الباحث القرآني

(p-١٢٦)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَمْ قَصَمْنا مِن قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وأنْشَأْنا بَعْدَها قَوْمًا آخَرِينَ﴾ ﴿فَلَمّا أحَسُّوا بَأْسَنا إذا هم مِنها يَرْكُضُونَ﴾ ﴿لا تَرْكُضُوا وارْجِعُوا إلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ومَساكِنِكم لَعَلَّكم تُسْألُونَ﴾ ﴿قالُوا ياوَيْلَنا إنّا كُنّا ظالِمِينَ﴾ ﴿فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهم حَتّى جَعَلْناهم حَصِيدًا خامِدِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْهم تِلْكَ الِاعْتِراضاتِ وكانَتْ تِلْكَ الِاعْتِراضاتُ ظاهِرَةَ السُّقُوطِ لِأنَّ شَرائِطَ الإعْجازِ لَمّا تَمَّتْ في القُرْآنِ ظَهَرَ حِينَئِذٍ لِكُلِّ عاقِلٍ كَوْنُهُ مُعْجِزًا، وعِنْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ أنَّ اشْتِغالَهم بِإيرادِ تِلْكَ الِاعْتِراضاتِ كانَ لِأجْلِ حُبِّ الدُّنْيا وحُبِّ الرِّياسَةِ فِيها فَبالَغَ سُبْحانَهُ في زَجْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿وكَمْ قَصَمْنا مِن قَرْيَةٍ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ القَصْمُ أفْظَعُ الكَسْرِ وهو الكَسْرُ الَّذِي يُبَيِّنُ تَلاؤُمَ الأجْزاءِ بِخِلافِ القَصْمِ، وذَكَرَ القَرْيَةَ وأنَّها ظالِمَةٌ وأرادَ أهْلَها تَوَسُّعًا لِدَلالَةِ العَقْلِ عَلى أنَّها لا تَكُونُ ظالِمَةً ولا مُكَلَّفَةً، ولِدَلالَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْشَأْنا بَعْدَها قَوْمًا آخَرِينَ﴾ فالمَعْنى أهْلَكْنا قَوْمًا وأنْشَأْنا قَوْمًا آخَرِينَ وقالَ: ﴿فَلَمّا أحَسُّوا بَأْسَنا﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿قالُوا ياوَيْلَنا إنّا كُنّا ظالِمِينَ﴾ وكُلُّ ذَلِكَ لا يَلِيقُ إلّا بِأهْلِها الَّذِينَ كُلِّفُوا بِتَصْدِيقِ الرُّسُلِ فَكَذَّبُوهم ولَوْلا هَذِهِ الدَّلائِلُ لَما جازَ مِنهُ سُبْحانَهُ ذِكْرُ المَجازِ لِأنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ مُوهِمًا لِلْكَذِبِ، واخْتَلَفُوا في هَذا الإهْلاكِ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المُرادُ مِنهُ القَتْلُ بِالسُّيُوفِ، والمُرادُ بِالقَرْيَةِ حَضُورُ، وهي وسَحُولُ قَرْيَتانِ بِاليَمَنِ يُنْسَبُ إلَيْهِما الثِّيابُ. وفي الحَدِيثِ: ”«كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في ثَوْبَيْنِ سَحُولِيَّيْنِ» “ ورُوِيَ: ”حَضُورِيَّيْنِ“، ”بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِمْ نَبِيًّا فَقَتَلُوهُ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ كَما سَلَّطَهُ عَلى أهْلِ بَيْتِ المُقَدَّسِ فاسْتَأْصَلَهم“ ورُوِيَ: ”أنَّهُ لَمّا أخَذَتْهُمُ السُّيُوفُ نادى مُنادٍ مِنَ السَّماءِ يا لِثاراتِ الأنْبِياءِ فَنَدِمُوا واعْتَرَفُوا بِالخَطَأِ“، وقالَ الحَسَنُ: المُرادُ عَذابُ الِاسْتِئْصالِ، واعْلَمْ أنَّ هَذا أقْرَبُ لِأنَّ إضافَةَ ذَلِكَ إلى اللَّهِ تَعالى أقْرَبُ مِن إضافَتِهِ إلى القاتِلِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلى عَذابِ القَتْلِ فَما الدَّلِيلُ عَلى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ ولَعَلَّ ابْنَ عَبّاسٍ ذَكَرَ حَضُورَ بِأنَّها إحْدى القُرى الَّتِي أرادَها اللَّهُ تَعالى بِهَذِهِ الآيَةِ، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا أحَسُّوا بَأْسَنا إذا هم مِنها يَرْكُضُونَ﴾ فالمَعْنى لَمّا عَلِمُوا شِدَّةَ عَذابِنا وبَطْشِنا عِلْمَ حِسٍّ ومُشاهَدَةٍ رَكَضُوا في دِيارِهِمْ، والرَّكْضُ ضَرْبُ الدّابَّةِ بِالرِّجْلِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ [ص: ٤٢] فَيَجُوزُ أنْ يَكُونُوا رَكِبُوا دَوابَّهم يَرْكُضُونَها هارِبِينَ مُنْهَزِمِينَ مِن قَرْيَتِهِمْ لَمّا أدْرَكَتْهم مُقَدِّمَةُ العَذابِ، ويَجُوزُ أنْ يُشَبَّهُوا في سُرْعَةِ عَدْوِهِمْ عَلى أرْجُلِهِمْ بِالرّاكِبِينَ الرّاكِضِينَ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿لا تَرْكُضُوا﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: القَوْلُ مَحْذُوفٌ، فَإنْ قُلْتَ: مَنِ القائِلُ ؟ قُلْنا: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ بَعْضُ المَلائِكَةِ ومِن ثَمَّ مِنَ المُؤْمِنِينَ، أوْ يَكُونُوا خُلَقاءَ بِأنْ يُقالَ لَهم ذَلِكَ وإنْ لَمْ يُقَلْ، أوْ يَقُولَهُ رَبُّ العِزَّةِ ويُسْمِعَهُ مَلائِكَتَهُ لِيَنْفَعَهم في دِينِهِمْ أوْ يُلْهِمَهم ذَلِكَ فَيُحَدِّثُونَ بِهِ نُفُوسَهم، أمّا قَوْلُهُ: ﴿وارْجِعُوا إلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ومَساكِنِكُمْ﴾ أيْ مِنَ العَيْشِ والرَّفاهِيَةِ والحالِ النّاعِمَةِ، والإتْرافُ إبْطارُ النِّعْمَةِ وهي التَّرَفُّهُ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَعَلَّكم تُسْألُونَ﴾ فَهو تَهَكُّمٌ بِهِمْ وتَوْبِيخٌ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أيِ ارْجِعُوا إلى نِعَمِكم ومَساكِنِكم لَعَلَّكم تُسْألُونَ غَدًا عَمّا جَرى عَلَيْكم ونَزَلَ بِأمْوالِكم ومَساكِنِكم فَتُجِيبُوا السّائِلَ عَنْ عِلْمٍ ومُشاهَدَةٍ. وثانِيها: ارْجِعُوا كَما كُنْتُمْ في مَجالِسِكم حَتّى تَسْألَكم عَبِيدُكم ومَن يَنْفُذُ فِيهِ أمْرُكم ونَهْيُكم ويَقُولُ لَكم: بِمَ تَأْمُرُونَ وماذا تَرْسُمُونَ كَعادَةِ المَخْدُومِينَ. وثالِثُها: تَسْألُكُمُ النّاسُ في أنْدِيَتِكم لِتُعاوِنُوهم في نَوازِلِ الخُطُوبِ، ويَسْتَشِيرُونَكم في المُهِمّاتِ، ويَسْتَعِينُونَ بِآرائِكم. ورابِعُها: يَسْألُكُمُ الوافِدُونَ عَلَيْكم والطّامِعُونَ فِيكم إمّا لِأنَّهم كانُوا أسْخِياءَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم رِئاءَ النّاسِ وطَلَبَ الثَّناءِ، أوْ كانُوا بُخَلاءَ فَقِيلَ لَهم ذَلِكَ تَهَكُّمًا إلى تَهَكُّمٍ وتَوْبِيخًا إلى تَوْبِيخٍ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ﴾ فَقالَ صاحِبُ الكَشّافِ: تِلْكَ إشارَةٌ إلى ﴿ياوَيْلَنا﴾ لِأنَّها دَعْوى كَأنَّهُ قِيلَ فَما زالَتْ تِلْكَ الدَّعْوى دَعْواهم، (p-١٢٧)والدَّعْوى بِمَعْنى الدَّعْوَةِ قالَ تَعالى: ﴿وآخِرُ دَعْواهم أنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [يُونُسَ: ١٠] فَإنْ قُلْتَ: لِمَ سُمِّيَتْ دَعْوى ؟ قُلْتُ: لِأنَّهم كانُوا دَعَوْا بِالوَيْلِ: ﴿قالُوا ياوَيْلَنا﴾ أيْ يا ويْلُ احْضُرْ فَهَذا وقْتُكُ، وتِلْكَ مَرْفُوعٌ أوْ مَنصُوبٌ اسْمًا أوْ خَبَرًا وكَذَلِكَ: ﴿دَعْواهُمْ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: لَمْ يَزالُوا يُكَرِّرُونَ هَذِهِ الكَلِمَةَ فَلَمْ يَنْفَعْهم ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهم إيمانُهم لَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ [غافِرٍ: ٨٥] أمّا قَوْلُهُ: ﴿حَتّى جَعَلْناهم حَصِيدًا خامِدِينَ﴾ فالحَصِيدُ الزَّرْعُ المَحْصُودُ أيْ جَعَلْناهم مِثْلَ الحَصِيدِ، شَبَّهَهم بِهِ في اسْتِئْصالِهِمْ، كَما تَقُولُ: جَعَلْناهم رَمادًا أيْ مِثْلَ الرَّمادِ، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَنْصِبُ جَعَلَ ثَلاثَةَ مَفاعِيلَ ؟ قُلْتُ: حُكْمُ الِاثْنَيْنِ الأخِيرَيْنِ حُكْمُ الواحِدِ والمَعْنى جَعَلْناهم جامِعِينَ لِهَذَيْنَ الوَصْفَيْنِ، والمُرادُ أنَّهم أُهْلِكُوا بِذَلِكَ العَذابِ حَتّى لَمْ يَبْقَ لَهم حِسٌّ ولا حَرَكَةٌ وجَفُّوا كَما يَجِفُّ الحَصِيدُ، وخَمَدُوا كَما تَخْمُدُ النّارُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب