الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإنْ أصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأنَّ بِهِ وإنْ أصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا والآخِرَةَ ذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ﴾ ﴿يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هو الضَّلالُ البَعِيدُ﴾ ﴿يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ لَبِئْسَ المَوْلى ولَبِئْسَ العَشِيرُ﴾
القِراءَةُ: قُرِئَ ”خاسِرُ الدُّنْيا والآخِرَةِ“ بِالنَّصْبِ والرَّفْعِ، فالنَّصْبُ عَلى الحالِ والرَّفْعُ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وفي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ: ”مَن ضَرُّهُ“ بِغَيْرِ لامٍ، واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ حالَ المُظْهِرِينَ لِلشِّرْكِ المُجادِلِينَ فِيهِ عَلى ما ذَكَرْنا عَقِبَهُ بِذِكْرِ المُنافِقِينَ فَقالَ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ﴾ وفي تَفْسِيرِ الحَرْفِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: ما قالَهُ الحَسَنُ، وهو أنَّ المَرْءَ في بابِ الدِّينِ مُعْتَمَدُهُ القَلْبُ واللِّسانُ فَهُما حَرْفا الدِّينِ، فَإذا وافَقَ أحَدُهُما الآخَرَ فَقَدْ تَكامَلَ في الدِّينِ وإذا أظْهَرَ بِلِسانِهِ الدِّينَ لِبَعْضِ الأغْراضِ وفي قَلْبِهِ النِّفاقُ جازَ أنْ يُقالَ فِيهِ عَلى وجْهِ الذَّمِّ: يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ.
الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿عَلى حَرْفٍ﴾ أيْ عَلى طَرَفٍ مِنَ الدِّينِ لا في وسَطِهِ وقَلْبِهِ، وهَذا مَثَلٌ لِكَوْنِهِمْ عَلى قَلَقٍ واضْطِرابٍ في دِينِهِمْ لا عَلى سُكُونِ طُمَأْنِينَةٍ كالَّذِي يَكُونُ عَلى طَرَفٍ مِنَ العَسْكَرِ فَإنْ أحَسَّ بِغَنِيمَةٍ قَرَّ واطْمَأنَّ وإلّا فَرَّ وطارَ عَلى وجْهِهِ. وهَذا هو المُرادُ ﴿فَإنْ أصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأنَّ بِهِ وإنْ أصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وجْهِهِ﴾ لِأنَّ الثَّباتَ في الدِّينِ إنَّما يَكُونُ لَوْ كانَ الغَرَضُ مِنهُ إصابَةَ الحَقِّ وطاعَةَ اللَّهِ والخَوْفَ مِن عِقابِهِ، فَأمّا إذا كانَ غَرَضُهُ الخَيْرَ المُعَجَّلَ فَإنَّهُ يُظْهِرُ الدِّينَ عِنْدَ السَّرّاءِ ويَرْجِعُ عَنْهُ عِنْدَ الضَّرّاءِ فَلا يَكُونُ إلّا مُنافِقًا مَذْمُومًا وهو مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [النساء: ١٤٣] وكَقَوْلِهِ: (p-١٣)﴿فَإنْ كانَ لَكم فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ [النساء: ١٤١] .
المسألة الثّانِيَةُ: قالَ الكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أعْرابٍ كانُوا يَقْدَمُونَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ بِالمَدِينَةِ مُهاجِرِينَ مِن بادِيَتِهِمْ، فَكانَ أحَدُهم إذا صَحَّ بِها جِسْمُهُ ونَتَجَتْ فَرَسُهُ مُهْرًا حَسَنًا ووَلَدَتِ امْرَأتُهُ غُلامًا وكَثُرَ مالُهُ وماشِيَتُهُ رَضِيَ بِهِ واطْمَأنَّ إلَيْهِ، وإنْ أصابَهُ وجَعٌ ووَلَدَتِ امْرَأتُهُ جارِيَةً أوْ أُجْهِضَتْ رَماكُهُ وذَهَبَ مالُهُ وتَأخَّرَتْ عَنْهُ الصَّدَقَةُ أتاهُ الشَّيْطانُ وقالَ لَهُ: ما جاءَتْكَ هَذِهِ الشُّرُورُ إلّا بِسَبَبِ هَذا الدِّينِ فَيَنْقَلِبُ عَنْ دِينِهِ. وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والحَسَنِ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ. وثانِيها: وهو قَوْلُ الضَّحّاكِ نَزَلَتْ في المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهم، مِنهم عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ والأقْرَعُ بْنُ حابِسٍ والعَبّاسُ بْنُ مِرْداسٍ، قالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: نَدْخُلُ في دِينِ مُحَمَّدٍ فَإنْ أصَبْنا خَيْرًا عَرَفْنا أنَّهُ حَقٌّ، وإنْ أصَبْنا غَيْرَ ذَلِكَ عَرَفْنا أنَّهُ باطِلٌ. وثالِثُها: قالَ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: «أسْلَمَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ فَذَهَبَ بَصَرُهُ ومالُهُ ووَلَدُهُ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أقِلْنِي فَإنِّي لَمْ أُصِبْ مِن دِينِي هَذا خَيْرًا، ذَهَبَ بَصَرِي ووَلَدِي ومالِي. فَقالَ ﷺ: إنَّ الإسْلامَ لا يُقالُ، إنَّ الإسْلامَ لَيَسْبِكُ كَما تَسْبِكُ النّارُ خَبَثَ الحَدِيدِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وإنْ أصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وجْهِهِ﴾ فَفِيهِ سُؤالاتٌ: الأوَّلُ: كَيْفَ قالَ: ﴿وإنْ أصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وجْهِهِ﴾ والخَيْرُ أيْضًا فِتْنَةٌ لِأنَّهُ امْتِحانٌ، وقالَ تَعالى: ﴿ونَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً﴾، والجَوابُ: مِثْلُ هَذا كَثِيرٌ في اللُّغَةِ لِأنَّ النِّعْمَةَ بَلاءٌ وابْتِلاءٌ لِقَوْلِهِ: ﴿فَأمّا الإنْسانُ إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ﴾ [الفجر: ١٥] ولَكِنْ إنَّما يُطْلَقُ اسْمُ البَلاءِ عَلى ما يَثْقُلُ عَلى الطَّبْعِ، والمُنافِقُ لَيْسَ عِنْدَهُ الخَيْرُ إلّا الخَيْرُ الدُّنْيَوِيُّ، ولَيْسَ عِنْدَهُ الشَّرُّ إلّا الشَّرُّ الدُّنْيَوِيُّ، لِأنَّهُ لا دِينَ لَهُ. فَلِذَلِكَ ورَدَتِ الآيَةُ عَلى ما يَعْتَقِدُونَهُ، وإنْ كانَ الخَيْرُ كُلُّهُ فِتْنَةً، لَكِنَّ أكْثَرَ ما يُسْتَعْمَلُ فِيما يَشْتَدُّ ويَثْقُ.
السُّؤالُ الثّانِي: إذا كانَتِ الآيَةُ في المُنافِقِ فَما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿انْقَلَبَ عَلى وجْهِهِ﴾ وهو في الحَقِيقَةِ لَمْ يُسْلِمْ حَتّى يَنْقَلِبَ ويَرْتَدَّ ؟ والجَوابُ: المُرادُ أنَّهُ أظْهَرَ بِلِسانِهِ خِلافَ ما كانَ أظْهَرَهُ فَصارَ يَذُمُّ الدِّينَ عِنْدَ الشِّدَّةِ وكانَ مِن قَبْلُ يَمْدَحُهُ وذَلِكَ انْقِلابٌ في الحَقِيقَةِ.
السُّؤالُ الثّالِثُ: قالَ مُقاتِلٌ: الخَيْرُ هو ضِدُّ الشَّرِّ، فَلَمّا قالَ: ﴿فَإنْ أصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأنَّ بِهِ﴾ كانَ يَجِبُ أنْ يَقُولَ: وإنْ أصابَهُ شَرٌّ انْقَلَبَ عَلى وجْهِهِ. الجَوابُ: لَمّا كانَتِ الشِّدَّةُ لَيْسَتْ بِقَبِيحَةٍ لَمْ يَقُلْ تَعالى: وإنْ أصابَهُ شَرٌّ بَلْ وصَفَهُ بِما لا يُفِيدُ فِيهِ القُبْحَ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَسِرَ الدُّنْيا والآخِرَةَ﴾ فَذَلِكَ لِأنَّهُ يَخْسَرُ في الدُّنْيا العِزَّةَ والكَرامَةَ وإصابَةَ الغَنِيمَةِ وأهْلِيَّةَ الشَّهادَةِ والإمامَةِ والقَضاءِ ولا يَبْقى مالُهُ ودَمُهُ مَصُونًا، وأمّا في الآخِرَةِ فَيَفُوتُهُ الثَّوابُ الدّائِمُ ويَحْصُلُ لَهُ العِقابُ الدّائِمُ: ﴿ذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ﴾ .
أمّا قَوْلُهُ: ﴿يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ﴾ فالأقْرَبُ أنَّهُ المُشْرِكُ الَّذِي يَعْبُدُ الأوْثانَ وهَذا كالدَّلالَةِ عَلى أنَّ الآيَةَ لَمْ تَرِدْ في اليَهُودِيِّ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ الأصْنامَ، والأقْرَبُ أنَّها وارِدَةٌ في المُشْرِكِينَ الَّذِينَ انْقَطَعُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى وجْهِ النِّفاقِ، وبَيَّنَ تَعالى أنَّ: ﴿ذَلِكَ هو الضَّلالُ البَعِيدُ﴾، وأرادَ بِهِ عِظَمَ ضَلالِهِمْ وكُفْرِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعْنِيَ بِذَلِكَ بُعْدَ ضَلالِهِمْ عَنِ الصَّوابِ لِأنَّ جَمِيعَهُ وإنْ كانَ (p-١٤)يَشْتَرِكُ في أنَّهُ خَطَأٌ فَبَعْضُهُ أبْعَدُ مِنَ الحَقِّ مِنَ البَعْضِ، واسْتُعِيرَ الضَّلالُ البَعِيدُ مِن ضَلالِ مَن أُبْعِدَ مِنَ التِّيهِ ضالًّا وطالَتْ وبَعُدَتْ مَسافَةُ ضَلالِهِ.
{"ayahs_start":11,"ayahs":["وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفࣲۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَیۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةَۚ ذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِینُ","یَدۡعُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَضُرُّهُۥ وَمَا لَا یَنفَعُهُۥۚ ذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَـٰلُ ٱلۡبَعِیدُ"],"ayah":"وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفࣲۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَیۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةَۚ ذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِینُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق