الباحث القرآني
القِصَّةُ الخامِسَةُ، قِصَّةُ داوُدَ وسُلَيْمانَ عَلَيْهِما السَّلامُ
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا وسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ وكُنّا فاعِلِينَ﴾ ﴿وعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكم لِتُحْصِنَكم مِن بَأْسِكم فَهَلْ أنْتُمْ شاكِرُونَ﴾ ﴿ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأمْرِهِ إلى الأرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وكُنّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ﴾ ﴿ومِنَ الشَّياطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ ويَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وكُنّا لَهم حافِظِينَ﴾
اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: وداوُدَ، وسُلَيْمانَ، وأيُّوبَ، وزَكَرِيّا، وذا النُّونِ، كُلَّهُ نَسَقٌ عَلى ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا إبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ﴾، ومِن قَوْلِهِ: ﴿ولُوطًا آتَيْناهُ حُكْمًا وعِلْمًا﴾ واعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ ذِكْرُ نِعَمِ اللَّهِ تَعالى عَلى داوُدَ وسُلَيْمانَ، فَذَكَرَ أوَّلًا النِّعْمَةَ المُشْتَرَكَةَ بَيْنَهُما، ثُمَّ ذَكَرَ ما يَخْتَصُّ بِهِ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِنَ النِّعَمِ. أمّا النِّعْمَةُ المُشْتَرَكَةُ فَهي القِصَّةُ المَذْكُورَةُ وهي قِصَّةُ الحُكُومَةِ، ووَجْهُ النِّعْمَةِ فِيها أنَّ اللَّهَ تَعالى زَيَّنَهُما بِالعِلْمِ (p-١٦٩)والفَهْمِ في قَوْلِهِ: ﴿وكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ ثُمَّ في هَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ العِلْمَ أفْضَلُ الكَمالاتِ وأعْظَمُها، وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدَّمَ ذِكْرَهُ هاهُنا عَلى سائِرِ النِّعَمِ الجَلِيلَةِ، مِثْلَ تَسْخِيرِ الجِبالِ والطَّيْرِ والرِّيحِ والجِنِّ. وإذا كانَ العِلْمُ مُقَدَّمًا عَلى أمْثالِ هَذِهِ الأشْياءِ فَما ظَنُّكَ بِغَيْرِها؛ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ ابْنُ السِّكِّيتِ النَّفْشُ أنْ تَنْتَشِرَ الغَنَمُ بِاللَّيْلِ تَرْعى بِلا راعٍ، وهَذا قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ، وعَنِ الحَسَنِ أنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لَيْلًا ونَهارًا.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ الحَرْثَ هو الزَّرْعُ، وقالَ بَعْضُهم: هو الكَرْمُ، والأوَّلُ أشْبَهُ بِالعُرْفِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ مَن قالَ: أقَلُّ الجَمْعِ اثْنانِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ مَعَ أنَّ المُرادَ داوُدُ وسُلَيْمانُ ؟ جَوابُهُ: أنَّ الحُكْمَ كَما يُضافُ إلى الحاكِمِ فَقَدْ يُضافُ إلى المَحْكُومِ لَهُ، فَإذا أُضِيفَ الحُكْمُ إلى المُتَحاكِمِينَ كانَ المَجْمُوعُ أكْثَرَ مِنَ الِاثْنَيْنِ، وقُرِئَ وكُنّا لِحُكْمِهِما شاهِدِينَ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في كَيْفِيَّةِ القِصَّةِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: قالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: دَخَلَ رَجُلانِ عَلى داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، أحَدُهُما صاحِبُ حَرْثٍ والآخَرُ صاحِبُ غَنَمٍ، فَقالَ صاحِبُ الحَرْثِ: إنَّ غَنَمَ هَذا دَخَلَتْ حَرْثِي وما أبْقَتْ مِنهُ شَيْئًا، فَقالَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ: اذْهَبْ فَإنَّ الغَنَمَ لَكَ، فَخَرَجا فَمَرّا عَلى سُلَيْمانَ، فَقالَ: كَيْفَ قَضى بَيْنَكُما ؟ فَأخْبَراهُ: فَقالَ: لَوْ كُنْتُ أنا القاضِيَ لَقَضَيْتُ بِغَيْرِ هَذا. فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَدَعاهُ وقالَ: كَيْفَ كُنْتَ تَقْضِي بَيْنَهُما، فَقالَ: أدْفَعُ الغَنَمَ إلى صاحِبِ الحَرْثِ فَيَكُونُ لَهُ مَنافِعُها مِنَ الدَّرِّ والنَّسْلِ والوَبَرِ حَتّى إذا كانَ الحَرْثُ مِنَ العامِ المُسْتَقْبَلِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ أُكِلَ دَفَعْتُ الغَنَمَ إلى أهْلِها وقَبَضَ صاحِبُ الحَرْثِ حَرْثَهُ.
الثّانِي: قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وشُرَيْحٌ ومُقاتِلٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: أنَّ راعِيًا نَزَلَ ذاتَ لَيْلَةٍ بِجَنْبِ كَرْمٍ، فَدَخَلَتِ الأغْنامُ الكَرْمَ وهو لا يَشْعُرُ فَأكَلَتِ القُضْبانَ وأفْسَدَتِ الكَرْمَ، فَذَهَبَ صاحِبُ الكَرْمِ مِنَ الغَدِ إلى داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَضى لَهُ بِالغَنَمِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ ثَمَنِ الكَرْمِ وثَمَنِ الغَنَمِ تَفاوَتٌ، فَخَرَجُوا ومَرُّوا بِسُلَيْمانَ فَقالَ لَهم: كَيْفَ قَضى بَيْنَكُما ؟ فَأخْبَراهُ بِهِ، فَقالَ غَيْرُ هَذا أرْفَقُ بِالفَرِيقَيْنِ، فَأُخْبِرَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ؛ فَدَعا سُلَيْمانَ وقالَ لَهُ: بِحَقِّ الأُبُوَّةِ والنُّبُوَّةِ إلّا أخْبَرْتَنِي بِالَّذِي هو أرْفَقُ بِالفَرِيقَيْنِ، فَقالَ: تُسَلِّمُ الغَنَمَ إلى صاحِبِ الكَرْمِ حَتّى يَرْتَفِقَ بِمَنافِعِها ويَعْمَلُ الرّاعِي في إصْلاحِ الكَرْمِ حَتّى يَصِيرَ كَما كانَ، ثُمَّ تَرُدُّ الغَنَمَ إلى صاحِبِها، فَقالَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ: إنَّما القَضاءُ ما قَضَيْتَ وحَكَمَ بِذَلِكَ.
* * *
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: حَكَمَ سُلَيْمانُ بِذَلِكَ وهو ابْنُ إحْدى عَشْرَةَ سَنَةً، وهاهُنا أُمُورٌ ولا بُدَّ مِنَ البَحْثِ عَنْها.
السُّؤالُ الأوَّلُ: هَلْ في الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُما عَلَيْهِما السَّلامُ اخْتَلَفا في الحُكْمِ أمْ لا ؟ فَإنَّ أبا بَكْرٍ الأصَمَّ قالَ: إنَّهُما لَمْ يَخْتَلِفا البَتَّةَ، وأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ لَهُما الحُكْمَ لَكِنَّهُ بَيَّنَهُ عَلى لِسانِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ. الجَوابُ: الصَّوابُ أنَّهُما اخْتَلَفا والدَّلِيلُ إجْماعُ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم عَلى ما رَوَيْناهُ، وأيْضًا فَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ والفاءُ لِلتَّعْقِيبِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الحُكْمُ سابِقًا عَلى هَذا التَّفْهِيمِ، وذَلِكَ الحُكْمُ السّابِقُ إمّا أنْ يُقالَ: اتَّفَقا فِيهِ أوِ اخْتَلَفا فِيهِ، فَإنِ اتَّفَقا فِيهِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ فائِدَةٌ وإنِ اخْتَلَفا فِيهِ فَذَلِكَ هو المَطْلُوبُ.
السُّؤالُ الثّانِي: سَلَّمْنا أنَّهُما اخْتَلَفا في الحُكْمِ، ولَكِنْ هَلْ كانَ الحُكْمانِ صادِرَيْنِ عَنِ النَّصِّ أوْ عَنِ (p-١٧٠)الِاجْتِهادِ؟ . الجَوابُ: الأمْرانِ جائِزانِ عِنْدَنا، وزَعَمَ الجُبّائِيُّ أنَّهُما كانا صادِرَيْنِ عَنِ النَّصِّ، ثُمَّ إنَّهُ تارَةً يَبْنِي ذَلِكَ عَلى أنَّ الِاجْتِهادَ غَيْرُ جائِزٍ مِنَ الأنْبِياءِ، وأُخْرى عَلى أنَّ الِاجْتِهادَ وإنْ كانَ جائِزًا مِنهم في الجُمْلَةِ، ولَكِنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ في هَذِهِ المَسْألَةِ.
أمّا المَأْخَذُ الأوَّلُ: فَقَدْ تَكَلَّمْنا فِيهِ في الجُمْلَةِ في كِتابِنا المُسَمّى بِالمَحْصُولِ في الأُصُولِ، ولْنَذْكُرْ هاهُنا أُصُولَ الكَلامِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، احْتَجَّ الجُبّائِيُّ عَلى أنَّ الِاجْتِهادَ غَيْرُ جائِزٍ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِأُمُورٍ:
أحَدُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ ما يَكُونُ لِي أنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِي إنْ أتَّبِعُ إلّا ما يُوحى إلَيَّ﴾ [يونس: ١٥] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ [النجم: ٣] .
وثانِيها: أنَّ الِاجْتِهادَ طَرِيقُهُ الظَّنُّ، وهو قادِرٌ عَلى إدْراكِهِ يَقِينًا، فَلا يَجُوزُ مَصِيرُهُ إلى الظَّنِّ كالمُعايِنِ لِلْقِبْلَةِ، لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَجْتَهِدَ.
ثالِثُها: أنَّ مُخالَفَةَ الرَّسُولِ تُوجِبُ الكُفْرَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: ٦٥] ومُخالَفَةُ المَظْنُونِ والمُجْتَهَداتِ لا تُوجِبُ الكُفْرَ.
ورابِعُها: لَوْ جازَ أنْ يَجْتَهِدَ في الأحْكامِ لَكانَ لا يَقِفُ في شَيْءٍ مِنها، ولَمّا وقَفَ في مَسْألَةِ الظِّهارِ واللِّعانِ إلى وُرُودِ الوَحْيِ دَلَّ عَلى أنَّ الِاجْتِهادَ غَيْرُ جائِزٍ عَلَيْهِ.
وخامِسُها: أنَّ الِاجْتِهادَ إنَّما يَجُوزُ المَصِيرُ إلَيْهِ عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ، لَكِنَّ فِقْدانَ النَّصِّ في حَقِّ الرَّسُولِ كالمُمْتَنِعِ؛ فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ الِاجْتِهادُ مِنهُ.
وسادِسُها: لَوْ جازَ الِاجْتِهادُ مِنَ الرَّسُولِ لَجازَ أيْضًا مِن جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ وحِينَئِذٍ لا يَحْصُلُ الأمانُ بِأنَّ هَذِهِ الشَّرائِعَ الَّتِي جاءَ بِها أهِيَ مِن نُصُوصِ اللَّهِ تَعالى أوْ مِنَ اجْتِهادِ جِبْرِيلَ ؟
والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿قُلْ ما يَكُونُ لِي أنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقاءِ نَفْسِي إنْ أتَّبِعُ إلّا ما يُوحى إلَيَّ﴾ لا يَدُلُّ عَلى قَوْلِكم؛ لِأنَّهُ وارِدٌ في إبْدالِ آيَةٍ بِآيَةٍ، لِأنَّهُ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ﴿قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذا أوْ بَدِّلْهُ﴾ [يونس: ١٥] ولا مَدْخَلَ لِلِاجْتِهادِ في ذَلِكَ. وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ فَبَعِيدٌ؛ لِأنَّ مَن يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهادُ يَقُولُ: إنَّ الَّذِي أجْتَهِدُ فِيهِ هو عَنْ وحْيٍ عَلى الجُمْلَةِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلى التَّفْصِيلِ، وإنَّ الآيَةَ وارِدَةٌ في الأداءِ عَنِ اللَّهِ تَعالى لا في حُكْمِهِ الَّذِي يَكُونُ بِالعَقْلِ.
والجَوابُ عَنِ الثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى إذا قالَ لَهُ إذا غَلَبَ عَلى ظَنِّكَ كَوْنُ الحُكْمِ مُعَلَّلًا في الأصْلِ بِكَذا، ثُمَّ غَلَبَ عَلى ظَنِّكَ قِيامُ ذَلِكَ المَعْنى في صُورَةٍ أُخْرى فاحْكم بِذَلِكَ فَهاهُنا الحُكْمُ مَقْطُوعٌ بِهِ، والظَّنُّ غَيْرُ واقِعٍ فِيهِ بَلْ في طَرِيقِهِ.
والجَوابُ عَنِ الثّالِثِ: أنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ مُخالَفَةَ المُجْتَهَداتِ جائِزَةٌ مُطْلَقًا بَلْ جَوازُ مُخالَفَتِها مَشْرُوطٌ بِصُدُورِها عَنْ غَيْرِ المَعْصُومِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ يَجُوزُ عَلى الأُمَّةِ أنْ يُجْمِعُوا اجْتِهادًا ثُمَّ يَمْتَنِعُ مُخالَفَتُهم وحالُ الرَّسُولِ أوْكَدُ.
والجَوابُ عَنِ الرّابِعِ: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مَمْنُوعًا مِنَ الِاجْتِهادِ في بَعْضِ الأنْواعِ أوْ كانَ مَأْذُونًا مُطْلَقًا لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ في تِلْكَ الصُّورَةِ وجْهُ الِاجْتِهادِ، فَلا جَرَمَ أنَّهُ تَوَقَّفَ.
والجَوابُ عَنِ الخامِسِ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُحْبَسَ النَّصُّ عَنْهُ في بَعْضِ الصُّوَرِ؟ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ شَرْطُ جَوازِ الِاجْتِهادِ.
والجَوابُ عَنِ السّادِسِ: أنَّ هَذا الِاحْتِمالَ مَدْفُوعٌ بِإجْماعِ الأُمَّةِ عَلى خِلافِهِ.
فَهَذا هو الجَوابُ عَنْ شُبَهِ المُنْكِرِينَ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى جَوازِ الِاجْتِهادِ عَلَيْهِمْ وُجُوهٌ:
أحَدُها: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إذا غَلَبَ عَلى ظَنِّهِ أنَّ الحُكْمَ في الأصْلِ مُعَلَّلٌ بِمَعْنًى ثُمَّ عَلِمَ أوْ ظَنَّ قِيامَ ذَلِكَ المَعْنى في صُورَةٍ أُخْرى فَلا بُدَّ وأنْ يَغْلِبَ عَلى ظَنِّهِ أنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعالى في هَذِهِ الصُّورَةِ مِثْلُ ما في الأصْلِ، وعِنْدَهُ مُقَدِّمَةٌ يَقِينِيَّةٌ وهي أنَّ مُخالَفَةَ حُكْمِ اللَّهِ تَعالى سَبَبٌ لِاسْتِحْقاقِ العِقابِ فَيَتَوَلَّدُ مِن هاتَيْنِ المُقَدِّمَتَيْنِ ظَنُّ اسْتِحْقاقِ العِقابِ لِمُخالَفَةِ هَذا الحُكْمِ المَظْنُونِ.
وعِنْدَ هَذا، إمّا أنْ يُقْدِمَ عَلى الفِعْلِ والتَّرْكِ مَعًا، وهو مُحالٌ لِاسْتِحالَةِ الجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، أوْ يَتْرُكُهُما وهو مُحالٌ لِاسْتِحالَةِ الخُلُوِّ عَنِ النَّقِيضَيْنِ، أوْ يُرَجِّحُ المَرْجُوحَ عَلى الرّاجِحِ وهو باطِلٌ بِبَدِيهَةِ العَقْلِ، أوْ يُرَجِّحُ (p-١٧١)الرّاجِحَ عَلى المَرْجُوحِ وذَلِكَ هو العَمَلُ بِالقِياسِ. وهَذِهِ النُّكْتَةُ هي الَّتِي عَلَيْها التَّعْوِيلُ في العَمَلِ بِالقِياسِ، وهي قائِمَةٌ أيْضًا في حَقِّ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وهَذا يَتَوَجَّهُ عَلى جَوازِ الِاجْتِهادِ مِن جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاعْتَبِرُوا﴾ [الحشر: ٢] أمْرٌ لِلْكُلِّ بِالِاعْتِبارِ فَوَجَبَ انْدِراجُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيهِ لِأنَّهُ إمامُ المُعْتَبِرِينَ وأفْضَلُهم.
وثالِثُها: أنَّ الِاسْتِنْباطَ أرْفَعُ دَرَجاتِ العُلَماءِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ لِلرَّسُولِ فِيهِ مَدْخَلٌ وإلّا لَكانَ كُلُّ واحِدٍ مِن آحادِ المُجْتَهِدِينَ أفْضَلَ مِنهُ في هَذا البابِ. فَإنْ قِيلَ: هَذا إنَّما يَلْزَمُ لَوْ لَمْ تَكُنْ دَرَجَةٌ أعْلى مِنَ الِاعْتِبارِ، ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ كانَ يَسْتَدْرِكُ الأحْكامَ وحْيًا عَلى سَبِيلِ اليَقِينِ، فَكانَ أرْفَعَ دَرَجَةً مِنَ الِاجْتِهادِ الَّذِي لَيْسَ قُصاراهُ إلّا الظَّنَّ. قُلْنا: لا يَمْتَنِعُ أنْ لا يَجِدَ النَّصَّ في بَعْضِ المَواضِعِ، فَلَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الِاجْتِهادِ لَكانَ أقَلَّ دَرَجَةً مِنَ المُجْتَهِدِ الَّذِي يُمْكِنُهُ أنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ الحُكْمَ مِنَ الِاجْتِهادِ، وأيْضًا قَدْ بَيَّنّا أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أمَرَهُ بِالِاجْتِهادِ كانَ ذَلِكَ مُفِيدًا لِلْقَطْعِ بِالحُكْمِ.
ورابِعُها: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «العُلَماءُ ورَثَةُ الأنْبِياءِ» فَوَجَبَ أنْ يَثْبُتَ لِلْأنْبِياءِ دَرَجَةُ الِاجْتِهادِ لِيَرِثَ العُلَماءُ عَنْهم ذَلِكَ. هَذا تَمامُ القَوْلِ في هَذِهِ المَسْألَةِ.
وخامِسُها: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] فَذاكَ الإذْنُ إنْ كانَ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى اسْتَحالَ أنْ يَقُولَ: لِمَ أذِنْتَ لَهم، وإنْ كانَ بِهَوى النَّفْسِ فَهو غَيْرُ جائِزٍ، وإنْ كانَ بِالِاجْتِهادِ فَهو المَطْلُوبُ.
المَأْخَذُ الثّانِي: قالَ الجُبّائِيُّ: لَوْ جَوَّزْنا الِاجْتِهادَ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَفي هَذِهِ المَسْألَةِ يَجِبُ أنْ لا يَجُوزَ لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الَّذِي وصَلَ إلى صاحِبِ الزَّرْعِ مِن دَرِّ الماشِيَةِ ومِن مَنافِعِها مَجْهُولُ المِقْدارِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ في الِاجْتِهادِ جَعْلُ أحَدِهِما عِوَضًا عَنِ الآخَرِ
وثانِيها: أنَّ اجْتِهادَ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ إنْ كانَ صَوابًا لَزِمَ أنْ لا يُنْقَضَ؛ لِأنَّ الِاجْتِهادَ لا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهادِ، وإنْ كانَ خَطَأً وجَبَ أنْ يُبَيِّنَ اللَّهُ تَعالى تَوْبَتَهُ كَسائِرِ ما حَكاهُ عَنِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَلَمّا مَدَحَهُما بِقَوْلِهِ: ﴿وكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ دَلَّ عَلى أنَّهُ لَمْ يَقَعِ الخَطَأُ مِن داوُدَ.
وثالِثُها: لَوْ حَكَمَ بِالِاجْتِهادِ لَكانَ الحاصِلُ هُناكَ ظَنًّا لا عِلْمًا لَأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿وكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ .
ورابِعُها: كَيْفَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَنِ اجْتِهادٍ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ .
والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ الجَهالَةَ في القَدْرِ لا تَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِهادِ كالجَعالاتِ وحُكْمِ المُصَرّاةِ.
وعَنِ الثّانِي: لَعَلَّهُ كانَ خَطَأً مِن بابِ الصَّغائِرِ.
وعَنِ الثّالِثِ: بَيَّنّا أنَّ مَن تَمَسَّكَ بِالقِياسِ فالظَّنُّ واقِعٌ في طَرِيقِ إثْباتِ الحُكْمِ، فَأمّا الحُكْمُ فَمَقْطُوعٌ بِهِ.
وعَنِ الرّابِعِ: أنَّهُ إذا تَأمَّلَ واجْتَهَدَ فَأدّاهُ اجْتِهادُهُ إلى ما ذَكَرْنا كانَ اللَّهُ تَعالى فَهَّمَهُ مِن حَيْثُ بَيَّنَ لَهُ طَرِيقَ ذَلِكَ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ الكَلامِ في بَيانِ أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ اخْتِلافُ داوُدَ وسُلَيْمانَ عَلَيْهِما السَّلامُ في ذَلِكَ الحُكْمِ إنَّما كانَ بِسَبَبِ الِاجْتِهادِ. وأمّا بَيانُ أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أيْضًا أنْ يَكُونَ اخْتِلافُهُما فِيهِ بِسَبَبِ النَّصِّ فَطَرِيقُهُ أنْ يُقالَ: إنَّ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مَأْمُورًا مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى في هَذِهِ المَسْألَةِ بِالحُكْمِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ نَسَخَ ذَلِكَ بِالوَحْيِ إلى سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ خاصَّةً وأمَرَهُ أنْ يُعَرِّفَ داوُدَ ذَلِكَ فَصارَ ذَلِكَ الحُكْمُ حُكْمَهُما جَمِيعًا فَقَوْلُهُ: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ أيْ أوْحَيْنا إلَيْهِ فَإنْ قِيلَ: هَذا باطِلٌ لِوَجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: لَمّا أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى الحُكْمَ الأوَّلَ عَلى داوُدَ وجَبَ أنْ يَنْزِلَ نَسْخُهُ أيْضًا عَلى داوُدَ لا عَلى سُلَيْمانَ.
الثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى مَدَحَ كُلًّا مِنهُما عَلى الفَهْمِ، ولَوْ كانَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ النَّصِّ لَمْ يَكُنْ في فَهْمِهِ كَثِيرُ مَدْحٍ إنَّما المَدْحُ الكَثِيرُ عَلى قُوَّةِ الخاطِرِ والحَذاقَةِ في الِاسْتِنْباطِ.
{"ayah":"وَدَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ إِذۡ یَحۡكُمَانِ فِی ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِیهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَـٰهِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق