الباحث القرآني
﴿قُلْ مَن يَكْلَؤُكم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هم عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ ﴿أمْ لَهم آلِهَةٌ تَمْنَعُهم مِن دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أنْفُسِهِمْ ولا هم مِنّا يُصْحَبُونَ﴾ ﴿بَلْ مَتَّعْنا هَؤُلاءِ وآباءَهم حَتّى طالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ أفَلا يَرَوْنَ أنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُها مِن أطْرافِها أفَهُمُ الغالِبُونَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ الكُفّارَ في الآخِرَةِ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النّارَ بِسائِرِ ما وصَفَهم بِهِ، أتْبَعُهُ بِأنَّهم في الدُّنْيا أيْضًا لَوْلا أنَّ اللَّهَ تَعالى يَحْرُسُهم ويَحْفَظُهم لَما بَقُوا في السَّلامَةِ، فَقالَ لِرَسُولِهِ: قُلْ لِهَؤُلاءِ الكُفّارِ الَّذِينَ يَسْتَهْزِئُونَ ويَغْتَرُّونَ بِما هم عَلَيْهِ: (مَن يَكْلَؤُكم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ) وهَذا كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِمَن حَصَلَ في قَبْضَتِهِ ولا مُخَلِّصَ لَهُ مِنهُ إلى أيْنَ مَفَرُّكَ مِنِّي ! هَلْ لَكَ مَحِيصٌ عَنِّي ! والكالِئُ الحافِظُ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في مَعْناهُ وُجُوهٌ: أحَدُها: (مَن يَكْلَؤُكم مِنَ الرَّحْمَنِ) أيْ مِمّا يَقْدِرُ عَلى إنْزالِهِ بِكم مِن عَذابٍ تَسْتَحِقُّونَهُ. وثانِيها: مِن بَأْسِ اللَّهِ في الآخِرَةِ. وثالِثُها: مِنَ القَتْلِ والسَّبْيِ وسائِرِ ما أباحَهُ اللَّهُ لِكُفْرِهِمْ فَبَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهُ لا حافِظَ لَهم ولا دافِعَ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ لَوْ أنْزَلَها بِهِمْ ولَوْلا تَفَضُّلُهُ بِحِفْظِهِمْ لَما عاشُوا ولَما مُتِّعُوا بِالدُّنْيا.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إنَّما خَصَّ هَهُنا اسْمَ الرَّحْمَنِ بِالذِّكْرِ تَلْقِينًا لِلْجَوابِ حَتّى يَقُولَ العاقِلُ: أنْتَ الكالِئُ يا إلَهُنا لِكُلِّ الخَلائِقِ بِرَحْمَتِكَ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ﴾ [الِانْفِطارِ: ٦] إنَّما خَصَّ اسْمَ الكَرِيمِ بِالذِّكْرِ تَلْقِينًا لِلْجَوابِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إنَّما ذَكَرَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لِأنَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الوَقْتَيْنِ آفاتٍ تَخْتَصُّ بِهِ، والمَعْنى مَن يَحْفَظُكم بِاللَّيْلِ إذا نِمْتُمْ وبِالنَّهارِ إذا تَصَرَّفْتُمْ في مَعايِشِكم.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿بَلْ هم عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ فالمَعْنى أنَّهُ تَعالى مَعَ إنْعامِهِ عَلَيْهِمْ لَيْلًا ونَهارًا بِالحِفْظِ والحِراسَةِ فَهم عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمُ الَّذِي هو الدَّلائِلُ العَقْلِيَّةُ والنَّقْلِيَّةُ ولَطائِفُ القُرْآنِ مُعْرِضُونَ فَلا يَتَأمَّلُونَ في شَيْءٍ مِنها لِيَعْرِفُوا أنَّهُ لا كالِئَ لَهم سِواهُ ويَتْرُكُونَ عِبادَةَ الأصْنامِ الَّتِي لا حَظَّ لَها في حِفْظِهِمْ ولا في الإنْعامِ عَلَيْهِمْ.
(p-١٥١)أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ لَهم آلِهَةٌ تَمْنَعُهم مِن دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أنْفُسِهِمْ ولا هم مِنّا يُصْحَبُونَ﴾ فاعْلَمْ أنَّ المِيمَ صِلَةٌ يَعْنِي: ألَهم آلِهَةٌ تَكْلَؤُهم مِن دُونِنا ؟ والتَّقْدِيرُ ألَهم آلِهَةٌ مِن دُونِنا تَمْنَعُهم ؟ وتَمَّ الكَلامُ. ثُمَّ وصَفَ آلِهَتَهم بِالضَّعْفِ فَقالَ: ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أنْفُسِهِمْ﴾ وهَذا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ فَهَذِهِ الآلِهَةُ لا تَسْتَطِيعُ حِمايَةَ أنْفُسِها عَنِ الآفاتِ، وحِمايَةُ النَّفْسِ أوْلى مِن حِمايَةِ الغَيْرِ، فَإذا لَمْ تَقْدِرْ عَلى حِمايَةِ نَفْسِها فَكَيْفَ تَقْدِرُ عَلى حِمايَةِ غَيْرِها، وفي قَوْلِهِ: ﴿ولا هم مِنّا يُصْحَبُونَ﴾ قَوْلانِ: الأوَّلُ: قالَ المازِنِيُّ: أصْحَبْتُ الرَّجُلَ إذا مَنَعْتَهُ فَقَوْلُهُ: ﴿ولا هم مِنّا يُصْحَبُونَ﴾ مِن ذَلِكَ لا مِنَ الصُّحْبَةِ. الثّانِي: أنَّ الصُّحْبَةَ هَهُنا بِمَعْنى النُّصْرَةِ والمَعُونَةِ وكُلُّها سَواءٌ في المَعْنى، يُقالُ: صَحِبَكَ اللَّهُ ونَصَرَكَ اللَّهُ ويُقالُ لِلْمُسافِرِ: في صُحْبَةِ اللَّهِ وفي حِفْظِ اللَّهِ فالمَعْنى ولا هم مِنّا في نُصْرَةٍ ولا إعانَةٍ، والحاصِلُ أنَّ مَن لا يَكُونُ قادِرًا عَلى دَفْعِ الآفاتِ ولا يَكُونُ مَصْحُوبًا مِنَ اللَّهِ بِالإعانَةِ كَيْفَ يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ تَفَضُّلَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ كُلِّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿بَلْ مَتَّعْنا هَؤُلاءِ وآباءَهم حَتّى طالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ﴾ يَعْنِي ما حَمَلَهم عَلى الإعْراضِ إلّا الِاغْتِرارُ بِطُولِ المُهْلَةِ، يَعْنِي طالَتْ أعْمارُهم في الغَفْلَةِ فَنَسُوا عَهْدَنا وجَهِلُوا مَوْقِعَ مَواقِعِ نِعْمَتِنا واغْتَرُّوا بِذَلِكَ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَلا يَرَوْنَ أنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُها﴾ فالمَعْنى أفَلا يَرى هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ بِاللَّهِ المُسْتَعْجِلُونَ بِالعَذابِ آثارَ قُدْرَتِنا في إتْيانِ الأرْضِ مِن جَوانِبِها، نَأْخُذُ الواحِدَ بَعْدَ الواحِدِ، ونَفْتَحُ البِلادَ والقُرى مِمّا حَوْلَ مَكَّةَ ونَزِيدُها في مُلْكِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ونُمِيتُ رُؤَساءَ المُشْرِكِينَ المُمَتَّعِينَ بِالدُّنْيا، ونُنْقِصُ مِنَ الشِّرْكِ بِإهْلاكِ أهْلِهِ، أما كانَ لَهم في ذَلِكَ عِبْرَةٌ فَيُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ويَعْلَمُوا أنَّهم لا يَقْدِرُونَ عَلى الِامْتِناعِ مِنَ اللَّهِ وإرادَتِهِ فِيهِمْ، ولا يَقْدِرُونَ عَلى مُغالَبَتِهِ ثُمَّ قالَ: ﴿أفَهُمُ الغالِبُونَ﴾ أيْ فَهَؤُلاءِ هُمُ الغالِبُونَ أمْ نَحْنُ ؟ وهو اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى التَّقْرِيرِ والتَّقْرِيعِ، والمَعْنى: بَلْ نَحْنُ الغالِبُونَ وهُمُ المَغْلُوبُونَ، وقَدْ مَضى الكَلامُ في هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ الرَّعْدِ. وفي تَفْسِيرِ النُّقْصانِ وُجُوهٌ: أحَدُها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: نَنْقُصُها بِفَتْحِ البُلْدانِ. وثانِيها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةٍ أُخْرى: يُرِيدُ نُقْصانَ أهْلِها وبَرَكَتِها. وثالِثُها: قالَ عِكْرِمَةُ: تَخْرِيبُ القُرى عِنْدَ مَوْتِ أهْلِها. ورابِعُها: بِمَوْتِ العُلَماءِ، وهَذِهِ الرِّوايَةُ إنْ صَحَّتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلا يُعْدَلُ عَنْها، وإلّا فالأظْهَرُ مِنَ الأقاوِيلِ ما يَتَعَلَّقُ بِالغَلَبَةِ فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿أفَهُمُ الغالِبُونَ﴾ والَّذِي يَلِيقُ بِذَلِكَ أنَّهُ يَنْقُصُها عَنْهم ويَزِيدُها في بِلادِ الإسْلامِ، قالَ القَفّالُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في كُفّارِ مَكَّةَ فَكَيْفَ يَدْخُلُ فِيها العُلَماءُ والفُقَهاءُ فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنَ العِبَرِ الَّتِي لَوِ اسْتَعْمَلُوا عَقْلَهم فِيها لَأعْرَضُوا عَنْ جَهْلِهِمْ.
{"ayah":"بَلۡ مَتَّعۡنَا هَـٰۤؤُلَاۤءِ وَءَابَاۤءَهُمۡ حَتَّىٰ طَالَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۗ أَفَلَا یَرَوۡنَ أَنَّا نَأۡتِی ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۤۚ أَفَهُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق