الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ووَهَبْنا لَهُ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ نافِلَةً وكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ﴾ ﴿وجَعَلْناهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا وأوْحَيْنا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْراتِ وإقامَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ وكانُوا لَنا عابِدِينَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَعْدَ ذِكْرِهِ لِإنْعامِهِ عَلى إبْراهِيمَ وعَلى لُوطٍ بِأنْ نَجّاهُما إلى الأرْضِ المُبارَكَةِ أتْبَعَهُ بِذِكْرِ غَيْرِهِ مِنَ النِّعَمِ، وإنَّما جَمَعَ بَيْنَهُما؛ لِأنَّ في كَوْنِ لُوطٍ مَعَهُ مَعَ ما كانَ بَيْنَهُما مِنَ القَرابَةِ والشَّرِكَةِ في النُّبُوَّةِ مَزِيدَ إنْعامٍ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ ذَكَرَ النِّعَمَ الَّتِي أفاضَها عَلى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ النِّعَمَ الَّتِي أفاضَها عَلى لُوطٍ، أمّا الأوَّلُ فَمِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: ﴿ووَهَبْنا لَهُ إسْحاقَ ويَعْقُوبَ نافِلَةً﴾ واعْلَمْ أنَّ النّافِلَةَ العَطِيَّةُ خاصَّةً، وكَذَلِكَ النَّفْلُ، ويُسَمّى الرَّجُلُ الكَثِيرُ العَطايا نَوْفَلًا، ثُمَّ لِلْمُفَسِّرِينَ هاهُنا قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ هاهُنا مَصْدَرٌ مِن وهَبْنا لَهُ مَصْدَرٌ مِن غَيْرِ لَفْظِهِ، ولا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿ووَهَبْنا لَهُ﴾ هِبَةً أيْ وهَبْناهُما لَهُ عَطِيَّةً وفَضْلًا مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ جَزاءً مُسْتَحَقًّا، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ وعَطاءٍ. والثّانِي: وهو قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ والفَرّاءِ والزَّجّاجِ: أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا سَألَ اللَّهَ ولَدًا قالَ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [الصافات: ١٠٠] فَأجابَ اللَّهُ دُعاءَهُ: ووَهَبَ لَهُ إسْحاقَ وأعْطاهُ يَعْقُوبَ مِن غَيْرِ دُعائِهِ، فَكانَ ذَلِكَ: ﴿نافِلَةً﴾ كالشَّيْءِ المُتَطَوَّعِ بِهِ مِنَ الآدَمِيِّينَ فَكَأنَّهُ قالَ: ﴿ووَهَبْنا لَهُ إسْحاقَ﴾ إجابَةً لِدُعائِهِ؛ ووَهَبْنا لَهُ ﴿ويَعْقُوبَ نافِلَةً﴾ عَلى ما سَألَ كالصَّلاةِ النّافِلَةِ الَّتِي هي زِيادَةٌ عَلى الفَرْضِ؛ وعَلى هَذا النّافِلَةُ يَعْقُوبُ خاصَّةً.
والوَجْهُ الأوَّلُ: أقْرَبُ؛ لِأنَّهُ تَعالى جَمَعَ بَيْنَهُما، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ: ﴿نافِلَةً﴾ فَإذا صَلُحَ أنْ يَكُونَ وصْفًا لَهُما فَهو أوْلى.
النِّعْمَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ﴾ أيْ وكُلًّا مِن إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ أنْبِياءَ مُرْسَلِينَ، هَذا قَوْلُ الضَّحّاكِ، وقالَ آخَرُونَ: عامِلِينَ بِطاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، مُجْتَنِبِينَ مَحارِمَهُ.
والوَجْهُ الثّانِي: أقْرَبُ؛ لِأنَّ لَفْظَ الصَّلاحِ يَتَناوَلُ الكُلَّ؛ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وأوْحَيْنا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْراتِ﴾ فَلَوْ حَمَلْنا الصَّلاحَ عَلى النُّبُوَّةِ لَزِمَ التَّكْرارُ، واحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الصَّلاحَ مِن قِبَلِهِ، أجابَ الجُبّائِيُّ بِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما وصَفَهم بِكَوْنِهِمْ صالِحِينَ، وبِكَوْنِهِمْ أئِمَّةً، وبِكَوْنِهِمْ عابِدِينَ، ولَما مَدَحَهم بِذَلِكَ، ولَما أثْنى عَلَيْهِمْ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ فَلا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وهو مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ سُبْحانَهُ آتاهم مِن لُطْفِهِ وتَوْفِيقِهِ ما صَلُحُوا بِهِ.
والثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ سَمّاهم بِذَلِكَ كَما يُقالُ: زَيْدٌ فَسَّقَ فُلانًا وضَلَّلَهُ وكَفَّرَهُ، إذا وصَفَهُ بِذَلِكَ، وكانَ مُصَدَّقًا عِنْدَ النّاسِ، وكَما يُقالُ في الحاكِمِ: زَكّى فُلانًا وعَدَّلَهُ وجَرَّحَهُ إذا حَكَمَ بِذَلِكَ.
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ مُخْتَلَّةٌ، أمّا اعْتِمادُهم عَلى المَدْحِ والذَّمِّ. فالجَوابُ المَعْهُودُ أنْ نُعارِضَهُ بِمَسْألَتَيِ الدّاعِي والعِلْمِ، وأمّا الحَمْلُ عَلى اللُّطْفِ فَباطِلٌ؛ لِأنَّ فِعْلَ الإلْطافِ عامٌّ في المُكَلَّفِينَ، فَلا بُدَّ في هَذا التَّخْصِيصِ مِن (p-١٦٦)مَزِيدِ فائِدَةٍ، وأيْضًا فَلِأنَّ قَوْلَهُ: جَعَلْتُهُ صالِحًا، كَقَوْلِهِ: جَعَلْتُهُ مُتَحَرِّكًا؛ فَحَمْلُهُ عَلى تَحْصِيلِ شَيْءٍ سِوى الصَّلاحِ تَرْكٌ لِلظّاهِرِ، وأمّا الحَمْلُ عَلى التَّسْمِيَةِ فَهو أيْضًا مَجازٌ، أقْصى ما في البابِ أنَّهُ قَدْ يُصارُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ في بَعْضِ المَواضِعِ، وهاهُنا لا ضَرُورَةَ إلّا أنْ يَرْجِعُوا مَرَّةً أُخْرى إلى فَصْلِ المَدْحِ والذَّمِّ، فَحِينَئِذٍ نَرْجِعُ أيْضًا إلى مَسْألَتَيِ الدّاعِي والعِلْمِ.
النِّعْمَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْناهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا﴾ وفِيهِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أيْ جَعَلْناهم أئِمَّةً يَدْعُونَ النّاسَ إلى دِينِ اللَّهِ تَعالى والخَيْراتِ بِأمْرِنا وإذْنِنا.
الثّانِي: قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ أنَّ هَذِهِ الإمامَةَ هي النُّبُوَّةُ.
والأوَّلُ أوْلى لِئَلّا يَلْزَمَ التَّكْرارُ، واحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أمْرَيْنِ:
أحَدُهُما: عَلى خَلْقِ الأفْعالِ بِقَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْناهم أئِمَّةً﴾ وتَقْرِيرُهُ ما مَضى.
والثّانِي: عَلى أنَّ الدَّعْوَةَ إلى الحَقِّ والمَنعَ عَنِ الباطِلِ لا يَجُوزُ إلّا بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ الأمْرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا لَما كانَ في قَوْلِهِ بِأمْرِنا فائِدَةٌ.
النِّعْمَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأوْحَيْنا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْراتِ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ خَصَّهم بِشَرَفِ النُّبُوَّةِ، وذَلِكَ مِن أعْظَمِ النِّعَمِ عَلى الأبِ، قالَ الزَّجّاجُ: حَذَفَ الهاءَ مِن إقامَةِ الصَّلاةِ؛ لِأنَّ الإضافَةَ عِوَضٌ عَنْهُ، وقالَ غَيْرُهُ: الإقامُ والإقامَةُ مَصْدَرٌ، قالَ أبُو القاسِمِ الأنْصارِيُّ: الصَّلاةُ أشْرَفُ العِباداتِ البَدَنِيَّةِ، وشُرِعَتْ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، والزَّكاةُ أشْرَفُ العِباداتِ المالِيَّةِ ومَجْمُوعُهُما التَّعْظِيمُ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى والشَّفَقَةُ عَلى خَلْقِ اللَّهِ.
واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وصَفَهم أوَّلًا بِالصَّلاحِ؛ لِأنَّهُ أوَّلُ مَراتِبِ السّائِرِينَ إلى اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ تَرَقّى فَوَصَفَهم بِالإمامَةِ. ثُمَّ تَرَقّى فَوَصَفَهم بِالنُّبُوَّةِ والوَحْيِ. وإذا كانَ الصَّلاحُ الَّذِي هو العِصْمَةُ أوَّلَ مَراتِبَ النُّبُوَّةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الأنْبِياءَ مَعْصُومُونَ، فَإنَّ المَحْرُومَ عَنْ أوَّلِ المَراتِبِ أوْلى بِأنْ يَكُونَ مَحْرُومًا عَنِ النِّهايَةِ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ كَما بَيَّنَ أصْنافَ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ بَيَّنَ بَعْدِ ذَلِكَ اشْتِغالَهم بِعُبُودِيَّتِهِ فَقالَ: ﴿وكانُوا لَنا عابِدِينَ﴾ كَأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا وفى بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ في الإحْسانِ والإنْعامِ فَهم أيْضًا وفَوْا بِعَهْدِ العُبُودِيَّةِ وهو الِاشْتِغالُ بِالطّاعَةِ والعِبادَةِ.
{"ayahs_start":72,"ayahs":["وَوَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ نَافِلَةࣰۖ وَكُلࣰّا جَعَلۡنَا صَـٰلِحِینَ","وَجَعَلۡنَـٰهُمۡ أَىِٕمَّةࣰ یَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَیۡرَ ٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِیتَاۤءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُوا۟ لَنَا عَـٰبِدِینَ"],"ayah":"وَجَعَلۡنَـٰهُمۡ أَىِٕمَّةࣰ یَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَیۡرَ ٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِیتَاۤءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُوا۟ لَنَا عَـٰبِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق