الباحث القرآني

أمّا قَوْلُهُ: ﴿إلّا اسْتَمَعُوهُ وهم يَلْعَبُونَ﴾ ﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أنَّ ذَلِكَ ذَمٌّ لِلْكُفّارِ وزَجْرٌ لِغَيْرِهِمْ عَنْ مِثْلِهِ؛ لِأنَّ الِانْتِفاعَ بِما يُسْمَعُ لا يَكُونُ إلّا بِما يَرْجِعُ إلى القَلْبِ مِن تَدَبُّرٍ وتَفَكُّرٍ، وإذا كانُوا عِنْدَ اسْتِماعِهِ لاعِبِينَ حَصَلُوا عَلى مُجَرَّدِ الِاسْتِماعِ الَّذِي قَدْ تُشارِكُ البَهِيمَةُ فِيهِ الإنْسانَ، ثُمَّ أكَّدَ تَعالى ذَمَّهم بِقَوْلِهِ: ﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ واللّاهِيَةُ مِن لَهى عَنْهُ إذا ذَهَلَ وغَفَلَ، وإنَّما ذَكَرَ اللَّعِبَ مُقَدَّمًا عَلى اللَّهْوِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ﴾ [مُحَمَّدٍ: ٣٦] تَنْبِيهًا عَلى أنَّ اشْتِغالَهم بِاللَّعِبِ الَّذِي مَعْناهُ السُّخْرِيَةُ، والِاسْتِهْزاءُ مُعَلَّلٌ بِاللَّهْوِ الَّذِي مَعْناهُ الذُّهُولُ والغَفْلَةُ، فَإنَّهم أقْدَمُوا عَلى اللَّعِبِ لِلَهْوِهِمْ وذُهُولِهِمْ عَنِ الحَقِّ، واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: ﴿وهم يَلْعَبُونَ﴾ ﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ حالانِ مُتَرادِفانِ أوْ مُتَداخِلانِ، ومَن قَرَأ لاهِيَةٌ بِالرَّفْعِ فالحالُ واحِدَةٌ لِأنَّ لاهِيَةً قُلُوبُهم خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِقَوْلِهِ: (وهم) . أمّا قَوْلُهُ: ﴿وأسَرُّوا النَّجْوى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ فَفِيهِ سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: النَّجْوى وهي اسْمٌ مِنَ التَّناجِي لا تَكُونُ إلّا خُفْيَةً فَما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وأسَرُّوا النَّجْوى﴾، الجَوابُ: مَعْناهُ بالَغُوا في إخْفائِها وجَعَلُوها بِحَيْثُ لا يَفْطُنُ أحَدٌ لِتَناجِيهِمْ. السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ قالَ: ﴿وأسَرُّوا النَّجْوى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾، الجَوابُ: أبْدَلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَن أسَرُّوا إشْعارًا بِأنَّهم هُمُ المَوْسُومُونَ بِالظُّلْمِ الفاحِشِ فِيما أسَرُّوا بِهِ أوْ جاءَ عَلى لُغَةِ مَن قالَ: أكَلُونِي البَراغِيثُ، أوْ هو مَنصُوبُ المَحَلِّ عَلى الذَّمِّ، أوْ هو مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ: ﴿وأسَرُّوا النَّجْوى﴾ قُدِّمَ عَلَيْهِ والمَعْنى وهَؤُلاءِ أسَرُّوا النَّجْوى فَوَضَعَ المُظْهَرَ مَوْضِعَ المُضْمَرِ تَسْجِيلًا عَلى فِعْلِهِمْ بِأنَّهُ ظُلْمٌ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿هَلْ هَذا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكم أفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ هَذا الكَلامُ كُلُّهُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بَدَلًا مِنَ النَّجْوى أيْ وأسَرُّوا هَذا الحَدِيثَ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وأسَرُّوا النَّجْوى وقالُوا هَذا الكَلامَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إنَّما أسَرُّوا هَذا الحَدِيثَ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ كانَ ذَلِكَ شُبْهَةَ التَّشاوُرِ فِيما بَيْنَهم والتَّحاوُرِ في طَلَبِ الطَّرِيقِ إلى هَدْمِ أمْرِهِ، وعادَةُ المُتَشاوِرِينَ أنْ يَجْتَهِدُوا في كِتْمانِ سِرِّهِمْ عَنْ أعْدائِهِمْ. الثّانِي: يَجُوزُ أنْ يُسِرُّوا نَجْواهم بِذَلِكَ ثُمَّ يَقُولُوا لِرَسُولِ اللَّهِ والمُؤْمِنِينَ إنْ كانَ ما تَدْعُونَهُ حَقًّا فَأخْبِرُونا بِما أسْرَرْناهُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أنَّهم طَعَنُوا في نُبُوَّتِهِ بِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهم. والثّانِي: أنَّ الَّذِي أتى بِهِ سِحْرٌ، وكِلا الطَّعْنَيْنِ فاسِدٌ، أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّ النُّبُوَّةَ تَقِفُ صِحَّتُها عَلى المُعْجِزاتِ والدَّلائِلِ لا عَلى الصُّوَرِ، إذْ لَوْ بَعَثَ المَلَكَ إلَيْهِمْ لَما عُلِمَ كَوْنُهُ نَبِيًّا لِصُورَتِهِ، وإنَّما كانَ يُعْلَمُ بِالعِلْمِ فَإذا ظَهَرَ ذَلِكَ عَلى مَن هو بَشَرٌ فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ نَبِيًّا، بَلِ الأوْلى أنْ يَكُونَ المَبْعُوثُ إلى البَشَرِ بَشَرًا لِأنَّ المَرْءَ إلى القَبُولِ مِن أشْكالِهِ أقْرَبُ (p-١٢٣)وهُوَ بِهِ آنَسُ. وأمّا الثّانِي: وهو أنَّ ما أتى بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ سِحْرٌ وأنَّهم يَرَوْنَ كَوْنَهُ سِحْرًا فَجَهْلٌ أيْضًا، لِأنَّ كُلَّ ما أتى بِهِ الرَّسُولُ مِنَ القُرْآنِ وغَيْرِهِ ظاهِرُ الحالِ لا تَمْوِيهَ فِيهِ ولا تَلْبِيسَ فِيهِ، فَقَدْ كانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَتَحَدّاهم بِالقُرْآنِ حالًا بَعْدَ حالٍ مُدَّةً مِنَ الزَّمانِ وهم أرْبابُ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ، وكانُوا في نِهايَةِ الحِرْصِ عَلى إبْطالِ أمْرِهِ، وأقْوى الأُمُورِ في إبْطالِ أمْرِهِ مُعارَضَةُ القُرْآنِ، فَلَوْ قَدِرُوا عَلى المُعارَضَةِ لامْتَنَعَ أنْ لا يَأْتُوا بِها لِأنَّ الفِعْلَ عِنْدَ تَوافُرِ الدَّواعِي وارْتِفاعِ الصّارِفِ واجِبُ الوُقُوعِ، فَلَمّا لَمْ يَأْتُوا بِها دَلَّنا ذَلِكَ عَلى أنَّهُ في نَفْسِهِ مُعْجِزَةٌ وأنَّهم عَرَفُوا حالَهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ سَحِرٌ، والحالُ عَلى ما ذَكَرْناهُ ؟ وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا عالِمِينَ بِصِدْقِهِ، إلّا أنَّهم كانُوا يُمَوِّهُونَ عَلى ضُعَفائِهِمْ بِمِثْلِ هَذا القَوْلِ وإنْ كانُوا فِيهِ مُكابِرِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب