الباحث القرآني
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ أهْلُ النَّحْوِ إلّا هَهُنا بِمَعْنى غَيْرُ، أيْ لَوْ كانَ يَتَوَلّاهُما ويُدَبِّرُ أُمُورَهُما شَيْءٌ غَيْرُ الواحِدِ الَّذِي هو فاطِرُهُما لَفَسَدَتا، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الِاسْتِثْناءِ لِأنّا لَوْ حَمَلْناهُ عَلى الِاسْتِثْناءِ لَكانَ المَعْنى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ لَيْسَ مَعَهُمُ اللَّهُ لَفَسَدَتا، وهَذا يُوجِبُ بِطَرِيقِ المَفْهُومِ أنَّهُ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ مَعَهُمُ اللَّهُ أنْ لا يَحْصُلَ الفَسادُ، وذَلِكَ باطِلٌ لِأنَّهُ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ فَسَواءٌ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهم أوْ كانَ فالفَسادُ لازِمٌ. ولَمّا بَطَلَ حَمْلُهُ عَلى الِاسْتِثْناءِ ثَبَتَ أنَّ المُرادَ ما ذَكَرْناهُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ المُتَكَلِّمُونَ: القَوْلُ بِوُجُودِ إلَهَيْنِ يُفْضِي إلى المُحالِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ القَوْلُ بِوُجُودِ إلَهَيْنِ مُحالًا، إنَّما قُلْنا إنَّهُ يُفْضِي إلى المُحالِ لِأنّا لَوْ فَرَضْنا وُجُودَ إلَهَيْنِ فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما قادِرًا عَلى كُلِّ المَقْدُوراتِ، ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما قادِرًا عَلى تَحْرِيكِ زَيْدٍ وتَسْكِينِهِ، فَلَوْ فَرَضْنا أنَّ أحَدَهُما أرادَ تَحْرِيكَهُ والآخَرَ تَسْكِينَهُ فَإمّا أنْ يَقَعَ المَرادانِ وهو مُحالٌ لِاسْتِحالَةِ الجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، أوْ لا يَقَعَ واحِدٌ مِنهُما وهو مُحالٌ لِأنَّ المانِعَ مِن وُجُودِ مُرادِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما مُرادُ الآخَرِ، فَلا يَمْتَنِعُ مُرادُ هَذا إلّا عِنْدَ وُجُودِ مُرادِ ذَلِكَ وبِالعَكْسِ، فَلَوِ امْتَنَعا مَعًا لَوُجِدا مَعًا وذَلِكَ مُحالٌ، أوْ يَقَعُ مُرادُ أحَدِهِما دُونَ الثّانِي وذَلِكَ مُحالٌ أيْضًا لِوَجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ لَوْ كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما قادِرًا عَلى ما لا نِهايَةَ لَهُ امْتَنَعَ كَوْنُ أحَدِهِما أقْدَرَ مِنَ الآخَرِ بَلْ لا بُدَّ وأنْ يَسْتَوِيا في القُدْرَةِ، وإذا اسْتَوَيا في القُدْرَةِ اسْتَحالَ أنْ يَصِيرَ مُرادُ أحَدِهِما أوْلى بِالوُقُوعِ مِن مُرادِ الثّانِي وإلّا لَزِمَ تَرْجِيحُ المُمْكِنِ مِن غَيْرِ مُرَجَّحٍ. وثانِيهِما: أنَّهُ إذا وقَعَ مُرادُ أحَدِهِما دُونَ الآخَرِ فالَّذِي وقَعَ مُرادُهُ يَكُونُ قادِرًا والَّذِي لَمْ يَقَعْ مُرادُهُ يَكُونُ عاجِزًا والعَجْزُ نَقْصٌ وهو عَلى اللَّهِ مُحالٌ. فَإنْ قِيلَ: الفَسادُ إنَّما يَلْزَمُ عِنْدَ اخْتِلافِهِما في الإرادَةِ وأنْتُمْ لا تَدَّعُونَ وُجُوبَ اخْتِلافِهِما في الإرادَةِ بَلْ أقْصى ما تَدَّعُونَهُ أنَّ اخْتِلافَهُما في الإرادَةِ مُمْكِنٌ، فَإذا كانَ الفَسادُ مَبْنِيًّا عَلى الِاخْتِلافِ في الإرادَةِ وهَذا الِاخْتِلافُ مُمْكِنٌ والمَبْنِيُّ عَلى المُمْكِنِ مُمْكِنٌ فَكانَ الفَسادُ مُمْكِنًا لا واقِعًا فَكَيْفَ جَزَمَ اللَّهُ تَعالى بِوُقُوعِ الفَسادِ ؟ قُلْنا: الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: لَعَلَّهُ سُبْحانَهُ أجْرى المُمْكِنَ مَجْرى الواقِعِ بِناءً عَلى الظّاهِرِ مِن حَيْثُ إنَّ الرَّعِيَّةَ تَفْسَدُ بِتَدْبِيرِ المَلِكَيْنِ لِما يَحْدُثُ بَيْنَهُما مِنَ التَّغالُبِ. والثّانِي: وهو الأقْوى أنْ نُبَيِّنَ لُزُومَ الفَسادِ لا مِنَ الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ بَلْ مِن وجْهٍ آخَرَ، فَنَقُولُ: لَوْ فَرَضْنا إلَهَيْنِ لَكانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما قادِرًا عَلى جَمِيعِ المَقْدُوراتِ فَيُفْضِي إلى وُقُوعِ مَقْدُورٍ مِن قادِرَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ مِن وجْهٍ واحِدٍ وهو مُحالٌ لِأنَّ اسْتِنادَ الفِعْلِ إلى الفاعِلِ لِإمْكانِهِ فَإذا كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُسْتَقِلًّا بِالإيجادِ فالفِعْلُ لِكَوْنِهِ مَعَ هَذا يَكُونُ واجِبَ الوُقُوعِ فَيَسْتَحِيلُ إسْنادُهُ إلى هَذا لِكَوْنِهِ حاصِلًا مِنهُما (p-١٣١)جَمِيعًا فَيَلْزَمُ اسْتِغْناؤُهُ عَنْهُما مَعًا واحْتِياجُهُ إلَيْهِما مَعًا وذَلِكَ مُحالٌ. وهَذِهِ حُجَّةٌ تامَّةٌ في مَسْألَةِ التَّوْحِيدِ، فَنَقُولُ: القَوْلُ بِوُجُودِ الإلَهَيْنِ يُفْضِي إلى امْتِناعِ وُقُوعِ المَقْدُورِ لِواحِدٍ مِنهُما، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ لا يَقَعَ البَتَّةَ وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ وُقُوعُ الفَسادِ قَطْعًا، أوْ نَقُولُ: لَوْ قَدَّرْنا إلَهَيْنِ فَإمّا أنْ يَتَّفِقا أوْ يَخْتَلِفا، فَإنِ اتَّفَقا عَلى الشَّيْءِ الواحِدِ فَذَلِكَ الواحِدُ مَقْدُورٌ لَهُما ومُرادٌ لَهُما فَيَلْزَمُ وُقُوعُهُ بِهِما وهو مُحالٌ، وإنِ اخْتَلَفا فَإمّا أنْ يَقَعَ المُرادانِ أوْ لا يَقَعَ واحِدٌ مِنهُما أوْ يَقَعَ أحَدُهُما دُونَ الآخَرِ والكُلُّ مُحالٌ فَثَبَتَ أنَّ الفَسادَ لازِمٌ عَلى كُلِّ التَّقْدِيراتِ، فَإنْ قُلْتَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَتَّفِقا عَلى الشَّيْءِ الواحِدِ ولا يَلْزَمُ الفَسادُ لِأنَّ الفَسادَ إنَّما يَلْزَمُ لَوْ أرادَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما أنْ يُوجِدَهُ هو وهَذا اخْتِلافٌ، أمّا إذا أرادَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما أنْ يَكُونَ المُوجِدُ لَهُ أحَدَهُما بِعَيْنِهِ فَهُناكَ لا يَلْزَمُ وُقُوعُ مَخْلُوقٍ بَيْنَ خالِقَيْنِ، قُلْتُ: كَوْنُهُ مُوجِدًا لَهُ، إمّا أنْ يَكُونَ نَفْسَ القُدْرَةِ والإرادَةِ أوْ نَفْسَ ذَلِكَ الأثَرِ أوْ أمْرًا ثالِثًا، فَإنْ كانَ الأوَّلَ لَزِمَ الِاشْتِراكُ في القُدْرَةِ والإرادَةِ والِاشْتِراكِ في المُوجِدِ، وإنْ كانَ الثّانِي فَلَيْسَ وُقُوعُ ذَلِكَ الأثَرِ بِقُدْرَةِ أحَدِهِما وإرادَتِهِ أوْلى مِن وُقُوعِهِ بِقُدْرَةِ الثّانِي؛ لِأنَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما إرادَةً مُسْتَقِلَّةً بِالتَّأْثِيرِ، وإنْ كانَ الثّالِثَ وهو أنْ يَكُونَ المُوجِدُ لَهُ أمْرًا ثالِثًا فَذَلِكَ الثّالِثُ إنْ كانَ قَدِيمًا اسْتَحالَ كَوْنُهُ مُتَعَلِّقَ الإرادَةِ، وإنْ كانَ حادِثًا فَهو نَفْسُ الأثَرِ، ويَصِيرُ هَذا القِسْمُ هو القِسْمُ الثّانِي الَّذِي ذَكَرْناهُ. واعْلَمْ أنَّكَ لَمّا وقَفْتَ عَلى حَقِيقَةِ هَذِهِ الدَّلالَةِ عَرَفْتَ أنَّ جَمِيعَ ما في هَذا العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ مِنَ المُحْدَثاتِ والمَخْلُوقاتِ فَهو دَلِيلُ وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى بَلْ وُجُودُ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الجَواهِرِ والأعْراضِ دَلِيلٌ تامٌّ عَلى التَّوْحِيدِ مِنَ الوَجْهِ الَّذِي بَيَّنّاهُ. وهَذِهِ الدَّلالَةُ قَدْ ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى في مَواضِعَ مِن كِتابِهِ، واعْلَمْ أنَّ هَهُنا أدِلَّةً أُخْرى عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى.
أحَدُها وهو الأقْوى: أنْ يُقالَ: لَوْ فَرَضْنا مَوْجُودَيْنِ واجِبَيِ الوُجُودِ لِذاتَيْهِما فَلا بُدَّ وأنْ يَشْتَرِكا في الوُجُودِ ولا بُدَّ وأنْ يَمْتازَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَنِ الآخَرِ بِنَفْسِهِ وما بِهِ المُشارَكَةُ غَيْرُ ما بِهِ المُمايَزَةُ فَيَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُرَكَّبًا مِمّا بِهِ يُشارِكُ الآخَرَ ومِمّا بِهِ امْتازَ عَنْهُ، وكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهو مُفْتَقِرٌ إلى جُزْئِهِ وجُزْؤُهُ غَيْرُهُ، فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهو مُفْتَقِرٌ إلى غَيْرِهِ، وكُلُّ مُفْتَقِرٍ إلى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، فَواجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ مُمْكِنُ الوُجُودِ لِذاتِهِ. هَذا خُلْفٌ، فَإذِنْ واجِبُ الوُجُودِ لَيْسَ إلّا الواحِدُ وكُلُّ ما عَداهُ فَهو مُمْكِنٌ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ وكُلُّ مُفْتَقِرٍ في وُجُودِهِ إلى الغَيْرِ فَهو مُحْدَثٌ فَكُلُّ ما سِوى اللَّهِ تَعالى مُحْدَثٌ، ويُمْكِنُ جَعْلُ هَذِهِ الدَّلالَةِ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الآيَةِ؛ لِأنّا إنَّما دَلَّلْنا عَلى أنَّهُ يَلْزَمُ مِن فَرْضِ مَوْجُودَيْنِ واجِبَيْنِ أنْ لا يَكُونَ شَيْءٌ مِنهُما واجِبًا وإذا لَمْ يُوجَدِ الواجِبُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِن هَذِهِ المُمْكِناتِ، وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الفَسادُ فَثَبَتَ أنَّهُ يَلْزَمُ مِن وُجُودِ إلَهَيْنِ وُقُوعُ الفَسادِ في كُلِّ العالَمِ. وثانِيها: أنّا لَوْ قَدَّرْنا إلَهَيْنِ لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُشارِكًا لِلْآخَرِ في الإلَهِيَّةِ، ولا بُدَّ وأنْ يَتَمَيَّزَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَنِ الآخَرِ بِأمْرٍ ما وإلّا لَما حَصَلَ التَّعَدُّدُ، فَما بِهِ المُمايَزَةُ إمّا أنْ يَكُونَ صِفَةَ كَمالٍ أوْ لا يَكُونَ، فَإنْ كانَ صِفَةَ كَمالٍ فالخالِي عَنْهُ يَكُونُ خالِيًا عَنِ الكَمالِ فَيَكُونُ ناقِصًا والنّاقِصُ لا يَكُونُ إلَهًا، وإنْ لَمْ يَكُنْ صِفَةَ كَمالٍ فالمَوْصُوفُ بِهِ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِما لا يَكُونُ صِفَةَ كَمالٍ فَيَكُونُ ناقِصًا، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: ما بِهِ المُمايَزَةُ إنْ كانَ مُعْتَبَرًا في تَحَقُّقِ الإلَهِيَّةِ فالخالِي عَنْهُ لا يَكُونُ إلَهًا وإنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا في الإلَهِيَّةِ لَمْ يَكُنِ الِاتِّصافُ بِهِ واجِبًا فَيَفْتَقِرُ إلى المُخَصَّصِ فالمَوْصُوفُ بِهِ مُفْتَقِرٌ ومُحْتاجٌ. وثالِثُها: أنْ يُقالَ: لَوْ فَرَضْنا إلَهَيْنِ لَكانَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ الغَيْرُ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُما، لَكِنَّ الِامْتِيازَ في عُقُولِنا لا يَحْصُلُ إلّا بِالتَّبايُنِ في المَكانِ أوْ في الزَّمانِ أوْ في الوُجُوبِ والإمْكانِ، وكُلُّ ذَلِكَ عَلى الإلَهِ مُحالٌ فَيَمْتَنِعُ حُصُولُ الِامْتِيازِ. ورابِعُها: أنَّ أحَدَ الإلَهَيْنِ إمّا أنْ يَكُونَ كافِيًا في تَدْبِيرِ العالَمِ أوْ لا يَكُونَ فَإنْ كانَ كافِيًا كانَ الثّانِي ضائِعًا غَيْرَ مُحْتاجٍ إلَيْهِ، وذَلِكَ نَقْصٌ والنّاقِصُ لا (p-١٣٢)يَكُونُ إلَهًا. وخامِسُها: أنَّ العَقْلَ يَقْتَضِي احْتِياجَ المُحْدَثِ إلى الفاعِلِ ولا امْتِناعَ في كَوْنِ الفاعِلِ الواحِدِ مُدَبِّرًا لِكُلِّ العالَمِ، فَأمّا ما وراءَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَدَدٌ أوْلى مِن عَدَدٍ فَيُفْضِي ذَلِكَ إلى وُجُودِ أعْدادٍ لا نِهايَةَ لَها وذَلِكَ مُحالٌ فالقَوْلُ بِوُجُودِ الآلِهَةِ مُحالٌ. وسادِسُها: أنَّ أحَدَ الإلَهَيْنِ إمّا أنْ يَقْدِرَ عَلى أنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ولا يَدُلُّ عَلى غَيْرِهِ أوْ لا يَقْدِرَ عَلَيْهِ، والأوَّلُ مُحالٌ لِأنَّ دَلِيلَ الصّانِعِ لَيْسَ إلّا بِالمُحْدَثاتِ ولَيْسَ في حُدُوثِ المُحْدَثاتِ ما يَدُلُّ عَلى تَعْيِينِ أحَدِهِما دُونَ الثّانِي، والتّالِي مُحالٌ لِأنَّهُ يُفْضِي إلى كَوْنِهِ عاجِزًا عَنْ تَعْرِيفِ نَفْسِهِ عَلى التَّعْيِينِ، والعاجِزُ لا يَكُونُ إلَهًا. وسابِعُها: أنَّ أحَدَ الإلَهَيْنِ إمّا أنْ يَقْدِرَ عَلى أنْ يَسْتُرَ شَيْئًا مِن أفْعالِهِ عَنِ الآخَرِ أوْ لا يَقْدِرَ، فَإنْ قَدَرَ لَزِمَ أنْ يَكُونَ المَسْتُورُ عَنْهُ جاهِلًا، وإنْ لَمْ يَقْدِرْ لَزِمَ كَوْنُهُ عاجِزًا. وثامِنُها: لَوْ قَدَّرْنا إلَهَيْنِ لَكانَ مَجْمُوعُ قُدْرَتَيْهِما بَيْنَهُما أقْوى مِن قُدْرَةِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما وحْدَهُ، فَيَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ القُدْرَتَيْنِ مُتَناهِيًا والمَجْمُوعُ ضِعْفُ المُتَناهِي فَيَكُونُ الكُلُّ مُتَناهِيًا. وتاسِعُها: العَدَدُ ناقِصٌ لِاحْتِياجِهِ إلى الواحِدِ، والواحِدُ الَّذِي يُوجَدُ مِن جِنْسِهِ عَدَدٌ ناقِصٌ ناقِصٌ، لِأنَّ العَدَدَ أزْيَدُ مِنهُ، والنّاقِصُ لا يَكُونُ إلَهًا فالإلَهُ واحِدٌ لا مَحالَةَ. وعاشِرُها: أنّا لَوْ فَرَضْنا مَعْدُومًا مُمْكِنَ الوُجُودِ ثُمَّ قَدَّرْنا إلَهَيْنِ فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ واحِدٌ مِنهُما عَلى إيجادِهِ كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عاجِزًا والعاجِزُ لا يَكُونُ إلَهًا، وإنْ قَدَرَ أحَدُهُما دُونَ الآخَرِ فَهَذا الآخَرُ يَكُونُ إلَهًا، وإنْ قَدِرا جَمِيعًا فَإمّا أنْ يُوجِداهُ بِالتَّعاوُنِ فَيَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُحْتاجًا إلى إعانَةِ الآخَرِ، وإنْ قَدَرَ كُلُّ واحِدٍ عَلى إيجادِهِ بِالِاسْتِقْلالِ فَإذا أوْجَدَهُ أحَدُهُما فَإمّا أنْ يَبْقى الثّانِي قادِرًا عَلَيْهِ وهو مُحالٌ لِأنَّ إيجادَ المَوْجُودِ مُحالٌ، وإنْ لَمْ يَبْقَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الأوَّلُ قَدْ أزالَ قُدْرَةَ الثّانِي وعَجْزَهُ فَيَكُونُ مَقْهُورًا تَحْتَ تَصَرُّفِهِ فَلا يَكُونُ إلَهًا. فَإنْ قِيلَ الواجِدُ إذا أوْجَدَ مَقْدُورَهُ فَقَدْ زالَتْ قُدْرَتُهُ عَنْهُ فَيَلْزَمُكُمُ العَجْزُ، قُلْنا: الواحِدُ إذا أوْجَدَهُ فَقَدْ نَفَذَتْ قُدْرَتُهُ فَنَفاذُ القُدْرَةِ لا يَكُونُ عَجْزًا، أمّا الشَّرِيكُ فَإنَّهُ لَمّا نَفَذَتْ قُدْرَتُهُ لَمْ يَبْقَ لِشَرِيكِهِ قُدْرَةٌ البَتَّةَ بَلْ زالَتْ قُدْرَتُهُ بِسَبَبِ قُدْرَةِ الأوَّلِ فَيَكُونُ تَعْجِيزًا. الحادِيَ عَشَرَ: أنَّ نُقَرِّرَ هَذِهِ الدَّلالَةَ عَلى وجْهٍ آخَرَ وهو أنْ نُعَيِّنَ جِسْمًا ونَقُولَ هَلْ يَقْدِرُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَلى خَلْقِ الحَرَكَةِ فِيهِ بَدَلًا عَنِ السُّكُونِ وبِالعَكْسِ، فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ كانَ عاجِزًا وإنْ قَدَرَ فَنَسُوقُ الدَّلالَةَ إلى أنْ نَقُولَ: إذا خَلَقَ أحَدُهُما فِيهِ حَرَكَةً امْتَنَعَ عَلى الثّانِي خَلْقُ السُّكُونِ، فالأوَّلُ أزالَ قُدْرَةَ الثّانِي وعَجَّزَهُ فَلا يَكُونُ إلَهًا، وهَذانَ الوَجْهانِ يُفِيدانِ العَجْزَ نَظَرًا إلى قُدْرَتَيْهِما، والدَّلالَةُ الأُولى إنَّما تُفِيدُ العَجْزَ بِالنَّظَرِ إلى إرادَتَيْهِما. وثانِي عَشَرَها: أنَّهُما لَمّا كانا عالِمَيْنِ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ كانَ عِلْمُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ مَعْلُومِ الآخَرِ فَوَجَبَ تَماثُلُ عِلْمَيْهِما، والذّاتُ القابِلَةُ لِأحَدِ المِثْلَيْنِ قابِلَةٌ لِلْمِثْلِ الآخَرِ، فاخْتِصاصُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما بِتِلْكَ الصِّفَةِ مَعَ جَوازِ اتِّصافِهِ بِصِفَةِ الآخَرِ عَلى البَدَلِ يَسْتَدْعِي مُخَصِّصًا يُخَصِّصُ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما بِعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ فَيَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَبْدًا فَقِيرًا ناقِصًا. وثالِثَ عَشَرَها: أنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ ونَقْصٌ في الشّاهِدِ، والفَرْدانِيَّةُ والتَّوَحُّدُ صِفَةُ كَمالٍ، ونَرى المُلُوكَ يَكْرَهُونَ الشَّرِكَةَ في المُلْكِ الحَقِيرِ المُخْتَصَرِ أشَدَّ الكَراهِيَةِ، ونَرى أنَّهُ كُلَّما كانَ المُلْكُ أعْظَمَ كانَتِ النَّفْرَةُ عَنِ الشَّرِكَةِ أشَدَّ، فَما ظَنُّكَ بِمُلْكِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ومَلَكُوتِهِ، فَلَوْ أرادَ أحَدُهُما اسْتِخْلاصَ المُلْكِ لِنَفْسِهِ فَإنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كانَ المَغْلُوبُ فَقِيرًا عاجِزًا فَلا يَكُونُ إلَهًا، وإنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ كانَ في أشَدِّ الغَمِّ والكَراهِيَةِ فَلا يَكُونُ إلَهًا. ورابِعَ عَشَرَها: أنّا لَوْ قَدَّرْنا إلَهَيْنِ لَكانَ إمّا أنْ يَحْتاجَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما إلى الآخَرِ أوْ يَسْتَغْنِيَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَنِ الآخَرِ أوْ يَحْتاجَ أحَدُهُما إلى الآخَرِ والآخَرُ يَسْتَغْنِي عَنْهُ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما ناقِصًا لِأنَّ المُحْتاجَ ناقِصٌ، وإنْ كانَ الثّانِيَ كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ، والمُسْتَغْنى عَنْهُ ناقِصٌ، ألا تَرى أنَّ البَلَدَ إذا كانَ لَهُ رَئِيسٌ والنّاسُ يُحَصِّلُونَ مَصالِحَ البَلَدِ (p-١٣٣)مِن غَيْرِ رُجُوعٍ مِنهم إلَيْهِ ومِن غَيْرِ التِفاتٍ مِنهم إلَيْهِ عُدَّ ذَلِكَ الرَّئِيسُ ناقِصًا، فالإلَهُ هو الَّذِي يُسْتَغْنى بِهِ ولا يُسْتَغْنى عَنْهُ، وإنِ احْتاجَ أحَدُهُما إلى الآخَرِ مِن غَيْرِ عَكْسٍ كانَ المُحْتاجُ ناقِصًا والمُحْتاجُ إلَيْهِ هو الإلَهُ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ ظَنِّيَّةٌ إقْناعِيَّةٌ والِاعْتِمادَ عَلى الوُجُوهِ المُتَقَدِّمَةِ، أمّا الدَّلائِلُ السَّمْعِيَّةُ فَمِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ﴾ [الحَدِيدِ: ٣] فالأوَّلُ هو الفَرْدُ السّابِقُ، ولِذَلِكَ لَوْ قالَ: أوَّلُ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ فَهو حُرٌّ فَلَوِ اشْتَرى أوَّلًا عَبْدَيْنِ لَمْ يَحْنَثْ لِأنَّ شَرْطَ الأوَّلِ أنْ يَكُونَ فَرْدًا وهَذا لَيْسَ بِفَرْدٍ، فَلَوِ اشْتَرى بَعْدَ ذَلِكَ واحِدًا لَمْ يَحْنَثْ أيْضًا لِأنَّ شَرْطَ الفَرْدِ أنْ يَكُونَ سابِقًا وهَذا لَيْسَ بِسابِقٍ، فَلَمّا وصَفَ اللَّهُ تَعالى نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ أوَّلًا وجَبَ أنْ يَكُونَ فَرْدًا سابِقًا فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ. وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ﴾ [الأنْعامِ: ٥٩] فالنَّصُّ يَقْتَضِي أنْ لا يَكُونَ أحَدٌ سِواهُ عالِمًا بِالغَيْبِ ولَوْ كانَ لَهُ شَرِيكٌ لَكانَ عالِمًا بِالغَيْبِ وهو خِلافُ النَّصِّ. وثالِثُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى صَرَّحَ بِكَلِمَةِ ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٥٥] في سَبْعَةٍ وثَلاثِينَ مَوْضِعًا مِن كِتابِهِ، وصَرَّحَ بِالوَحْدانِيَّةِ في مَواضِعَ نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿وإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ﴾ [البَقَرَةِ: ١٦٣] وقَوْلِهِ: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ [الإخْلاصِ: ١] وكُلُّ ذَلِكَ صَرِيحٌ في البابِ. ورابِعُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ حُكْمٌ بِهَلاكِ كُلِّ ما سِواهُ، ومَن عُدِمَ بَعْدَ وجُودِهِ لا يَكُونُ قَدِيمًا، ومَن لا يَكُونُ قَدِيمًا لا يَكُونُ إلَهًا. وخامِسُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ وهو كَقَوْلِهِ: ﴿ولَعَلا بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٩١] وقَوْلِهِ: ﴿إذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا﴾ [الإسْراءِ: ٤٢] . وسادِسُها: قَوْلُهُ: ﴿وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إلّا هو وإنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [يُونُسَ: ١٠٧] وقالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿قُلْ أفَرَأيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إنْ أرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أوْ أرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ﴾ [الزُّمَرِ: ٣٨] . وسابِعُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ أخَذَ اللَّهُ سَمْعَكم وأبْصارَكم وخَتَمَ عَلى قُلُوبِكم مَن إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكم بِهِ﴾ [الأنْعامِ: ٤٦] وهَذا الحَصْرُ يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الشَّرِيكِ. وثامِنُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزُّمَرِ: ٦٢] فَلَوْ وُجِدَ الشَّرِيكُ لَمْ يَكُنْ خالِقًا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فائِدَةٌ. واعْلَمْ أنَّ كُلَّ مَسْألَةٍ لا تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ صِدْقِ الرُّسُلِ عَلَيْها فَإنَّهُ يُمْكِنُ إثْباتُها بِالسَّمْعِ، والوَحْدانِيَّةُ لا تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ صِدْقِ الرُّسُلِ عَلَيْها، فَلا جَرَمَ يُمْكِنُ إثْباتُها بِالدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ، واعْلَمْ أنَّ مَن طَعَنَ في دَلالَةِ التَّمانُعِ فَسَرَّ الآيَةَ بِأنَّ المُرادَ لَوْ كانَ في السَّماءِ والأرْضِ آلِهَةٌ تَقُولُ بِإلَهِيَّتِها عَبَدَةُ الأوْثانِ لَزِمَ فَسادُ العالَمِ لِأنَّها جَماداتٌ لا تَقْدِرُ عَلى تَدْبِيرِ العالَمِ فَيَلْزَمُ فَسادُ العالَمِ، قالُوا وهَذا أوْلى لِأنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم قَوْلَهُ: ﴿أمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هم يُنْشِرُونَ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلالَةَ عَلى فَسادِ هَذا فَوَجَبَ أنْ يَخْتَصَّ الدَّلِيلُ بِهِ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا أقامَ الدَّلالَةَ القاطِعَةَ عَلى التَّوْحِيدِ قالَ بَعْدَهُ: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ أيْ هو مُنَزَّهٌ لِأجْلِ هَذِهِ الأدِلَّةِ عَنْ وصْفِهِمْ بِأنَّ مَعَهُ إلَهًا، وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الِاشْتِغالَ بِالتَّسْبِيحِ إنَّما يَنْفَعُ بَعْدَ إقامَةِ الدَّلالَةِ عَلى كَوْنِهِ تَعالى مُنَزَّهًا وعَلى أنَّ طَرِيقَةَ التَّقْلِيدِ طَرِيقَةٌ مَهْجُورَةٌ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: أيُّ فائِدَةٍ لِقَوْلِهِ: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ ولِمَ لَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: ٩١] ؟ وجَوابُهُ أنَّ هَذِهِ المُناظَرَةَ إنَّما وقَعَتْ مَعَ عَبْدَةِ الأصْنامِ، إلّا أنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى يَعُمُّ جَمِيعَ المُخالِفِينَ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَعْدَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ العامِّ نَبَّهَ (p-١٣٤)عَلى نُكْتَةٍ خاصَّةٍ بِعَبَدَةِ الأصْنامِ، وهي أنَّهُ كَيْفَ يَجُوزُ لِلْعاقِلِ أنْ يَجْعَلَ الجَمادَ الَّذِي لا يَعْقِلُ ولا يُحِسُّ شَرِيكًا في الإلَهِيَّةِ لِخالِقِ العَرْشِ العَظِيمِ ومُوجِدِ السَّماواتِ والأرَضِينَ ومُدَبِّرِ الخَلائِقِ مِنَ النُّورِ والظُّلْمَةِ واللَّوْحِ والقَلَمِ والذّاتِ والصِّفاتِ والجَمادِ والنَّباتِ وأنْواعِ الحَيَواناتِ أجْمَعِينَ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهم يُسْألُونَ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلى بَحْثَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُسْألُ عَنْ شَيْءٍ مِن أفْعالِهِ ولا يُقالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ. والثّانِي: أنَّ الخَلائِقَ مَسْؤُولُونَ عَنْ أفْعالِهِمْ. أمّا البَحْثُ الأوَّلُ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: وجْهُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها أنَّ عُمْدَةَ مَن أثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا لَيْسَتْ إلّا طَلَبَ اللَّمِّيَّةِ في أفْعالِ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ لِأنَّ الثَّنَوِيَّةَ والمَجُوسَ وهُمُ الَّذِينَ أثْبَتُوا الشَّرِيكَ لِلَّهِ تَعالى قالُوا: رَأيْنا في العالَمِ خَيْرًا وشَرًّا ولَذَّةً وألَمًا وحَياةً ومَوْتًا وصِحَّةً وسَقَمًا وغِنًى وفَقْرًا، وفاعِلُ الخَيْرِ خَيِّرٌ وفاعِلٌ الشَّرِّ شِرِّيرٌ، ويَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ الواحِدُ خَيِّرًا وشِرِّيرًا مَعًا، فَلا بُدَّ مِن فاعِلَيْنِ لِيَكُونَ أحَدُهُما فاعِلًا لِلْخَيْرِ والآخَرُ فاعِلًا لِلشَّرِّ. ويَرْجِعُ حاصِلُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ إلى أنَّ مُدَبِّرَ العالَمِ لَوْ كانَ واحِدًا لَما خَصَّ هَذا بِالحَياةِ والصِّحَّةِ والغِنى، وخَصَّ ذَلِكَ بِالمَوْتِ والألَمِ والفَقْرِ، فَيَرْجِعُ حاصِلُهُ إلى طَلَبِ اللَّمِّيَّةِ في أفْعالِ اللَّهِ تَعالى، فَلَمّا كانَ مَدارُ أمْرِ القائِلِينَ بِالشَّرِيكِ عَلى طَلَبِ اللَّمِّيَّةِ لا جَرَمَ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بَعْدَ أنْ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلى التَّوْحِيدِ ذَكَرَ ما هو النُّكْتَةُ الأصْلِيَّةُ في الجَوابِ عَنْ شُبْهَةِ القائِلِينَ بِالشَّرِيكِ؛ لِأنَّ التَّرْتِيبَ الجَيِّدَ في المُناظَرَةِ أنْ يَقَعَ الِابْتِداءُ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ المُثْبِتِ لِلْمَطْلُوبِ ثُمَّ يَذْكُرَ بَعْدَهُ ما هو الجَوابُ عَنْ شُبْهَةِ الخَصْمِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في الدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ﴾ أمّا أهْلُ السُّنَّةِ فَإنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ لَوْ كانَ كُلُّ شَيْءٍ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ لَكانَتْ عِلِّيَّةُ تِلْكَ العِلَّةِ مُعَلَّلَةً بِعِلَّةٍ أُخْرى ويَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ فَلا بُدَّ في قَطْعِ التَّسَلْسُلِ مِنَ الِانْتِهاءِ إلى ما يَكُونُ غَنِيًّا عَنِ العِلَّةِ وأوْلى الأشْياءِ بِذَلِكَ ذاتُ اللَّهِ تَعالى وصِفاتُهُ، وكَما أنَّ ذاتَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الِافْتِقارِ إلى المُؤَثِّرِ والعِلَّةِ، وصِفاتَهُ مُبَرَّأةٌ عَنِ الِافْتِقارِ إلى المُبْدِعِ والمُخَصِّصِ فَكَذا فاعِلِيَّتُهُ يَجِبُ أنْ تَكُونَ مُقَدَّسَةً عَنِ الِاسْتِنادِ إلى المُوجِبِ والمُؤَثِّرِ. وثانِيها: أنَّ فاعِلِيَّتَهُ لَوْ كانَتْ مُعَلَّلَةً بِعِلَّةٍ لَكانَتْ تِلْكَ العِلَّةُ إمّا أنْ تَكُونَ واجِبَةً أوْ مُمْكِنَةً فَإنْ كانَتْ واجِبَةً لَزِمَ مِن وُجُوبِها وُجُوبُ كَوْنِهِ فاعِلًا، وحِينَئِذٍ يَكُونُ مُوجِبًا بِالذّاتِ لا فاعِلًا بِالِاخْتِيارِ، وإنْ كانَتْ مُمْكِنَةً كانَتْ تِلْكَ العِلَّةُ فِعْلًا لِلَّهِ تَعالى أيْضًا فَتَفْتَقِرُ فاعِلِيَّتُهُ لِتِلْكَ العِلَّةِ إلى عِلَّةٍ أُخْرى ولَزِمَ التَّسَلْسُلُ وهو مُحالٌ. وثالِثُها: أنَّ عِلَّةَ فاعِلِيَّةِ اللَّهِ تَعالى لِلْعالَمِ إنْ كانَتْ قَدِيمَةً لَزِمَ أنْ تَكُونَ فاعِلِيَّتُهُ لِلْعالَمِ قَدِيمَةً فَيَلْزَمُ قَدِمُ العالَمِ، وإنْ كانَتْ مُحْدَثَةً افْتَقَرَ إلى عِلَّةٍ أُخْرى ولَزِمَ التَّسَلْسُلُ. ورابِعُها: أنَّ مَن فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ فَإمّا أنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِن تَحْصِيلِ ذَلِكَ الغَرَضِ بِدُونِ تِلْكَ الواسِطَةِ أوْ لا يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنهُ. فَإنْ كانَ مُتَمَكِّنًا مِنهُ كانَ تَوَسُّطُ تِلْكَ الواسِطَةِ عَبَثًا، وإنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنهُ كانَ عاجِزًا والعَجْزُ عَلى اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، أمّا العَجْزُ عَلَيْنا فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَلِذَلِكَ كانَتْ أفْعالُنا مُعَلَّلَةً بِالأغْراضِ، وكُلُّ ذَلِكَ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ. وخامِسُها: أنَّهُ لَوْ كانَ فِعْلُهُ مُعَلَّلًا بِغَرَضٍ لَكانَ ذَلِكَ الغَرَضُ إمّا أنْ يَكُونَ عائِدًا إلى اللَّهِ تَعالى أوْ إلى العِبادِ والأوَّلُ مُحالٌ لِأنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّفْعِ والضُّرِّ، وإذا بَطَلَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ أنَّ الغَرَضَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ عائِدًا إلى العِبادِ، ولا غَرَضَ لِلْعِبادِ إلّا حُصُولُ اللَّذّاتِ وعَدَمُ حُصُولِ الآلامِ، واللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى تَحْصِيلِها ابْتِداءً مِن غَيْرِ شَيْءٍ مِنَ الوَسائِطِ. وإذا كانَ كَذَلِكَ اسْتَحالَ أنْ يَفْعَلَ شَيْئًا لِأجْلِ (p-١٣٥)شَيْءٍ. وسادِسُها: هو أنَّهُ لَوْ فَعَلَ فِعْلًا لِغَرَضٍ لَكانَ وُجُودُ ذَلِكَ الغَرَضِ وعَدَمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ إمّا أنْ يَكُونَ عَلى السَّواءِ أوْ لا يَكُونَ، فَإنْ كانَ عَلى السَّواءِ اسْتَحالَ أنْ يَكُونَ غَرَضًا، وإنْ لَمْ يَكُنْ عَلى السَّواءِ لَزِمَ كَوْنُهُ تَعالى ناقِصًا بِذاتِهِ كامِلًا بِغَيْرِهِ وذَلِكَ مُحالٌ، فَإنْ قُلْتَ: وُجُودُ ذَلِكَ الغَرَضِ وعَدَمُهُ وإنْ كانَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَلى السَّواءِ، أمّا بِالنِّسْبَةِ إلى العِبادِ فالوُجُودُ أوْلى مِنَ العَدَمِ، قُلْنا: تَحْصِيلُ تِلْكَ الأوْلَوِيَّةِ لِلْعَبْدِ وعَدَمُ تَحْصِيلِها لَهُ إمّا أنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَلى السَّوِيَّةِ أوْ لا عَلى السَّوِيَّةِ، ويَعُودُ التَّقْسِيمُ الأوَّلُ. وسابِعُها: وهو أنَّ المَوْجُودَ إمّا هو سُبْحانَهُ أوْ مُلْكُهُ، ومُلْكُهُ ومَن تَصَرَّفَ في مُلْكِ نَفْسِهِ لا يُقالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ. وثامِنُها: وهو أنَّ مَن قالَ لِغَيْرِهِ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ ؟ فَهَذا السُّؤالُ إنَّما يَحْسُنُ حَيْثُ يَحْتَمِلُ أنْ يَقْدِرَ السّائِلُ عَلى مَنعِ المَسْؤُولِ مِنهُ عَنْ فِعْلِهِ وذَلِكَ مِنَ العَبْدِ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، فَإنَّهُ لَوْ فَعَلَ أيَّ فِعْلٍ شاءَ فالعَبْدُ كَيْفَ يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ ؟ إمّا بِأنْ يُهَدِّدَهُ بِالعِقابِ والإيلامِ وذَلِكَ عَلى اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، أوْ بِأنْ يُهَدِّدَهُ بِاسْتِحْقاقِ الذَّمِّ والخُرُوجِ عَنِ الحِكْمَةِ والِاتِّصافِ بِالسَّفاهَةِ عَلى ما يَقُولُهُ المُعْتَزِلَةُ وذَلِكَ أيْضًا مُحالٌ، لِأنَّ اسْتِحْقاقَهُ لِلْمَدْحِ واتِّصافَهُ بِصِفاتِ الحِكْمَةِ والجَلالِ أُمُورٌ ذاتِيَّةٌ لَهُ، وما ثَبَتَ لِلشَّيْءِ لِذاتِهِ يَسْتَحِيلُ أنْ يَتَبَدَّلَ لِأجْلِ تَبَدُّلِ الصِّفاتِ العَرَضِيَّةِ الخارِجِيَّةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ لِلَّهِ في أفْعالِهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذا الفِعْلَ ؟ فَإنَّ كُلَّ شَيْءٍ صُنْعُهُ ولا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ، وأمّا المُعْتَزِلَةُ فَإنَّهم سَلَّمُوا أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ لِلَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذا الفِعْلَ ولَكِنَّهم بَنَوْا ذَلِكَ عَلى أصْلٍ آخَرَ، وهو أنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِقُبْحِ القَبائِحِ، وعالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْها، ومَن كانَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَفْعَلَ القَبِيحَ، وإذا عَرَفْنا ذَلِكَ عَرَفْنا إجْمالًا أنَّ كُلَّ ما يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعالى فَهو حِكْمَةٌ وصَوابٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِلْعَبْدِ أنْ يَقُولَ لِلَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذا.
* * *
أمّا البَحْثُ الثّانِي: وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهم يُسْألُونَ﴾ فَهَذا يَدُلُّ عَلى كَوْنِ المُكَلَّفِينَ مَسْؤُولِينَ عَنْ أفْعالِهِمْ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنَّ الكَلامَ في هَذا السُّؤالِ إمّا في الإمْكانِ العَقْلِيِّ أوْ في الوُقُوعِ السَّمْعِيِّ، أمّا الإمْكانُ العَقْلِيُّ فالخِلافُ فِيهِ مَعَ مُنْكِرِي التَّكالِيفِ، واحْتَجُّوا عَلى قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ: أحَدُها: قالُوا: التَّكْلِيفُ إمّا أنْ يَتَوَجَّهَ عَلى العَبْدِ حالَ اسْتِواءِ داعِيَتِهِ إلى الفِعْلِ والتَّرْكِ، أوْ حالَ رُجْحانِ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ، والأوَّلُ مُحالٌ لِأنَّ حالَ الِاسْتِواءِ يَمْتَنِعُ التَّرْجِيحُ، وحالَ امْتِناعِ التَّرْجِيحِ يَكُونُ التَّكْلِيفُ بِالتَّرْجِيحِ تَكْلِيفًا بِالمُحالِ، والثّانِي مُحالٌ لِأنَّ حالَ الرُّجْحانِ يَكُونُ الرّاجِحُ واجِبَ الوُقُوعِ والمَرْجُوحُ مُمْتَنِعَ الوُقُوعِ، والتَّكْلِيفُ بِإيقاعِ ما يَكُونُ واجِبَ الوُقُوعِ عَبَثٌ، وبِإيقاعِ ما هو مُمْتَنِعُ الوُقُوعِ تَكْلِيفٌ بِما لا يُطاقُ. وثانِيها: قالُوا: كُلُّ ما عَلِمَ اللَّهُ وُقُوعَهُ فَهو واجِبُ الوُقُوعِ فَيَكُونُ التَّكْلِيفُ بِهِ عَبَثًا، وكُلُّ ما عَلِمَ اللَّهُ تَعالى عَدَمَهُ كانَ مُمْتَنِعَ الوُقُوعِ، فَيَكُونُ التَّكْلِيفُ بِهِ تَكْلِيفًا بِما لا يُطاقُ. وثالِثُها: قالُوا: سُؤالُ العَبْدِ إمّا أنْ يَكُونَ لِفائِدَةٍ أوْ لا لِفائِدَةٍ، فَإنْ كانَ لِفائِدَةٍ فَتِلْكَ الفائِدَةُ إنْ عادَتْ إلى اللَّهِ تَعالى كانَ مُحْتاجًا وهو مُحالٌ، وإنْ عادَتْ إلى العَبْدِ فَهو مُحالٌ، لِأنَّ سُؤالَهُ لَمّا كانَ سَبَبًا لِتَوْجِيهِ العِقابِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ هَذا نَفْعًا عائِدًا إلى العَبْدِ بَلْ ضَرَرًا عائِدًا إلَيْهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ في السُّؤالِ فائِدَةٌ كانَ عَبَثًا وهو غَيْرُ جائِزٍ عَلى الحَكِيمِ، بَلْ كانَ إضْرارًا وهو غَيْرُ جائِزٍ عَلى الرَّحِيمِ. والجَوابُ عَنْها مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ غَرَضَكم مِن إيرادِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ النّافِيَةِ لِلتَّكْلِيفِ أنْ تُلْزِمُونا نَفْيَ التَّكْلِيفِ فَكَأنَّكم تُكَلِّفُونا بِنَفْيِ التَّكْلِيفِ وهو مُتَناقِضٌ. والثّانِي: وهو أنَّ مَدارَ كَلامِكم في هَذِهِ الشُّبُهاتِ عَلى حَرْفٍ واحِدٍ وهو أنَّ التَّكالِيفَ كُلَّها تَكالِيفٌ بِما لا يُطاقُ فَلا يَجُوزُ مِنَ الحَكِيمِ أنْ يُوجِبَها عَلى العِبادِ فَيَرْجِعُ حاصِلُ هَذِهِ الشُّبُهاتِ إلى أنَّهُ يُقالُ لَهُ تَعالى: لِمَ (p-١٣٦)كَلَّفْتَ عِبادَكَ، إلّا أنَّ قَدْ بَيَّنّا أنَّهُ سُبْحانَهُ: ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهم يُسْألُونَ﴾ فَظَهَرَ بِهَذا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ﴾ كالأصْلِ والقاعِدَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿وهم يُسْألُونَ﴾ فَتَأمَّلْ في هَذِهِ الدَّقائِقِ العَجِيبَةِ لِتَقِفَ عَلى طَرَفٍ مِن أسْرارِ عِلْمِ القُرْآنِ، وأمّا الوُقُوعُ السَّمْعِيُّ فَلِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿وهم يُسْألُونَ﴾ وإنْ كانَ مُتَأكَّدًا بِقَوْلِهِ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ [الحِجْرِ: ٩٢] وبِقَوْلِهِ: ﴿وقِفُوهم إنَّهم مَسْئُولُونَ﴾ [الصّافّاتِ: ٢٤] إلّا أنَّهُ يُناقِضُهُ قَوْلُهُ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ ولا جانٌّ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٣٩] والجَوابُ: أنَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ وفِيهِ مَقاماتٌ فَيَصْرِفُ كُلَّ واحِدٍ مِنَ السَّلْبِ والإيجابِ إلى مَقامٍ آخَرَ دَفْعًا لِلتَّناقُضِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّهُ تَعالى لَوْ كانَ هو الخالِقُ لِلْحَسَنِ والقَبِيحِ لَوَجَبَ أنْ يُسْألَ عَمّا يَفْعَلُ، بَلْ كانَ يُذَمُّ بِما حَقُّهُ الذَّمُّ، كَما يُحْمَدُ بِما حَقُّهُ المَدْحُ. وثانِيها: أنَّهُ كانَ يَجِبُ أنْ لا يُسْألَ عَنِ الأُمُورِ إذا كانَ لا فاعِلَ سِواهُ. وثالِثُها: أنَّهُ كانَ لا يَجُوزُ أنْ يُسْألُوا عَنْ عَمَلِهِمْ إذْ لا عَمَلَ لَهم. ورابِعُها: أنَّ أعْمالَهم لا يُمْكِنُهم أنْ يَعْدِلُوا عَنْها مِن حَيْثُ خَلَقَها وأوْجَدَها فِيهِمْ. وخامِسُها: أنَّهُ تَعالى صَرَّحَ في كَثِيرٍ مِنَ المَواضِعِ بِأنَّهُ يَقْبَلُ حُجَّةَ العِبادِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النِّساءِ: ١٦٥] وهَذا يَقْتَضِي أنَّ لَهم عَلَيْهِ الحُجَّةَ قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ، وقالَ: ﴿ولَوْ أنّا أهْلَكْناهم بِعَذابٍ مِن قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أرْسَلْتَ إلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِن قَبْلِ أنْ نَذِلَّ ونَخْزى﴾ [طه: ١٣٤] ونَظائِرُ هَذِهِ الآياتِ كَثِيرَةٌ وكُلُّها تَدُلُّ عَلى أنَّ حُجَّةَ العَبْدِ مُتَوَجِّهَةٌ عَلى اللَّهِ تَعالى. وسادِسُها: قالَ ثُمامَةُ: إذا وقَفَ العَبْدُ يَوْمَ القِيامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعالى: ما حَمَلَكَ عَلى مَعْصِيَتِي ؟ فَيَقُولُ عَلى مَذْهَبِ الجَبْرِ: يا رَبِّ إنَّكَ خَلَقْتَنِي كافِرًا وأمَرْتَنِي بِما لا أقْدِرُ عَلَيْهِ وحُلْتَ بَيْنِي وبَيْنَهُ. ولا شَكَّ أنَّهُ عَلى مَذْهَبِ الجَبْرِ يَكُونُ صادِقًا، وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ [المائِدَةِ: ١١٩] فَوَجَبَ أنْ يَنْفَعَهُ هَذا الكَلامُ فَقِيلَ لَهُ: ومَن يَدَعُهُ يَقُولُ هَذا الكَلامَ أوْ يَحْتَجُّ ؟ فَقالَ ثُمامَةُ: ألَيْسَ إذا مَنَعَهُ اللَّهُ الكَلامَ والحُجَّةَ فَقَدْ عَلِمَ أنَّهُ مَنَعَهُ مِمّا لَوْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنهُ لانْقَطَعَ في يَدِهِ، وهَذا نِهايَةُ الِانْقِطاعِ. والجَوابُ عَنْ هَذِهِ الوُجُوهِ: أنَّها مُعارَضَةٌ بِمَسْألَةِ الدّاعِي ومَسْألَةِ العِلْمِ ثُمَّ بِالوُجُوهِ الثَّمانِيَةِ الَّتِي بَيَّنّا فِيها أنَّهُ يَسْتَحِيلُ طَلَبُ لَمِيَّةِ أفْعالِ اللَّهِ تَعالى وأحْكامِهِ.
{"ayahs_start":22,"ayahs":["لَوۡ كَانَ فِیهِمَاۤ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا یَصِفُونَ","لَا یُسۡـَٔلُ عَمَّا یَفۡعَلُ وَهُمۡ یُسۡـَٔلُونَ"],"ayah":"لَوۡ كَانَ فِیهِمَاۤ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا یَصِفُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق