الباحث القرآني

النَّوْعُ الخامِسُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا السَّماءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وهم عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: سَمّى السَّماءَ سَقْفًا لِأنَّها لِلْأرْضِ كالسَّقْفِ لِلْبَيْتِ. (p-١٤٣)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في المَحْفُوظِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مَحْفُوظٌ مِنَ الوُقُوعِ والسُّقُوطِ الَّذَيْنِ يَجْرِي مِثْلُهُما عَلى سائِرِ السُّقُوفِ كَقَوْلِهِ: ﴿ويُمْسِكُ السَّماءَ أنْ تَقَعَ عَلى الأرْضِ إلّا بِإذْنِهِ﴾ [الحَجِّ: ٦٥] وقالَ: ﴿ومِن آياتِهِ أنْ تَقُومَ السَّماءُ والأرْضُ بِأمْرِهِ﴾ [الرُّومِ: ٢٥] وقالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا﴾ [فاطِرٍ: ٤١] وقالَ: ﴿ولا يَئُودُهُ حِفْظُهُما﴾ [البَقَرَةِ: ٢٥٥] . الثّانِي: مَحْفُوظًا مِنَ الشَّياطِينِ، قالَ تَعالى: ﴿وحَفِظْناها مِن كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾ [الحِجْرِ: ١٧] ثُمَّ هَهُنا قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مَحْفُوظٌ بِالمَلائِكَةِ مِنَ الشَّياطِينِ. والثّانِي: أنَّهُ مَحْفُوظٌ بِالنُّجُومِ مِنَ الشَّياطِينِ، والقَوْلُ الأوَّلُ أقْوى لِأنَّ حَمْلَ الآياتِ عَلَيْهِ مِمّا يَزِيدُ هَذِهِ النِّعْمَةَ عِظَمًا لِأنَّهُ سُبْحانَهُ كالمُتَكَفِّلِ بِحِفْظِهِ وسُقُوطِهِ عَلى المُكَلَّفِينَ بِخِلافِ القَوْلِ الثّانِي لِأنَّهُ لا يَخافُ عَلى السَّماءِ مِنِ اسْتِراقِ سَمْعِ الجِنِّ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهم عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ﴾ مَعْناهُ عَمّا وضَعَ اللَّهُ تَعالى فِيها مِنَ الأدِلَّةِ والعِبَرِ في حَرَكاتِها وكَيْفِيَّةِ حَرَكاتِها وجِهاتِ حَرَكاتِها ومَطالِعِها ومَغارِبِها واتِّصالاتِ بَعْضِها بِبَعْضٍ وانْفِصالاتِها عَلى الحِسابِ القَوِيمِ والتَّرْتِيبِ العَجِيبِ الدّالِّ عَلى الحِكْمَةِ البالِغَةِ والقُدْرَةِ الباهِرَةِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قُرِئَ عَنْ آيَتِها عَلى التَّوْحِيدِ والمُرادُ الجِنْسُ أيْ هم مُتَفَطِّنُونَ لِما يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مِنَ المَنافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ كالِاسْتِضاءَةِ بِقَمَرِها والِاهْتِداءِ بِكَواكِبِها، وحَياةِ الأرْضِ بِأمْطارِها وهم عَنْ كَوْنِها آيَةً بَيِّنَةً عَلى وُجُودِ الخالِقِ ووَحْدانِيَّتِهِ مُعْرِضُونَ. * * * النَّوْعُ السّادِسُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ والنَّهارَ والشَّمْسَ والقَمَرَ كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا قالَ: ﴿وهم عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ﴾ فَصَّلَ تِلْكَ الآياتِ هَهُنا لِأنَّهُ تَعالى لَوْ خَلَقَ السَّماءَ والأرْضَ ولَمْ يَخْلُقِ الشَّمْسَ والقَمَرَ لِيَظْهَرَ بِهِما اللَّيْلُ والنَّهارُ ويَظْهَرَ بِهِما مِنَ المَنافِعِ بِتَعاقُبِ الحَرِّ والبَرْدِ لَمْ تَتَكامَلْ نِعَمُ اللَّهِ تَعالى عَلى عِبادِهِ بَلْ إنَّما يَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ حَرَكاتِها في أفْلاكِها، فَلِهَذا قالَ: ﴿كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ وتَقْرِيرُهُ أنْ نَقُولَ: قَدْ ثَبَتَ بِالأرْصادِ أنَّ لِلْكَواكِبِ حَرَكاتٍ مُخْتَلِفَةً فَمِنها حَرَكَةٌ تَشْمَلُها بِأسْرِها آخِذَةٌ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ وهي حَرَكَةُ الشَّمْسِ اليَوْمِيَّةُ، ثُمَّ قالَ جُمْهُورُ الفَلاسِفَةِ وأصْحابُ الهَيْئَةِ: وهَهُنا حَرَكَةٌ أُخْرى مِنَ المَغْرِبِ إلى المَشْرِقِ قالُوا وهي ظاهِرَةٌ في السَّبْعَةِ السَّيّارَةِ خَفِيَّةٌ في الثّابِتَةِ، واسْتَدَلُّوا عَلَيْها بِأنّا وجَدْنا الكَواكِبَ السَّيّارَةَ كُلَّما كانَ مِنها أسْرَعُ حَرَكَةً إذا قارَنَ ما هو أبْطَأُ حَرَكَةً فَإنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَقَدَّمُهُ نَحْوَ المَشْرِقِ وهَذا في القَمَرِ ظاهِرٌ جِدًّا فَإنَّهُ يَظْهَرُ بَعْدَ الِاجْتِماعِ بِيَوْمٍ أوْ يَوْمَيْنِ مِن ناحِيَةِ المَغْرِبِ عَلى بُعْدٍ مِنَ الشَّمْسِ ثُمَّ يَزْدادُ كُلَّ لَيْلَةٍ بُعْدًا مِنها إلى أنْ يُقابِلَها عَلى قَرِيبٍ مِن نِصْفِ الشَّهْرِ، وكُلُّ كَوْكَبٍ كانَ شَرْقِيًّا مِنهُ عَلى طَرِيقَتِهِ في مَمَرِّ البُرُوجِ يَزْدادُ كُلَّ لَيْلَةٍ قُرْبًا مِنهُ، ثُمَّ إذا أدْرَكَهُ سَتَرَهُ بِطَرَفِهِ الشَّرْقِيِّ وتَنْكَسِفُ تِلْكَ الكَواكِبُ عَنْهُ بِطَرَفِهِ الغَرْبِيِّ فَعَرَفْنا أنَّ لِهَذِهِ الكَواكِبِ السَّيّارَةِ حَرَكَةً مِنَ المَغْرِبِ إلى المَشْرِقِ، وكَذَلِكَ وجَدْنا لِلْكَواكِبِ الثّابِتَةِ حَرَكَةً بَطِيئَةً عَلى تَوالِي البُرُوجِ فَعَرَفْنا أنَّ لَها حَرَكَةً مِنَ المَغْرِبِ إلى المَشْرِقِ. هَذا ما قالُوهُ ونَحْنُ خالَفْناهم فِيهِ، وقُلْنا: إنَّ ذَلِكَ مُحالٌ لِأنَّ الشَّمْسَ مَثَلًا لَوْ كانَتْ مُتَحَرِّكَةً بِذاتِها مِنَ المَغْرِبِ إلى المَشْرِقِ حَرَكَةً بَطِيئَةً ولا شَكَّ أنَّها مُتَحَرِّكَةٌ بِسَبَبِ الحَرَكَةِ اليَوْمِيَّةِ مِنَ المَغْرِبِ إلى المَشْرِقِ لَزِمَ كَوْنُ الجِرْمِ الواحِدِ مُتَحَرِّكًا حَرَكَتَيْنِ إلى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ دَفْعَةً واحِدَةً وذَلِكَ مُحالٌ لِأنَّ الحَرَكَةَ إلى الجِهَةِ تَقْتَضِي حُصُولَ (p-١٤٤)المُتَحَرِّكِ في الجِهَةِ المُنْتَقِلِ إلَيْها فَلَوْ تَحَرَّكَ الجِسْمُ الواحِدُ دَفْعَةً واحِدَةً إلى جِهَتَيْنِ لَزِمَ حُصُولُهُ دَفْعَةً واحِدَةً في مَكانَيْنِ وهو مُحالٌ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: الشَّمْسُ حالَ حَرَكَتِها إلى الجانِبِ الشَّرْقِيِّ تَنْقَطِعُ حَرَكَتُها إلى الجانِبِ الغَرْبِيِّ وبِالعَكْسِ، وأيْضًا فَما ذَكَرْتُمُوهُ يَنْتَقِضُ بِحَرَكَةِ الرَّحى إلى جانِبٍ والنَّمْلَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْها تَتَحَرَّكُ إلى خِلافِ ذَلِكَ الجانِبِ، قُلْنا: أمّا الأوَّلُ فَلا يَسْتَقِيمُ عَلى أُصُولِكم لِأنَّ حَرَكاتِ الأفْلاكِ مَصُونَةٌ عَنِ الِانْقِطاعِ عِنْدَكم، وأمّا الثّانِي فَهو مِثالٌ مُحْتَمَلٌ وما ذَكَرْناهُ بُرْهانٌ قاطِعٌ فَلا يَتَعارَضانِ، أمّا الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ عَلى أنَّ لِلْكَواكِبِ حَرَكَةً مِنَ المَغْرِبِ إلى المَشْرِقِ فَهو ضَعِيفٌ، فَإنَّهُ يُقالُ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ إنَّ جَمِيعَ الكَواكِبِ مُتَحَرِّكَةٌ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ إلّا أنَّ بَعْضَها أبْطَأُ مِنَ البَعْضِ فَيَتَخَلَّفُ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّخَلُّفِ فَيُظَنُّ أنَّها تَتَحَرَّكُ إلى خِلافِ تِلْكَ الجِهَةِ، مَثَلًا الفَلَكُ الأعْظَمُ اسْتِدارَتُهُ مِن أوَّلِ اليَوْمِ الأوَّلِ إلى أوَّلِ اليَوْمِ الثّانِي دَوْرَةٌ تامَّةٌ، وفَلَكُ الثَّوابِتِ اسْتِدارَتُهُ مِن أوَّلِ اليَوْمِ الأوَّلِ إلى أوَّلِ اليَوْمِ الثّانِي دَوْرَةٌ تامَّةٌ إلّا مِقْدارَ ثانِيَةٍ فَيُظَنُّ أنَّ فَلَكَ الثَّوابِتِ تَحَرَّكَ مِنَ الجِهَةِ الأُخْرى مِقْدارَ ثانِيَةٍ ولا يَكُونُ كَذَلِكَ بَلْ ذَلِكَ لِأنَّهُ تَخَلَّفَ بِمِقْدارِ ثانِيَةٍ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَجَمِيعُ الجِهاتِ شَرْقِيَّةٌ وأسْرَعُها الحَرَكَةُ اليَوْمِيَّةِ، ثُمَّ يَلِيها في السُّرْعَةِ فَلَكُ الثَّوابِتِ ثُمَّ يَلِيها زُحَلُ وهَكَذا إلى أنْ يَنْتَهِيَ إلى فَلَكِ القَمَرِ فَهو أبْطَأُ الأفْلاكِ حَرَكَةً، وهَذا الَّذِي قُلْناهُ مَعَ ما يَشْهَدُ لَهُ البُرْهانُ المَذْكُورُ فَهو أقْرَبُ إلى تَرْتِيبِ الوُجُودِ، فَإنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَكُونُ نِهايَةُ الحَرَكَةِ الفَلَكَ المُحِيطَ وهو الفَلَكُ الأعْظَمُ ونِهايَةُ السُّكُونِ الجِرْمَ الَّذِي هو في غايَةِ البُعْدِ وهو الأرْضُ، ثُمَّ إنَّ كُلَّ ما كانَ أقْرَبَ إلى الفَلَكِ المُحِيطِ كانَ أسْرَعَ حَرَكَةً وما كانَ مِنهُ أبْعَدَ كانَ أبْطَأ فَهَذا ما نَقُولُهُ في حَرَكاتِ الأفْلاكِ في أطْوالِها وأمّا حَرَكاتُها في عُرُوضِها فَظاهِرَةٌ وذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلافِ مُيُولِها إلى الشَّمالِ والجَنُوبِ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْكَواكِبِ حَرَكَةٌ في المَيْلِ لَكانَ التَّأْثِيرُ مَخْصُوصًا بِبُقْعَةٍ واحِدَةٍ، فَكانَ سائِرُ الجَوانِبُ تَخْلُو عَنِ المَنافِعِ الحاصِلَةِ مِنهُ، وكانَ الَّذِي يَقْرُبُ مِنهُ مُتَشابِهُ الأحْوالِ وكانَتِ القُوَّةُ هُناكَ لِكَيْفِيَّةٍ واحِدَةٍ، فَإنْ كانَتْ حارَّةً أفْنَتِ الرُّطُوباتِ فَأحالَتْها كُلَّها إلى النّارِيَّةِ، وبِالجُمْلَةِ فَيَكُونُ المَوْضِعُ المُحاذِي لِمَمَرِّ الكَواكِبِ عَلى كَيْفِيَّةٍ، وخَطُّ ما لا يُحاذِيهِ عَلى كَيْفِيَّةٍ أُخْرى، وخَطُّ المُتَوَسِّطِ بَيْنَهُما عَلى كَيْفِيَّةٍ أُخْرى فَيَكُونُ في مَوْضِعٍ شِتاءٌ دائِمٌ ويَكُونُ فِيهِ الهَواءُ والعَجاجَةُ، وفي مَوْضِعٍ آخَرَ صَيْفٌ دائِمٌ يُوجِبُ الِاحْتِراقَ، وفي مَوْضِعٍ آخَرَ رَبِيعٌ أوْ خَرِيفٌ لا يَتِمُّ فِيهِ النُّضْجُ ولَوْ لَمْ تَكُنْ عَوْداتٍ مُتَتالِيَةً، وكانَ الكَوْكَبُ يَتَحَرَّكُ بَطِيئًا لَكانَ المَيْلُ قَلِيلَ المَنفَعَةِ والتَّأْثِيرُ شَدِيدَ الإفْراطِ، وكانَ يَعْرِضُ قَرِيبًا مِمّا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَيْلٌ، ولَوْ كانَتِ الكَواكِبُ أسْرَعَ حَرَكَةً مِن هَذِهِ لَما كَمُلَتِ المَنافِعُ وما تَمَّتْ، وأمّا إذا كانَ هُناكَ مَيْلٌ يَحْفَظُ الحَرَكَةَ في جِهَةٍ مُدَّةً ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلى جِهَةٍ أُخْرى بِمِقْدارِ الحاجَةِ ويَبْقى في كُلِّ جِهَةٍ بُرْهَةً تَمَّ بِذَلِكَ تَأْثِيرُهُ بِحَيْثُ يَبْقى مَصُونًا عَنْ طَرَفَيِ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ. وبِالجُمْلَةِ فالعُقُولُ لا تَقِفُ إلّا عَلى القَلِيلِ مِن أسْرارِ المَخْلُوقاتِ فَسُبْحانَ الخالِقِ المُدَبِّرِ بِالحِكْمَةِ البالِغَةِ والقُدْرَةِ الغَيْرِ المُتَناهِيَةِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَقُولَ: ﴿وكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ إلّا ويَدْخُلُ في الكَلامِ مَعَ الشَّمْسِ والقَمَرِ النُّجُومُ لِيُثْبِتَ مَعْنى الجَمْعِ ومَعْنى الكُلِّ فَصارَتِ النُّجُومُ وإنْ لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً أوَّلًا فَإنَّها مَذْكُورَةٌ لِعَوْدِ هَذا الضَّمِيرِ إلَيْها، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الفَلَكُ في كَلامِ العَرَبِ كُلُّ شَيْءٍ دائِرٍ وجَمْعُهُ أفْلاكٌ، واخْتَلَفَ العُقَلاءُ فِيهِ فَقالَ بَعْضُهم: الفَلَكُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وإنَّما هو مَدارُ هَذِهِ النُّجُومِ وهو قَوْلُ الضَّحّاكِ، وقالَ الأكْثَرُونَ: بَلْ هي أجْسامٌ تَدُورُ النُّجُومُ (p-١٤٥)عَلَيْها، وهَذا أقْرَبُ إلى ظاهِرِ القُرْآنِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّتِهِ فَقالَ بَعْضُهم: الفَلَكُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ تَجْرِي الشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ فِيهِ، وقالَ الكَلْبِيُّ: ماءٌ مَجْمُوعٌ تَجْرِي فِيهِ الكَواكِبُ، واحْتَجَّ بِأنَّ السِّباحَةَ لا تَكُونُ إلّا في الماءِ. قُلْنا: لا نُسَلِّمُ فَإنَّهُ يُقالُ في الفَرَسِ الَّذِي يَمُدُّ يَدَيْهِ في الجَرْيِ سابِحٌ، وقالَ جُمْهُورُ الفَلاسِفَةِ وأصْحابُ الهَيْئَةِ: إنَّها أجْرامٌ صُلْبَةٌ لا ثَقِيلَةٌ ولا خَفِيفَةٌ، غَيْرُ قابِلَةٍ لِلْخَرْقِ والِالتِئامِ والنُّمُوِّ والذُّبُولِ، فَأمّا الكَلامُ عَلى الفَلاسِفَةِ فَهو مَذْكُورٌ في الكُتُبِ اللّائِقَةِ بِهِ، والحَقُّ أنَّهُ لا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَةِ صِفاتِ السَّماواتِ إلّا بِالخَبَرِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اخْتَلَفَ النّاسُ في حَرَكاتِ الكَواكِبِ، والوُجُوهُ المُمْكِنَةُ فِيها ثَلاثَةٌ، فَإنَّهُ إمّا أنْ يَكُونَ الفَلَكُ ساكِنًا والكَواكِبُ تَتَحَرَّكُ فِيهِ كَحَرَكَةِ السَّمَكِ في الماءِ الرّاكِدِ، وإمّا أنْ يَكُونَ الفَلَكُ مُتَحَرِّكًا والكَواكِبُ تَتَحَرَّكُ فِيهِ أيْضًا إمّا مُخالِفًا لِجِهَةِ حَرَكَتِهِ أوْ مُوافِقًا لِجِهَتِهِ إمّا بِحَرَكَةٍ مُساوِيَةٍ لِحَرَكَةِ الفَلَكِ في السُّرْعَةِ والبُطْءِ أوْ مُخالِفَةٍ، وإمّا أنْ يَكُونَ الفَلَكُ مُتَحَرِّكًا والكَوْكَبُ ساكِنًا، أمّا الرَّأْيُ الأوَّلُ فَقالَتِ الفَلاسِفَةُ: إنَّهُ باطِلٌ لِأنَّهُ يُوجِبُ خَرْقَ الأفْلاكِ وهو مُحالٌ، وأمّا الرَّأْيُ الثّانِي فَحَرَكَةُ الكَواكِبِ إنْ فُرِضَتْ مُخالِفَةٌ لِحَرَكَةِ الفَلَكِ فَذاكَ أيْضًا يُوجِبُ الخَرْقَ، وإنْ كانَتْ حَرَكَتُها إلى جِهَةِ الفَلَكِ فَإنْ كانَتْ مُخالِفَةً لَها في السُّرْعَةِ والبُطْءِ لَزِمَ الِانْخِراقُ، وإنِ اسْتَوَيا في الجِهَةِ والسُّرْعَةِ والبُطْءِ فالخَرْقُ أيْضًا لازِمٌ؛ لِأنَّ الكَواكِبَ تَتَحَرَّكُ بِالعَرْضِ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الفَلَكِ فَتَبْقى حَرَكَتُهُ الذّاتِيَّةُ زائِدَةٌ فَيَلْزَمُ الخَرْقُ فَلَمْ يَبْقَ إلّا القِسْمُ الثّالِثُ وهو أنْ يَكُونَ الكَوْكَبُ مَغْرُوزًا في الفَلَكِ واقِفًا فِيهِ والفَلَكُ يَتَحَرَّكُ فَيَتَحَرَّكُ الكَوْكَبُ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الفَلَكِ، واعْلَمْ أنَّ مَدارَ هَذا الكَلامِ عَلى امْتِناعِ الخَرْقِ عَلى الأفْلاكِ وهو باطِلٌ بَلِ الحَقُّ أنَّ الأقْسامَ الثَّلاثَةَ مُمْكِنَةٌ، واللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ القُرْآنِ أنْ تَكُونَ الأفْلاكُ واقِفَةً والكَواكِبُ تَكُونُ جارِيَةً فِيها كَما تَسْبَحُ السَّمَكَةُ في الماءِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: (كُلٌّ) التَّنْوِينُ فِيهِ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ أيْ كُلُّهم في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: احْتَجَّ أبُو عَلِيِّ بْنُ سِينا عَلى كَوْنِ الكَواكِبِ أحْياءً ناطِقَةً بِقَوْلِهِ: ﴿يَسْبَحُونَ﴾ قالَ: والجَمْعُ بِالواوِ والنُّونِ لا يَكُونُ إلّا لِلْعُقَلاءِ، وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ [يُوسُفَ: ٤]، والجَوابُ: إنَّما جَعَلَ واوَ الضَّمِيرِ لِلْعُقَلاءِ لِلْوَصْفِ بِفِعْلِهِمْ وهو السِّباحَةُ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: فَإنْ قُلْتَ: الجُمْلَةُ ما مَحَلُّها ؟ قُلْتُ: النَّصْبُ عَلى الحالِ مِنَ الشَّمْسِ والقَمَرِ أوْ لا مَحَلَّ لَها لِاسْتِئْنافِها، فَإنْ قُلْتَ: لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ القَمَرَيْنِ فَلَكٌ عَلى حِدَةٍ فَكَيْفَ قِيلَ جَمِيعُهم يَسْبَحُونَ في فَلَكٍ ؟ قُلْتُ: هَذا كَقَوْلِهِمْ كَساهُمُ الأمِيرُ حُلَّةً وقَلَّدَهم سَيْفًا أيْ كُلَّ واحِدٍ مِنهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب