الباحث القرآني

(p-١٤٦)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الخُلْدَ أفَإنْ مِتَّ فَهُمُ الخالِدُونَ﴾ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ ونَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً وإلَيْنا تُرْجَعُونَ﴾ ﴿وإذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلّا هُزُوًا أهَذا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكم وهم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هم كافِرُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا اسْتَدَلَّ بِالأشْياءِ السِّتَّةِ الَّتِي شَرَحْناها في الفَصْلِ المُتَقَدِّمِ وكانَتْ تِلْكَ الأشْياءُ مِن أُصُولِ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ أتْبَعَهُ بِما نَبَّهَ بِهِ عَلى أنَّ هَذِهِ الدُّنْيا جَعَلَها كَذَلِكَ لا لِتَبْقى وتَدُومَ أوْ يَبْقى فِيها مَن خُلِقَتِ الدُّنْيا لَهُ، بَلْ خَلَقَها سُبْحانَهُ وتَعالى لِلِابْتِلاءِ والِامْتِحانِ، ولِكَيْ يُتَوَصَّلَ بِها إلى الآخِرَةِ الَّتِي هي دارُ الخُلُودِ. فَأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الخُلْدَ﴾ فَفِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: قالَ مُقاتِلٌ: أنَّ أُناسًا كانُوا يَقُولُونَ إنَّ مُحَمَّدًا ﷺ لا يَمُوتُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. وثانِيها: كانُوا يُقَدِّرُونَ أنَّهُ سَيَمُوتُ فَيَشْمَتُونَ بِمَوْتِهِ فَنَفى اللَّهُ تَعالى عَنْهُ الشَّماتَةَ بِهَذا أيْ قَضى اللَّهُ تَعالى أنْ لا يُخَلِّدَ في الدُّنْيا بَشَرًا فَلا أنْتَ ولا هم إلّا عُرْضَةٌ لِلْمَوْتِ أفَإنْ مِتَّ أنْتَ أيَبْقى هَؤُلاءِ ؟ لا، وفي مَعْناهُ قَوْلُ القائِلِ: ؎فَقُلْ لِلشّامِتِينَ بِنا أفِيقُوا سَيَلْقى الشّامِتُونَ كَما لَقِينا وثالِثُها: يَحْتَمِلُ أنَّهُ لَمّا ظَهَرَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ خاتَمُ الأنْبِياءِ جازَ أنْ يُقَدِّرَ مُقَدِّرٌ أنَّهُ لا يَمُوتُ إذْ لَوْ ماتَ لَتَغَيَّرَ شَرْعُهُ، فَنَبَّهَ اللَّهُ تَعالى عَلى أنَّ حالَهُ كَحالِ غَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ في المَوْتِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ﴾ فَفِيهِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ هَذا العُمُومَ مَخْصُوصٌ فَإنَّهُ تَعالى نَفْسٌ لِقَوْلِهِ: ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ﴾ [المائِدَةِ: ١١٦] مَعَ أنَّ المَوْتَ لا يَجُوزُ عَلَيْهِ وكَذا الجَماداتِ لَها نُفُوسٌ وهي لا تَمُوتُ، والعامُّ المَخْصُوصُ حُجَّةٌ فَيَبْقى مَعْمُولًا بِهِ فِيما عَدا هَذِهِ الأشْياءِ، وذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ الفَلاسِفَةِ في أنَّ الأرْواحَ البَشَرِيَّةَ والعُقُولَ المُفارِقَةَ والنُّفُوسَ الفَلَكِيَّةَ لا تَمُوتُ. والثّانِي: الذَّوْقُ هَهُنا لا يُمْكِنُ إجْراؤُهُ عَلى ظاهِرِهِ لِأنَّ المَوْتَ لَيْسَ مِن جِنْسِ المَطْعُومِ حَتّى يُذاقَ بَلِ الذَّوْقُ إدْراكٌ خاصٌّ فَيَجُوزُ جَعْلُهُ مَجازًا عَنْ أصْلِ الإدْراكِ، وأمّا المَوْتُ فالمُرادُ مِنهُ هَهُنا مُقَدِّماتُهُ مِنَ الآلامِ العَظِيمَةِ لِأنَّ المَوْتَ قَبْلَ دُخُولِهِ في الوُجُودِ يَمْتَنِعُ إدْراكُهُ وحالَ وُجُودِهِ يَصِيرُ الشَّخْصُ مَيِّتًا والمَيِّتُ لا يُدْرِكُ شَيْئًا. والثّالِثُ: الإضافَةُ في ذائِقَةِ المَوْتِ في تَقْدِيرِ الِانْفِصالِ لِأنَّهُ لِما يُسْتَقْبَلُ كَقَوْلِهِ: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ [المائِدَةِ: ١]، و﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ [المائِدَةِ: ٩٥] . أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً وإلَيْنا تُرْجَعُونَ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الِابْتِلاءُ لا يَتَحَقَّقُ إلّا مَعَ التَّكْلِيفِ، فالآيَةُ دالَّةٌ عَلى حُصُولِ التَّكْلِيفِ وتَدُلُّ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمْ يَقْتَصِرْ بِالمُكَلَّفِ عَلى ما أمَرَ ونَهى وإنْ كانَ فِيهِ صُعُوبَةٌ بَلِ ابْتَلاهُ بِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: ما سَمّاهُ خَيْرًا وهو نِعَمُ الدُّنْيا مِنَ الصِّحَّةِ واللَّذَّةِ والسُّرُورِ والتَّمْكِينِ مِنَ المُراداتِ. والثّانِي: ما سَمّاهُ شَرًّا وهو المَضارُّ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنَ الفَقْرِ والآلامِ وسائِرِ الشَّدائِدِ النّازِلَةِ بِالمُكَلَّفِينَ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ العَبْدَ مَعَ التَّكْلِيفِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ، لِكَيْ يَشْكُرَ عَلى المِنَحِ ويَصْبِرَ في المِحَنِ، فَيَعْظُمَ ثَوابُهُ إذا قامَ بِما يَلْزَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إنَّما سَمّى ذَلِكَ ابْتِلاءً وهو عالِمٌ بِما سَيَكُونُ مِن أعْمالِ العالَمِينَ قَبْلَ وُجُودِهِمْ لِأنَّهُ في (p-١٤٧)صُورَةِ الِاخْتِبارِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ﴿فِتْنَةً﴾ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِنَبْلُوكم مِن غَيْرِ لَفْظِهِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: احْتَجَّتِ التَّناسُخِيَّةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وإلَيْنا تُرْجَعُونَ﴾ فَإنَّ الرُّجُوعَ إلى مَوْضِعٍ مَسْبُوقٍ بِالكَوْنِ فِيهِ. والجَوابُ: أنَّهُ مَذْكُورٌ مَجازًا. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وإلَيْنا تُرْجَعُونَ﴾ أنَّهم يُرْجَعُونَ إلى حُكْمِهِ ومُحاسَبَتِهِ ومُجازاتِهِ، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ بُطْلانَ قَوْلِهِمْ في نَفْيِ البَعْثِ والمَعادِ، واسْتَدَلَّتِ التَّناسُخِيَّةُ بِهَذِهِ الآيَةِ، وقالُوا: إنَّ الرُّجُوعَ إلى مَوْضِعٍ مَسْبُوقٍ بِالكَوْنِ فِيهِ، وقَدْ كُنّا مَوْجُودِينَ قَبْلَ دُخُولِنا في هَذا العالَمِ، واسْتَدَلَّتِ المُجَسِّمَةُ بِأنّا أجْسامٌ، فَرُجُوعُنا إلى اللَّهِ تَعالى يَقْتَضِي كَوْنَ اللَّهِ تَعالى جِسْمًا. والجَوابُ عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلّا هُزُوًا﴾ قالَ السُّدِّيُّ ومُقاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أبِي جَهْلٍ، مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ وكانَ أبُو سُفْيانَ مَعَ أبِي جَهْلٍ، «فَقالَ أبُو جَهْلٍ لِأبِي سُفْيانَ: هَذا نَبِيُّ بَنِي عَبْدِ مَنافٍ، فَقالَ أبُو سُفْيانَ: وما تُنْكِرُ أنْ يَكُونَ نَبِيًّا في بَنِي عَبْدِ مَنافٍ ! فَسَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ قَوْلَهُما فَقالَ لِأبِي جَهْلٍ: ما أراكَ تَنْتَهِي حَتّى يَنْزِلَ بِكَ ما نَزَلَ بِعَمِّكَ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، وأمّا أنْتَ يا أبا سُفْيانَ: فَإنَّما قُلْتَ ما قُلْتَ حَمِيَّةً»، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، ثُمَّ فَسَّرَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿أهَذا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ والذِّكْرُ يَكُونُ بِخَيْرٍ وبِخِلافِهِ، فَإذا دَلَّتِ الحالُ عَلى أحَدِهِما أُطْلِقَ ولَمْ يُقَيَّدْ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ سَمِعْتُ فُلانًا يَذْكُرُكَ، فَإنْ كانَ الذّاكِرُ صَدِيقًا فَهو ثَناءٌ، وإنْ كانَ عَدُوًّا فَهو ذَمٌّ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهم يُقالُ لَهُ إبْراهِيمُ﴾ [الأنْبِياءِ: ٦٠] والمَعْنى أنَّهُ يُبْطِلُ كَوْنَها مَعْبُودَةً ويُقَبِّحُ عِبادَتَها. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هم كافِرُونَ﴾ فالمَعْنى أنَّهم يَعِيبُونَ عَلَيْهِ ذِكْرَ آلِهَتِهِمُ الَّتِي لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ بِالسُّوءِ، مَعَ أنَّهم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ الَّذِي هو المُنْعِمُ الخالِقُ المُحْيِي المُمِيتُ ﴿كافِرُونَ﴾ ولا فِعْلَ أقْبَحُ مِن ذَلِكَ، فَيَكُونُ الهُزُؤُ واللَّعِبُ والذَّمُّ عَلَيْهِمْ يَعُودُ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، ويَحْتَمِلُ أنْ يُرادَ ﴿بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ القُرْآنُ والكُتُبُ، والمَعْنى في إعادَتِهِمْ أنَّ الأُولى إشارَةٌ إلى القَوْمِ الَّذِينَ كانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ الفِعْلَ، والثّانِيَةَ إبانَةٌ لِاخْتِصاصِهِمْ بِهِ، وأيْضًا فَإنَّ في إعادَتِها تَأْكِيدًا وتَعْظِيمًا لِفِعْلِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب