الباحث القرآني
[ القِصَّةُ السّابِعَةُ ]
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإسْماعِيلَ وإدْرِيسَ وذا الكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ ﴿وأدْخَلْناهم في رَحْمَتِنا إنَّهم مِنَ الصّالِحِينَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ صَبْرَ أيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ وانْقِطاعَهُ إلَيْهِ أتْبَعَهُ بِذِكْرِ هَؤُلاءِ، فَإنَّهم كانُوا أيْضًا مِنَ الصّابِرِينَ عَلى الشَّدائِدِ والمِحَنِ والعِبادَةِ، أمّا إسْماعِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَلِأنَّهُ صَبَرَ عَلى الِانْقِيادِ لِلذَّبْحِ، وصَبَرَ عَلى المُقامِ بِبَلَدٍ لا زَرْعَ فِيهِ ولا ضَرْعَ ولا بِناءَ، وصَبَرَ في بِناءِ البَيْتِ، فَلا جَرَمَ أكْرَمَهُ اللَّهُ تَعالى وأخْرَجَ مِن صُلْبِهِ خاتَمَ النَّبِيِّينَ، وأمّا إدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ في سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَيْها السَّلامُ.
قالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: «بَعَثَ إلى قَوْمِهِ داعِيًا لَهم إلى اللَّهِ تَعالى، فَأبَوْا فَأهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعالى ورَفَعَ إدْرِيسَ إلى السَّماءِ الرّابِعَةِ» وأمّا ذُو الكِفْلِ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: فِيها بَحْثانِ:
الأوَّلُ: قالَ الزَّجّاجُ: الكِفْلُ في اللُّغَةِ الكِساءُ الَّذِي يُجْعَلُ عَلى عَجُزِ البَعِيرِ، والكِفْلُ أيْضًا النَّصِيبُ واخْتَلَفُوا في أنَّهُ لِمَ سُمِّيَ بِهَذا الِاسْمِ عَلى وُجُوهٍ:
أحَدُها: وهو قَوْلُ المُحَقِّقِينَ أنَّهُ كانَ لَهُ ضِعْفُ عَمَلِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ في زَمانِهِ وضِعْفُ ثَوابِهِمْ.
وثانِيها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - في رِوايَةٍ: ”إنَّ نَبِيًّا مِن أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ آتاهُ اللَّهُ المُلْكَ والنُّبُوَّةَ، ثُمَّ أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ إنِّي أُرِيدُ قَبْضَ رُوحِكَ، فاعْرِضْ مُلْكَكَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، فَمَن تَكَفَّلَ لَكَ أنَّهُ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ حَتّى يُصْبِحَ ويَصُومُ بِالنَّهارِ فَلا يُفْطِرُ، ويَقْضِي بَيْنَ النّاسِ فَلا يَغْضَبُ فادْفَعْ مُلْكَكَ إلَيْهِ، فَقامَ ذَلِكَ النَّبِيُّ في بَنِي إسْرائِيلَ وأخْبَرَهم بِذَلِكَ، فَقامَ شابٌّ وقالَ: أنا أتَكَفَّلُ لَكَ بِهَذا؛ فَقالَ في القَوْمِ: مَن هو أكْبَرُ مِنكَ فاقْعُدْ، ثُمَّ صاحَ الثّانِيَةَ والثّالِثَةَ فَقامَ الرَّجُلُ، وقالَ: أتَكَفَّلُ لَكَ بِهَذِهِ الثَّلاثِ، فَدَفَعَ إلَيْهِ مُلْكَهُ، ووَفى بِما ضَمِنَ. فَحَسَدَهُ إبْلِيسُ؛ فَأتاهُ وقْتَ ما يُرِيدُ أنْ يُقِيلَ، فَقالَ: إنَّ لِي غَرِيمًا قَدْ مَطَلَنِي (p-١٨٣)حَقِّي وقَدْ دَعَوْتُهُ إلَيْكَ فَأبى فَأرْسِلْ مَعِيَ مَن يَأْتِيكَ بِهِ، فَأرْسَلَ مَعَهُ وقَعَدَ حَتّى فاتَتْهُ القَيْلُولَةُ ودَعا إلى صِلاتِهِ وصَلّى لَيْلَهُ إلى الصَّباحِ، ثُمَّ أتاهُ مِنَ الغَدِ عِنْدَ القَيْلُولَةِ فَقالَ: إنَّ الرَّجُلَ الَّذِي اسْتَأْذَنْتُكَ لَهُ في مَوْضِعِ كَذا فَلا تَبْرَحْ حَتّى آتِيَكَ بِهِ، فَذَهَبَ وبَقِيَ مُنْتَظَرًا حَتّى فاتَتْهُ القَيْلُولَةُ، ثُمَّ أتاهُ فَقالَ لَهُ: هَرَبَ مِنِّي فَمَضى ذُو الكِفْلِ إلى صِلاتِهِ فَصَلّى لَيْلَتَهُ حَتّى أصْبَحَ، فَأتاهُ إبْلِيسُ وعَرَّفَهُ نَفْسَهُ، وقالَ لَهُ: حَسَدْتُكَ عَلى عِصْمَةِ اللَّهِ إيّاكَ فَأرَدْتُ أنْ أُخْرِجَكَ حَتّى لا تَفِيَ بِما تَكَفَّلْتَ بِهِ، فَشَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى ذَلِكَ ونَبَّأهُ، فَسُمِّيَ“ ذا الكِفْلِ "، وعَلى هَذا فالمُرادُ بِالكِفْلِ هُنا الكَفالَةُ.
وثالِثُها: قالَ مُجاهِدٌ: لَمّا كَبِرَ اليَسَعُ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ: لَوْ أنِّي اسْتَخْلَفْتُ رَجُلًا عَلى النّاسِ في حَياتِي حَتّى أنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُ، فَجَمَعَ النّاسَ وقالَ: مَن يَتَقَبَّلُ مِنِّي، حَتّى اسْتَخْلَفَهُ ثَلاثًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ويَصُومُ بِالنَّهارِ ويَقْضِي فَلا يَغْضَبُ، وذَكَرَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ نَحْوَ ما ذَكَرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِن فِعْلِ إبْلِيسَ وتَفْوِيتِهِ عَلَيْهِ القَيْلُولَةَ ثَلاثَةَ أيّامٍ، وزادَ أنَّ ذا الكِفْلِ قالَ لِلْبَوّابِ في اليَوْمِ الثّالِثِ: قَدْ غَلَبَ عَلَيَّ النُّعاسُ فَلا تَدَعَنَّ أحَدًا يَقْرَبُ هَذا البابَ حَتّى أنامَ، فَإنِّي قَدْ شَقَّ عَلَيَّ النُّعاسُ، فَجاءَ إبْلِيسُ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ البَوّابُ، فَدَخَلَ مِن كُوَّةٍ في البَيْتِ وتَسَوَّرَ فِيها، فَإذا هو يَدُقُّ البابُ مِن داخِلٍ، فاسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ وعاتَبَ البَوّابَ، فَقالَ: أمّا مِن قِبَلِي فَلَمْ تُؤْتَ، فَقامَ إلى البابِ فَإذا هو مُغْلَقٌ وإبْلِيسُ عَلى صُورَةِ شَيْخٍ مَعَهُ في البَيْتِ، فَقالَ لَهُ: أتَنامُ والخُصُومُ عَلى البابِ ؟ فَعَرَفَهُ فَقالَ: أنْتَ إبْلِيسُ، قالَ: نَعَمْ، أعْيَيْتَنِي في كُلِّ شَيْءٍ فَفَعَلْتُ هَذِهِ الأفْعالَ لِأُغْضِبَكَ فَعَصَمَكَ اللَّهُ مِنِّي، فَسُمِّيَ ذا الكِفْلِ؛ لِأنَّهُ قَدْ وفّى بِما تَكَفَّلَ بِهِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ومُجاهِدٌ: ذُو الكِفْلِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، ولَكِنْ كانَ عَبْدًا صالِحًا، وقالَ الحَسَنُ والأكْثَرُونَ: إنَّهُ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وهَذا أوْلى لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ ذا الكِفْلِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لَقَبًا وأنْ يَكُونَ اسْمًا، والأقْرَبُ أنْ يَكُونَ مُفِيدًا؛ لِأنَّ الِاسْمَ إذا أمْكَنَ حَمْلُهُ عَلى ما يُفِيدُ فَهو أوْلى مِنَ اللَّقَبِ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: الكِفْلُ هو النَّصِيبُ، والظّاهِرُ أنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما سَمّاهُ بِذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الكِفْلُ هو كِفْلُ الثَّوابِ، فَهو إنَّما سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأنَّ عَمَلَهُ وثَوابَ عَمَلِهِ كانَ ضِعْفَ عَمَلِ غَيْرِهِ وضِعْفَ ثَوابِ غَيْرِهِ، ولَقَدْ كانَ في زَمَنِهِ أنْبِياءُ عَلى ما رُوِيَ، ومَن لَيْسَ بِنَبِيٍّ لا يَكُونُ أفْضَلَ مِنَ الأنْبِياءِ.
وثانِيها: أنَّهُ تَعالى قَرَنَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِ إسْماعِيلَ وإدْرِيسَ، والغَرَضُ ذِكْرُ الفُضَلاءِ مِن عِبادِهِ لِيُتَأسّى بِهِمْ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى نُبُوَّتِهِ.
وثالِثُها: أنَّ السُّورَةَ مُلَقَّبَةٌ بِسُورَةِ الأنْبِياءِ، فَكُلُّ مَن ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى فِيها فَهو نَبِيٌّ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قِيلَ: إنَّ ذا الكِفْلِ زَكَرِيّا، وقِيلَ: يُوشَعُ وقِيلَ: إلْياسُ، ثُمَّ قالُوا: خَمْسَةٌ مِنَ الأنْبِياءِ، سَمّاهُمُ اللَّهُ تَعالى بِاسْمَيْنِ: إسْرائِيلُ ويَعْقُوبُ، إلْياسُ وذُو الكِفْلِ، عِيسى والمَسِيحُ، يُونُسُ وذُو النُّونِ، مُحَمَّدٌ وأحْمَدُ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلٌّ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ أيْ عَلى القِيامِ بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، واحْتِمالِ الأذى في نُصْرَةِ دِينِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿وأدْخَلْناهم في رَحْمَتِنا﴾ قالَ مُقاتِلٌ: الرَّحْمَةُ النُّبُوَّةُ، وقالَ آخَرُونَ: بَلْ يَتَناوَلُ جَمِيعَ أعْمالِ البَرِّ والخَيْرِ.
{"ayahs_start":85,"ayahs":["وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِدۡرِیسَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ كُلࣱّ مِّنَ ٱلصَّـٰبِرِینَ","وَأَدۡخَلۡنَـٰهُمۡ فِی رَحۡمَتِنَاۤۖ إِنَّهُم مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ"],"ayah":"وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِدۡرِیسَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ كُلࣱّ مِّنَ ٱلصَّـٰبِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











