الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ ومَن عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ولا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في تَعَلُّقِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها وجْهانِ. الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا نَفى اللَّعِبَ عَنْ نَفْسِهِ، ونَفِيُ اللَّعِبِ لا يَصِحُّ إلّا بِنَفْيِ الحاجَةِ، ونَفْيُ الحاجَةِ لا يَصِحُّ إلّا بِالقُدْرَةِ التّامَّةِ، لا جَرَمَ عَقَّبَ تِلْكَ الآيَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ لِدَلالَةِ ذَلِكَ عَلى كَمالِ المُلْكِ والقُدْرَةِ. الثّانِي: وهو الأقْرَبُ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى كَلامَ الطّاعِنِينَ في النُّبُوّاتِ وأجابَ عَنْها وبَيَّنَ أنَّ غَرَضَهم مِن تِلْكَ المَطاعِنِ التَّمَرُّدُ وعَدَمُ الِانْقِيادِ بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنْ طاعَتِهِمْ؛ لِأنَّهُ هو المالِكُ لِجَمِيعِ المُحْدَثاتِ والمَخْلُوقاتِ، ولِأجْلِ أنَّ المَلائِكَةَ مَعَ جَلالَتِهِمْ مُطِيعُونَ لَهُ خائِفُونَ مِنهُ فالبَشَرُ مَعَ نِهايَةِ الضَّعْفِ أوْلى أنْ يُطِيعُوهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ولَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ مَعْناهُ أنَّ كُلَّ المُكَلَّفِينَ في السَّماءِ والأرْضِ فَهم عَبِيدُهُ وهو الخالِقُ لَهم والمُنْعِمُ عَلَيْهِمْ بِأصْنافِ النِّعَمِ، فَيَجِبُ عَلى الكُلِّ طاعَتُهُ والِانْقِيادُ لِحُكْمِهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: دَلالَةُ قَوْلِهِ: ﴿ومَن عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ عَلى أنَّ المَلَكَ أفْضَلُ مِنَ البَشَرِ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ قَدْ تَقَدَّمَ بَيانُها في سُورَةِ البَقَرَةِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ومَن عِنْدَهُ﴾ المُرادُ بِهِمُ المَلائِكَةُ بِإجْماعِ الأُمَّةِ ولِأنَّهُ تَعالى وصَفَهم بِأنَّهم: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ وهَذا لا يَلِيقُ بِالبَشَرِ، وهَذِهِ العِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ الشَّرَفِ والرُّتْبَةِ لا عِنْدِيَّةُ المَكانِ والجِهَةِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: المَلائِكَةُ مَعَ كَمالِ شَرَفِهِمْ ونِهايَةِ جَلالَتِهِمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ طاعَتِهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالبَشَرِ الضَّعِيفِ التَّمَرُّدُ عَنْ طاعَتِهِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: ﴿ولا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ ولا يَتْعَبُونَ ولا يَعْيَوْنَ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: فَإنْ قُلْتَ الِاسْتِحْسارُ مُبالَغَةٌ في الحُسُورِ فَكانَ الأبْلَغُ في وصْفِهِمْ أنْ يَنْفِيَ عَنْهم أدْنى الحُسُورِ، قُلْتُ في الِاسْتِحْسارِ بَيانُ أنَّ ما هم فِيهِ يُوجِبُ غايَةَ الحُسُورِ وأقْصاهُ وأنَّهم أحِقّاءُ لِتِلْكَ العِباداتِ الشّاقَّةِ بِأنْ يَسْتَحْسِرُوا فِيما يَفْعَلُونَ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ فالمَعْنى أنَّ تَسْبِيحَهم مُتَّصِلٌ دائِمٌ في جَمِيعِ أوْقاتِهِمْ لا يَتَخَلَّلُهُ فَتْرَةٌ بِفَراغٍ أوْ بِشُغْلٍ آخَرَ، رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ قالَ: قُلْتُ لِكَعْبٍ: أرَأيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعالى: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا﴾ [فاطِرٍ: ١] أفَلا تَكُونُ تِلْكَ الرِّسالَةُ مانِعَةً لَهم عَنْ هَذا التَّسْبِيحِ، وأيْضًا قالَ: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ والمَلائِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ١٦١] (p-١٢٩)فَكَيْفَ يَشْتَغِلُونَ بِاللَّعْنِ حالَ اشْتِغالِهِمْ بِالتَّسْبِيحِ ؟ أجابَ كَعْبُ الأحْبارِ فَقالَ: التَّسْبِيحُ لَهم كالتَّنَفُّسِ لَنا فَكَما أنَّ اشْتِغالَنا بِالتَّنَفُّسِ لا يَمْنَعُنا مِنَ الكَلامِ فَكَذا اشْتِغالُهم بِالتَّسْبِيحِ لا يَمْنَعُهم مِن سائِرِ الأعْمالِ، فَإنْ قِيلَ هَذا القِياسُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأنَّ الِاشْتِغالَ بِالتَّنَفُّسِ إنَّما لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الكَلامِ، لِأنَّ آلَةَ التَّنَفُّسِ غَيْرُ آلَةِ الكَلامِ، أمّا التَّسْبِيحُ واللَّعْنُ فَهُما مِن جِنْسِ الكَلامِ فاجْتِماعُهُما مُحالٌ، والجَوابُ: أيُّ اسْتِبْعادٍ في أنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعالى لَهم ألْسِنَةً كَثِيرَةً بِبَعْضِها يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وبِبَعْضِها يَلْعَنُونَ أعْداءَ اللَّهِ، أوْ يُقالُ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿لا يَفْتُرُونَ﴾ أنَّهم لا يَفْتُرُونَ عَنِ العَزْمِ عَلى أدائِهِ في أوْقاتِهِ اللّائِقَةِ بِهِ كَما يُقالُ: إنَّ فُلانًا يُواظِبُ عَلى الجَماعاتِ لا يَفْتُرُ عَنْها لا يُرادُ بِهِ أنَّهُ أبَدًا مُشْتَغِلٌ بِها بَلْ يُرادُ بِهِ أنَّهُ مُواظِبٌ عَلى العَزْمِ عَلى أدائِها في أوْقاتِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب