الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ رَبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ في السَّماءِ والأرْضِ وهو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ ﴿بَلْ قالُوا أضْغاثُ أحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هو شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الأوَّلُونَ﴾ ﴿ما آمَنَتْ قَبْلَهم مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أفَهم يُؤْمِنُونَ﴾ . أمّا قَوْلُهُ: ﴿قالَ رَبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ في السَّماءِ والأرْضِ وهو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قُرِئَ (قالَ رَبِّي) حِكايَةً لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهي قِراءَةُ حَمْزَةَ والكِسائِيِّ وحَفْصٍ عَنْ عاصِمٍ، وقَرَأ الباقُونَ قُلْ بِضَمِّ القافِ وحَذْفِ الألِفِ وسُكُونِ اللّامِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا أوْرَدَ هَذا الكَلامَ عَقِيبَ ما حَكى عَنْهم وجَبَ أنْ يَكُونَ كالجَوابِ لِما قالُوهُ، فَكَأنَّهُ قالَ إنَّكم وإنْ أخْفَيْتُمْ قَوْلَكم وطَعْنَكم فَإنَّ رَبِّي عالِمٌ بِذَلِكَ وإنَّهُ مِن وراءِ عُقُوبَتِهِ، فَتَوَعَّدُوا بِذَلِكَ لِكَيْ لا يَعُودُوا إلى مِثْلِهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: فَإنْ قُلْتَ: فَهَلّا قِيلَ لَهُ يَعْلَمُ السِّرَّ لِقَوْلِهِ: ﴿وأسَرُّوا النَّجْوى﴾ قُلْتُ: القَوْلُ عامٌّ يَشْمَلُ السِّرَّ والجَهْرَ فَكَأنَّ في العِلْمِ بِهِ العِلْمُ بِالسِّرِّ وزِيادَةٌ، فَكانَ آكَدَ في بَيانِ الِاطِّلاعِ عَلى نَجْواهم مِن أنْ يَقُولَ: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ﴾ [طه: ٧] كَما أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ﴾ آكَدُ مِن أنْ يَقُولَ يَعْلَمُ سِرَّهم، فَإنْ قُلْتَ: فَلِمَ تَرَكَ الآكَدَ في سُورَةِ الفُرْقانِ في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ أنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الفُرْقانِ: ٦] قُلْتُ: لَيْسَ بِواجِبٍ أنْ يَجِيءَ بِالآكَدِ في قَوْلِهِ في كُلِّ مَوْضِعٍ، ولَكِنْ يَجِيءُ بِالتَّوْكِيدِ مَرَّةً، وبِالآكَدِ مَرَّةً أُخْرى، ثُمَّ الفَرْقُ أنَّهُ قَدَّمَ هَهُنا أنَّهم أسَرُّوا النَّجْوى، فَكَأنَّهُ أرادَ أنْ يَقُولَ: إنَّ رَبِّي يَعْلَمُ ما أسَرُّوهُ، فَوَضَعَ القَوْلَ مَوْضِعَ ذَلِكَ لِلْمُبالِغَةِ، وثَمَّةَ قَصَدَ وصْفَ ذاتِهِ بِأنْ قالَ: ﴿أنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الفُرْقانِ: ٦] فَهو كَقَوْلِهِ: ﴿عَلّامُ الغُيُوبِ﴾ [المائِدَةِ: ١٠٩]، ﴿عالِمِ الغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ﴾ [سَبَأٍ: ٣] . المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: إنَّما قَدَّمَ السَّمِيعَ عَلى العَلِيمِ لِأنَّهُ لا بُدَّ مِن سَماعِ الكَلامِ أوَّلًا ثُمَّ مِن حُصُولِ العِلْمِ بِمَعْناهُ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿بَلْ قالُوا أضْغاثُ أحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هو شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الأوَّلُونَ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ (p-١٢٤)تَعالى عادَ إلى حِكايَةِ قَوْلِهِمُ المُتَّصِلِ بِقَوْلِهِ: ﴿هَلْ هَذا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكم أفَتَأْتُونَ السِّحْرَ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿بَلْ قالُوا أضْغاثُ أحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هو شاعِرٌ﴾ فَحَكى عَنْهم ثَمَّ هَذِهِ الأقْوالَ الخَمْسَةَ فَتَرْتِيبُ كَلامِهِمْ كَأنَّهم قالُوا: نَدَّعِي أنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا مانِعٌ مِن كَوْنِهِ رَسُولًا لِلَّهِ تَعالى. سَلَّمْنا أنَّهُ غَيْرُ مانِعٍ، ولَكِنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ هَذا القُرْآنَ مُعْجِزٌ، ثُمَّ إمّا أنْ يُساعِدَ عَلى أنَّ فَصاحَةَ القُرْآنِ خارِجَةٌ عَنْ مَقْدُورِ البَشَرِ، قُلْنا: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ سِحْرًا وإنْ لَمْ يُساعِدْ عَلَيْهِ فَإنِ ادَّعَيْنا كَوْنَهُ في نِهايَةِ الرَّكاكَةِ قُلْنا: إنَّها أضْغاثُ أحْلامٍ، وإنِ ادَّعَيْنا أنَّهُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الرَّكاكَةِ والفَصاحَةِ قُلْنا: إنَّهُ افْتِراءٌ، وإنِ ادَّعَيْنا أنَّهُ كَلامٌ فَصِيحٌ قُلْنا: إنَّهُ مِن جِنْسِ فَصاحَةِ سائِرِ الشُّعَراءِ، وعَلى جَمِيعِ هَذِهِ التَّقْدِيراتِ فَإنَّهُ لا يَثْبُتُ كَوْنُهُ مُعْجِزًا، ولَمّا فَرَغُوا مِن تَعْدِيدِ هَذِهِ الِاحْتِمالاتِ قالُوا: ﴿فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الأوَّلُونَ﴾ فالمُرادُ أنَّهم طَلَبُوا آيَةً جَلِيَّةً لا يَتَطَرَّقُ إلَيْها شَيْءٌ مِن هَذِهِ الِاحْتِمالاتِ كالآياتِ المَنقُولَةِ عَنْ مُوسى وعِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى بَدَأ بِالجَوابِ عَنْ هَذا السُّؤالِ الأخِيرِ بِقَوْلِهِ: ﴿ما آمَنَتْ قَبْلَهم مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أفَهم يُؤْمِنُونَ﴾ والمَعْنى أنَّهم في العُتُوِّ أشَدُّ مِنَ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا عَلى أنْبِيائِهِمُ الآياتِ وعَهِدُوا أنَّهم يُؤْمِنُونَ عِنْدَها، فَلَمّا جاءَتْهم نَكَثُوا وخالَفُوا فَأهْلَكَهُمُ اللَّهُ، فَلَوْ أعْطَيْناهم ما يَقْتَرِحُونَ لَكانُوا أشَدَّ نَكْثًا. قالَ الحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: إنَّهم لَمْ يُجابُوا لِأنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعالى أنَّ مَن كَذَّبَ بَعْدَ الإجابَةِ إلى ما اقْتَرَحَهُ مِنَ الآياتِ فَلا بُدَّ مِن أنْ يَنْزِلَ بِهِ عَذابُ الِاسْتِئْصالِ وقَدْ مَضى حُكْمُهُ في أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ خاصَّةً بِخِلافِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجِبْهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب