِ الفاءِ مَعَ كَسْرِهِما، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، وأصْلُها تَخْتَطِفُهُ، وقُرِئَ ”الرِّياحُ“، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ أكَّدَ ما تَقَدَّمَ فَقالَ ذَلِكَ: ومَن يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ. واخْتَلَفُوا فَقالَ بَعْضُهم: يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ عِبادَةٍ. وقالَ بَعْضُهم: بَلِ المَناسِكُ في الحَجِّ. وقالَ بَعْضُهم: بَلِ المُرادُ الهَدْيُ خاصَّةً، والأصْلُ في الشَّعائِرِ الأعْلامُ الَّتِي بِها يُعْرَفُ الشَّيْءُ، فَإذا فَسَّرْنا الشَّعائِرَ بِالهَدايا فَتَعْظِيمُها عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَخْتارَها عِظامَ الأجْسامِ حِسانًا جِسامًا سِمانًا غالِيَةَ الأثْمانِ ويَتْرُكَ المِكاسَ في شِرائِها، فَقَدْ كانُوا يَتَغالَوْنَ في ثَلاثَةٍ ويَكْرَهُونَ المِكاسَ فِيهِنَّ: الهَدْيِ والأُضْحِيَةِ والرَّقَبَةِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عَنْ أبِيهِ: «أنَّهُ أهْدى نَجِيبَةً طُلِبَتْ مِنهُ بِثَلاثِمِائَةِ دِينارٍ، فَسَألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنْ يَبِيعَها ويَشْتَرِيَ بِثَمَنِها بُدْنًا فَنَهاهُ عَنْ ذَلِكَ، وقالَ بَلْ أهْدِها»، «وأهْدى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِيها جَمَلٌ لِأبِي جَهْلٍ في أنْفِهِ بُرَةٌ مِن ذَهَبٍ» والوجه الثّانِي: في تَعْظِيمِ شَعائِرِ اللَّهِ تَعالى أنْ يَعْتَقِدَ أنَّ طاعَةَ اللَّهِ تَعالى في التَّقَرُّبِ بِها وإهْدائِها إلى بَيْتِهِ المُعَظَّمِ أمْرٌ عَظِيمٌ لا بُدَّ وأنْ يُحْتَفَلَ بِهِ ويُتَسارَعَ فِيهِ: ﴿فَإنَّها مِن تَقْوى القُلُوبِ﴾ أيْ فَإنَّ تَعْظِيمَها مِن أفْعالِ ذَوِي تَقْوى القُلُوبِ فَحُذِفَتْ هَذِهِ المُضافاتُ، ولا يَسْتَقِيمُ المَعْنى إلّا بِتَقْدِيرِها؛ لِأنَّهُ لا بُدَّ مِن راجِعٍ مِنَ الجَزاءِ إلى مَنِ ارْتَبَطَ بِهِ، وإنَّما ذُكِرَتِ القُلُوبُ لِأنَّ المُنافِقَ قَدْ يُظْهِرُ التَّقْوى مِن نَفْسِهِ، ولَكِنْ لَمّا كانَ قَلْبُهُ خالِيًا عَنْها لا جَرَمَ لا يَكُونُ مُجِدًّا في أداءِ الطّاعاتِ، أمّا المُخْلِصُ الَّذِي تَكُونُ التَّقْوى مُتَمَكِّنَةً في قَلْبِهِ فَإنَّهُ يُبالِغُ في أداءِ الطّاعاتِ عَلى سَبِيلِ الإخْلاصِ، فَإنْ قالَ قائِلٌ: ما الحِكْمَةُ في أنَّ اللَّهَ تَعالى بالَغَ في تَعْظِيمِ ذَبْحِ الحَيَواناتِ هَذِهِ المُبالَغَةَ ؟ فالجَوابُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب